الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الراديكالية العراقية : أيديولوجية الأزمة والتأزم

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 6 / 26
مواضيع وابحاث سياسية


الراديكالية العراقية الجديدة، وبالأخص في نماذجها الدينية لا تعمل في الواقع إلا على استعادة العنف المنظم للسلطة بطريقة «اجتماعية». بمعنى محاولتها توسيع مدى العنف من خلال إشراك الفئات الاجتماعية المهمشة. وهي عملية متناقضة سوف تسرع من اغترابها الشامل عن المجتمع نفسه. وذلك لأنها لا تمتلك إمكانية التأثير المادي والمعنوي الذي تمتلكه الراديكالية المتسلطة. وفي مجرى هذه العملية المتناقضة تساهم الراديكالية الدينية والدنيوية والقومية (الأقلية) في تأسيس الرؤية العقلانية والاعتدال عند مختلف الشرائح الاجتماعية. ويمكن تلمس هذه الظاهرة في نمط تفكير الناس العاديين «البسطاء» من العراقيين الذين تخلوا عباراتهم وتصوراتهم وأحكامهم وتقييمهم للأحداث والأشخاص من الدموية وشعور الانتقام والعنف والقسوة. بمعنى إننا نعثر فيها على أجنة الإدراك العادي لقيمة الاعتدال والديمومة العادية في وجود الأشياء.
إن تعمق وتوسع وترسخ الإدراك الضروري لقيم الاعتدال والعقلانية هو الاتجاه الواقعي والفعلي المضاد لمضمون الراديكالية نفسها التي تجعل من قطع العلاقة بالتاريخ والتقاليد عقيدة مقدسة. بينما يفترض المقدس هوية الثبات. وهو «فرض» تمارسه الراديكالية بحمية بالغة عبر مطابقته مع التجريب الخشن المبني على احتقار الشكوك والاعتراض. كما أنها تطابق بين فكرة الثابت المقدس مع يقينها الخاص عن أن الفعل التجريبي هو الوحيد المطلق. من هنا ارتفاع زعيقها ونعيقها وتناثر زبدها المتطاير من أفواه «الرعية» بكلمات لا تفقه حقيقة معناها. فالراديكالية بشكل عام لا تفقه المعنى في الكلمة والعبارة والحدث. والشيء الوحيد الذي تراه وتمارسه بحمية بالغة وحماسة منقطعة النظير هو جهلها المرفوع إلى مصاف «المقدس». من هنا اكتظاظ كلامها وشعرها وشعارها بكلمة «المقدس». حيث تصبح أتفه الأمور وأشدها ابتذالا «مقدسة»، ويصبح «الدفاع عن مقدساتنا» الأسلوب الهمجي لتبرير أفعالها في كل ما تجهله من مقدمات وتعتقده من غايات! وهو الأمر الذي يجعلها أكثر القوى طغيانا في تغييب المجتمع والدولة والثقافة عن فكرة «المقدس». أما المقدس الوحيد فيصبح لهوها بالعبارة وإهمالها المريع للذاكرة التاريخية. وفي هذا بالذات تكمن خطورتها الفعلية بالنسبة لمصير الأمم والدولة والثقافة.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن النفسية والذهنية الراديكالية هي التمثل النموذجي لمساعي «الحسم الشامل والجذري» في تغيير الواقع والمؤسسات والأفكار والقيم، حينذاك يتضح طبيعة أسلوبها في العلم والعمل. وهو أسلوب يؤدي في النهاية إلى تدمير تجارب الماضي وخزين الذاكرة التاريخية ومرتكزات التقاليد الكبرى والقيم والمؤسسات. بمعنى أنها لا تعمل في الواقع إلا على كسر ونثر حلقات السلسلة الفعلية للذاكرة التاريخية. مع ما يترتب عليه من تخريب التجارب الخاصة للأمم وتسخيف فكرة القانون والنظام. حينذاك تصبح قسوتها في «النظام» هو امتهان لفكرة الحق والحقوق والشرعية، مع ما يلازمه بالضرورة من تحطيم لفكرة الدولة والقانون والأخلاق والمجتمع المدني. أما الحصيلة النهاية لذلك فتقوم في تحول الراديكالية إلى قوة مدمرة لا تنتج في نهاية المطاف غير الخراب والتوغل الدائم فيه. وفي هذا التناقض الدائم والمميز للراديكالية تكمن عوامل رؤيتها المأزومة، التي تحول العقل إلى هوى، والحدس إلى هراوة.
