الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الألم والتحسر في الشعر الجاهلي ج . 2

سعد سوسه

2020 / 6 / 26
الادب والفن


وهذه الإحساس بالألم والفرقة لم يقتصر على شاعر بعينه فهذا مضاض الجرهمي يصف حاله وما آل إليه نتيجة رحيل المحبوبة بسبب الوشاية فهو قد طلب من صاحبيه ان يندباه عند زيارته بعد موته وجدا على (مي). قائلا:
خليلي هذا موطنَ الموتِ فاندبــا مُضاضُ بن عمرو حيث شطَ مزارهُ
سلا صاحبَ الخيماتِ عن قبرِ هالكٍ لدى دوحةَ الزيتونِ سرتُ جوارهُ
وان رحلة الظعن ظلت محط أنظار الشعراء قبل الإسلام بوصفها المجال النفسي الرحب الذي يعرض فيه الشعراء تفاصيل أحاسيسهم ووطأة معاناتهم ازاء هذه المتغيرات من البقايا… لهذا كانت الرحلة الظعنية مجالا فنيا طيعا ووحيا تسمح للشعراء يتناول كل ألوان المشاعر المزدحمة في نفوسهم ، متحدثين عن معاني الفرقة البعد . وتحس بهذا الألم من خلال الصورة التي حاول الشعراء بثها في شعرهم وهم يصورون المهم من شدة الوجد والصبوة فهذا عنترة يصف رحيل الحبيبة وكيف فجع القلب بهذا الرحيل مصرحا:
كأنَ فؤادي يوم قمتُ مودعــاً عُبيلةَ مِنْ هارب يتفجـــــعُ
فترى ان قلب هذا الفارس يفر من مخدعه وينطلق في اثر الحبيبة وهو قلب متفجع على فراق من يحب.
ومن خلال الإحساس بالفراق عبر الشاعر عن معاناته النفسية، وإحساسه القاهر بالعجز لرحيل عبلة مع أهلها في ذلك الليل الدامس، لان الحبيبة كانت تمثل رمزا للضياء ينير حياة الشاعر فمن الطبيعي ان يكون فراقها رمزا للعتمة وهذا يضاف إلى الحزن الذي يحمله الشاعر في نفسه وفي شعوره بالاضطهاد داخل قبيلته. فكأنما أراد بالليل التعبير عن معاني الحرمان العاطفي والألم النفسي من خلال قناع الزمن (الليل) وكأنه بهذا التحديد يعبر عن الظلام الذي خلفه الفراق في نفسه. فقال:
أن كنتِ أزمعتِ الفراقَ فإنما زمَّتْ ركابكم بليلٍ مظلـــــمِ
ما راعني إلا حمولةُ أهلِـها وسطَ الدِّيارِ تسفُ حَبَّ الخُمِخُـمِ
فهو ألم قد رافق عنترة طوال حياته. وذلك لان الحبيبة بعيدة وان كانت صورتها أبدا حاضرة. وان شعره كله قد صبغ بصبغة الألم الذي يمازجه شيء من اليأس، فهو بين لوعة كاوية ودمعة سارية.
قالوا : اللّقاءُ غداً بمنعرجِ اللَّوى وأطولِ شوق المستَهامِ إلى غـدِ
وتخالُ أنفاسي إذا ردَّدُتهــــا بين الطُّللول محتْ نقوشَ المبْردِ
واللوعة ناطقة بالسان الشكوى والتظلم فعبر قائلا:
وقد أبعدوني عن حبيبٍ أحبـُّـهُ فأصبحتُ في قفرٍ عن الإنسِ نازحُ
وكثيرا ما يحاول الشعراء التخفيف عن آلامهم بعتاب الدهر والأيام التي جعلتهم يقاسون آلام الحب فأنشد:
أعاتبُ دهراً لا يلينْ لناصحٍ وأخفي الجَوَى في القلبِ والدَّمعُ فاضحِي
فهذا هو غزل عنترة يفيض رقة وعذوبة ولكن يعبر بنغمة حزينة عن حبه المتألم الذي ملأ عليه كيانه وشعوره.
فهؤلاء الشعراء والعشاق كانوا يقصدون استخدام هذا الشعر للتعبير عن أحزانهم وآلامهم الدفينة. وقد اخلص كل واحد من هؤلاء الشعراء العشاق إخلاصا شديدا لحبيبته، وقضى حياته كلها وقلبه يخفق بحبيبة واحدة لم يتحول عنها إلى غيرها ويتحمل الآلام في حبها. وصرح المرقش الأكبر:
أمن آل أسماءَ والطّلول الدوارسُ يخطّطُ فيها الطيرُ قفرٌ بسابسُ
ذكرتُ بها أسماءَ ولو أن وليها قريبٌ ولكن حبستني ألحوابسُ
ومنزلُ ضنكٍ لا أريد مبيتـــهُ كأني به من شدةِ الروعُ آنسُ
وغدا الشاعر في قصائد أخرى يبين لحبيبته حاله بعد رحيلها ويعبر لها عن شدة شوقه إليها لان (( من شان الحب ان يمتلك القلوب)) . فقال:
أغالبكَ القلبُ اللجـوجُ صبابــةً وشوقاً إلى أسماءِ أم أنتَ غالبـهُ
يهيمُ ولا يعيا بأسمـاءِ قلبـــهُ كذلك الهوى إمرارهُ وعواقـبـهُ
أيلحى امرؤ في حُبِّ أسماء قد نأىَ بغمزٍ من الواشين وازوّر جانبـهُ
وأسماءُ همُّ النفسِ إن كنتَ عالمـاً وبادي أحاديث الفؤادِ وغائبــهُ
إذا ذكرتها النفسُ ظلتُ كأننــي يزعزعني قفقاف وردٍ وصالبـهُ
وقد اكثر الشعراء العشاق خاصة من الحديث عن المرأة وعن طبيعتها وما تثيره في أنفسهم من تباريح الحب ولهم في هذه الذكرى وما تصنع بهم شعر كثير يصفون فيه حبيباتهم . على شاكله المرقش الأصغر القائل:
صحا قلبهُ عنها على أنّ ذكـرةً إذا خطرتَ دارتْ به الأرضِ قائما