أما في الممارسة العملية فإن المصير المحتوم للرؤية المأزومة للراديكالية يقوم في جعل منطق السلاح سلاح المنطق الوحيد! مع ما يترتب عليه من استظهار واستبطان لنفسية القوة وتقاليد التجييش والتسليح الشامل. وليس مصادفة أن تنتشر بعد سقوط السلطة الصدامية العبارة «الثورية» عن العنف و«العنف الشرعي» وما شابه ذلك من اجل تبرير نفسية وذهنية العنف نفسها.
الأمر الذي يجعل من مواجهة الراديكالية بمختلف أصنافها وأشكالها وألوانها ومستوياتها أمرا ضروريا بالنسبة لمشاريع البدائل لعقلانية. ومن الممكن تنفيذ هذه المهمة من خلال نفي منطق السلاح بسلاح المنطق المبني على فكرة الديمقراطية السياسية والثقافة المدنية وفكرة الحرية. مما يتطلب بدوره جعل الرؤية العقلانية فلسفة الاعتدال العام والسياسي منه بالأخص. فهي الضمانة التي يمكنها أن تؤسس وترسخ تقاليد الثبات الضرورية لوحدة المجتمع وتراثه. وبالتالي قطع الطريق على الراديكالية، بحيث لا يؤدي حتى ظهور مختلف أشكالها وأصنافها وأطيافها، إلا إلى ترسيخ الرؤية العقلانية وفكرة الحقوق والدولة الاجتماعية.
إن تذليل الضعف التاريخي للراديكالية السياسة العراقية كما تجسده حاليا التيارات الدينية يفترض العمل من اجل بناء الدولة الشرعية ومؤسساتها والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. فهو الأسلوب الوحيد القادر على إعادة بناء العراق بالشكل الذي يجعل من مختلف معاركه الحالية، العسكرية والإرهابية والتطرف السياسي والانغلاق والطائفية من مخلفات العالم القديم. ويستحيل تنفيذ هذه المهمة دون تذليل ما أسميته بضعف القوى الاجتماعية والسياسية العراقية، وبالأخص نفسية المؤامرة وذهنية المغامرة فيها. بمعنى الارتقاء إلى مصاف الرؤية الوطنية العراقية وترسيخها في الوسيلة العملية والنية الاجتماعية والغاية الديمقراطية والحقوقية. إذ يفترض هذا الارتقاء بدوره العمل على دمج القوى الراديكالية في المجتمع من خلال تحسين شروط وجودها الاجتماعي والاقتصادي. فهي إحدى أكثر القوى التي تعرضت للتخريب والدمار من جانب التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. ومن ثم فان المشروع الواقعي والعقلاني لتذليل الراديكالية السياسية يفترض العمل من اجل إرجاع حقوقهم المهدورة كاملة من خلال دمجهم في عملية البناء الجديدة للعراق. لاسيما وانه الأسلوب الضروري أيضا لتذليل بقايا التوتاليتارية والراديكالية وإحقاق الحق والعدالة. كما أن من الضروري استكمال هذه العملية بترجيح أولوية الرؤية السياسية والبدائل السياسية في الموقف من التيارات الراديكالية السياسية عموما. بمعنى العمل على استبدال الصراع المسلح بوسيلة الرؤية السياسية، واستبدال نية الهيمنة بنية البديل العملي للتعددية والنظام الديمقراطي، وأخيرا تأسيس فكرة النظام المدني بوصفه النموذج المعقول والمقبول لنفي جميع أنواع التوتاليتارية بغض النظر عن شكلها (ديني أو دنيوي).
فالنقص الذي تعاني منه الحركات الاجتماعية والسياسية العراقية ونموذجها الأكثر تطرفا في الحركات الراديكالية السياسية، كما هو جلي لحد الآن بعد عقدين من الزمن على سقوط الدكتاتورية الصدامية، نابع من طبيعة الخلل الذي يميز «الحالة العراقية» ككل، والتي هي بدورها النتاج «الطبيعي» لأربعة عقود من الارهاب الشامل. إلا أن ذلك لا ينفي ما سبق للمعتزلة وأن أطلقوا عليه كلمة الإرادة، بحيث توصلوا إلى الحكمة الكبيرة القائلة، بأن الإنسان إرادة. ومن ثم يتحمل بصورة كاملة مسئولية فعله على ما يستعمله من وسائل وما ينوي القيام به وما ويهدف إليه. بمعنى أن ما يقوم به هو ما يريده! بينما حقيقة الإرادة تقوم في السعي إلى ما هو معقول ومقبول بمعايير الحق والحقيقة. وهي الفكرة التي ينبغي أن تتقاسمها القوى السياسية جميعا من اجل الخروج من زمن المعارك الراديكالية السياسية إلى تاريخ البدائل العقلانية.
إن تذليل الراديكاليات السياسية والثقافية (الدينية) هو الأسلوب الأكثر واقعية لتذليل بقايا التوتاليتارية والنزعات الدكتاتورية المغروسة في أعماق الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية العراقية الحالية. كما انه الأسلوب الواقعي والضروري لبناء الهوية الوطنية العراقية الجديدة. إذ لا يمكن بناءها بوصفها مشروعا إصلاحيا شاملا وبديلا عقلانيا لتراث التخريب الشامل دون القضاء بصورة نهائية على إمكانية صعود الراديكالية إلى هرم السلطة السياسية. فهو الأسلوب الذي يقطع نفسية وذهنية «القطع الجذري» مع الأسلاف والتاريخ وتجارب الأجيال المميز للراديكالية.
فالراديكالية السياسية لا تستطيع العمل دون نفسية وذهنية «القطع الجذري» مع تاريخ الأسلاف وتجاربهم. من هنا افتقادها واحتقارها بالقدر نفسه للتاريخ. فهي تعيش في «زمن» التحدي الدائم، والمواجهة الشاملة، والقتال المستميت، والحرب التي لا هوادة فيها، والمؤامرة المثيرة لغريزتها الحية، والمغامرة الأبدية الملازمة لوجودها. وهي صفات مازالت تكشف عنها طبيعة الأحداث الدرامية الجارية في العراق ونوعية وحجم الدموية الهوجاء والهمجية الخفية والعلنية. فقد كشفت الأحداث الجارية فيه لحد الآن وعما سيتبعها أيضا من أحداث عن حقيقة تقول، بان الراديكالية السياسية والثقافية سوف تبقى لفترة طويلة نسبيا إحدى الخمائر الفاعلة في الوعي الاجتماعي والسياسي العراقي. من هنا ضرورة الإبقاء عليها كخميرة ممكنة في الحياة السياسية والاجتماعية يشترط أن لا تعطى لها إمكانية الاشتراك الفعال في بنية الدولة.
إذ تكشف هذه الأحداث الدرامية الهائلة عن طبيعة الإشكاليات التي يواجهها العراق في مجال بناء الدولة والمجتمع والثقافة. وهي إشكاليات يستحيل حلها دون منظومة متكاملة في الرؤية السياسية والاجتماعية الهادفة إلى بناء الدولة الشرعية والنظام السياسي الديمقراطي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية الإنسانية. فهو الأسلوب الوحيد القادر على أن يجعل من زمن المعارك الدموية والمؤامرات والمغامرات الصغيرة والكبيرة، العلنية والمستترة آخر معارك الراديكالية السياسية بشقيها الديني والدنيوي. بمعنى ضرورة تحويلها إلى آخر معركة كبرى أمام دخول العراق معترك الحياة السياسية، بوصفها مهمة الجميع. إنها مهمة التيارات الدنيوية من خلال التحقيق الفعلي لفكرة الهوية الوطنية العراقية ونظامها الاجتماعي والديمقراطي، كما أنها مهمة التيارات الدينية (الإسلامية) من خلال ارتقاءها إلى مصاف الحياة السياسية والدنيوية. حينذاك فقط تضمحل فكرة ونفسية المعارك الكبرى والصغرى والمؤامرة والمغامرة، لتتحول جميعها إلى اختلاف ضروري لترسيخ وتنشيط المرجعيات الثقافية السياسية الكبرى للبديل العقلاني واحتمالاته المتنوعة.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سرّ الأحذية البرونزية على قناة مالمو المائية | #مراسلو_سكاي


.. أزمة أوكرانيا.. صاروخ أتاكمس | #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد التطورات الميدانية في قطاع غزة


.. الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته على مخيمات وسط غزة ويستهدف مبنى




.. اعتداء عنيف من الشرطة الأمريكية على طالب متضامن مع غزة بجامع