أفاطمَ لو آنّ النساءَ ببلـــدةٍ وأنتِ بأخرى لاتبعتكِ هائمــا
فهو يحاول ان يصور حاله وكيف يتبع من يحب هائما على وجه. وهو في أبيات أخرى يفصح عما يقاسي من الوجد قائلا:
فولّت وقد بثّت تباريحُ ما تُرَى ووجدي بها إذ تحدُرُ الدمعَ أبرحَ

فهو يصف يوم الوداع وما سفحه فيه من دمع وما عانه من الفراق وترى ان شعره قد صدر عن فيض قريحته. وصدق تجربته. وشدة مكابدته.
وترى ان التوحد في الحب هو سر شقاء العشاق لذا نجد ان من الآفات التي تعرض في الحب وتعقد مأساته وتسير به في طريق الأسى هو الفراق حيث ان الفراق روعات تجلب على العشاق الوبال وربما أذاقتهم التلف .
فترى الشعراء يحزنون حقا وتستيقظ في جوانحهم المواجد وتوجعهم الذكر، ذكرى الماضي البعيد ويقفون يزيدون في قصيدة الفراق نشيدا قصيرا يحكي حكاية القلب في مخاوفه ومواجعه وشوقه ، ومن الذين تحرقوا حنينا لفراق من احبوا عبد الله العجلان الذي طلق زوجته وندم على ذلك قائلا:
عاودَ عَيني نَصبُها وغُرُورَها أهمَّ عراها أم قَذاها يَعُورُهَــــا
أم الدّارُ أمست قد تعفَّت كأنَّها زبورُ يمانِ نقّشتهُ سُطُورُهـــا
ذَكرتُ بها هِنداً وأترابها الآلي بها يكذبُ الواشي ويعصى أمِيرُهَا
فما معولٌ تبكي لفقدِ أليفهــا إذا ذكرتهُ لا يكفُ زفِيرُهَــــا
بأسرعَ مني عبرةً إذ رأيتُهــا يخبُّ بها قبلَ الصَّباحِ بِعيرُهـَـا
وان العشاق الذين أخفقوا في حبهم يحاولون ان يعبروا عن هذا الإخفاق وان يتحدثوا عنه.. ومن هنا وجدوا الفن القولي سبيلا إلى التعبير عن مشاعرهم . كما هو الأمر مع خزيمة بن نهد الذي اخفق في الحصول على من يحب فعبر عن آلامه وتحسره بهذه الأبيات فقال:
إذا الجوزاءُ أردفت الثريــا ظننتُ بآل فاطمةَ الظنونا
وحالت دون ذلك من همومي همومٌ تخرجُ الشجنِ الدفينا
أرى أبنةَ يذكر ظعنت، فحلت جنوبَ الحزنِ ياشحطاً مبينا
فترى الحبيبة كم أسهرت المحبين فقضوا لياليهم الطويلة يرعون نجومها. فلا غرو إذا ما استهانوا بالموت وتمنوه راحة لهم من الحزن والألم. وذلك ما افصح عنه قيس بن الحدادية قائلا:
وإنّ الذي أملت من أمُ مالـكٍ أشاب قُذالي وأستهام فؤاديا
فليتَ المنايا صبّحتني غديّـة بذبحٍ ولم أسمع لبينٍ مناديا
وكثيرا ما وازن الشعراء بين حياة الحب والموت الهادئ ففضلوا الموت على الحياة لشدة ما كان يقاسيه المحب من الم الحرمان..
وغدا بعض الشعراء يحاولون التخفيف بالشكوى من معاناة حقيقية دفينة، فيعتب ويتمنى ولا يخرج عن حزنه وألمه. فعبر عن ذلك عروة بن حزام:
فوا كبداً أمست رُفاتا كأنمـــــا يلذِّعُها بالموقداتِ طبيـــبُ
بنا من جَوَى الأحزان في الصَّدرِ لوعةٌ تكادُ لها نفسُ الشَّفيقِ تـذوبُ
ولكنَّما أبقى حُشاشَة مُقــــــولِ على ما به عودٌ هناك صليبُ
وشكوى عروة تتضمن لوعة وحزن ، فهو يظهر صور حرمانه وشقائه من فقد عفراء التي لم يزل حبها يخفق في قلبه المتألم والمحزون.
وبدأ قيس بن الحدادية يروعه رحيل المحبوبة مسارا إليها محاولا رؤيتها ولكن ردته وصدته فهو القائل:
وما راعني ألا المُنادي ألا ظَعِنُوا وألا الرواغِي غُدُوةً والقعاقعُ
فجئتُ كأني مُستضيفٌ وسائــلٌ لأخُبرهَا كلُّ الذي أنا صانـعُ
فقالتْ تزحزحْ ما بنا كبرُ حاجـــِة إليكِ ولا منا لفقركِ راقعُ
وختاما فان رحيل المحب أو رحيل المحبوب من المناظر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم وتذهب قوة كل ذي بصيرة وتسكب كل عين جمود ويظهر مكنون الجوى… ولو ان ظريفا يموت في ساعة الوداع لكان معذورا إذا تفكر فيما يحل به بعد ساعة من انقطاع الآمال وحلول الأوجال وتبدل السرور بالحزن وإنها لساعة ترق القلوب القاسية وتلين الأفئدة الغلاظ وان حركة الرأس وإدمان النظر والزفرة بعد الوداع لهاتكة حجاب القلب وموصلة إليه الجزع .

المصادر

1 . الليل في الشعر العربي قبل الاسلام ، رغد عبد النبي : 16.
2 . دراسات في الادب الجاهلي : 97.
3 . الغزل في العصر الجاهلي ، احمد محمد الحوفي: 205.
4 . شرح ديوان عنترة : 56.
5 . شعر المرقش الأكبر: ق11/888.
6 . المرثاة الغزلية في الشعر العربي: 33.
7 . المرأة في الشعر الجاهلي:105.
8 . القصة في مقدمة القصيدة العربية : 83
9 . شعر المرقس الأكبر : ق12/888.
10 . عشرة شعراء مقلون : ق9/38.
11 . شعر عروة بن حزام : ق4/17-18








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جائزة العين الذهبية بمهرجان -كان- تذهب لأول مرة لفيلم مصري ?


.. بالطبل والزغاريد??.. الاستوديو اتملى بهجة وفرحة لأبطال فيلم




.. الفنان #علي_جاسم ضيف حلقة الليلة من #المجهول مع الاعلامي #رو


.. غير محظوظ لو شاهدت واحدا من هذه الأفلام #الصباح_مع_مها




.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف