الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دياكاموس

عماد الدين رائف

2020 / 6 / 26
الادب والفن


فعلتها ليل أمس بعد أربع سنوات من الانتظار.
أطلقت نفسي من عقال عقلي فقادني جنوني إلى البحر. وأنا أدمنت البحر منذ طفولتي، وأضفت إليه إدمانات أخرى على مدى خمسة عقود، من التفكير والتدخين إلى الحُلم والكلمة. وكانت الكلمة أقسى الإدمانات والبحر أحلاها. حققت أمس رغبة كبتّها طويلا.. أن أسبح في انعكاس ضوء القمر على صفحة الماء. حين فعلت ذلك مرتين أو ثلاثا كنت بلا نظارتيّ، وأنا بالكاد أرى شيئًا بدونهما، أما البارحة فأوثقتهما إلى وجهي ببرباطين مطاطيين انتزعتهما من كمامة وسبحت.

خضتُ بعيدًا في روعة لا كلمات لدي لأصفها، رأيت ما لا يُرى في تلألؤ لا حدود له سوى ألم لذيذ. ألم كوخز إبر في مستقبلات الحس لدى عينين تعبّان من فضّة القمر. لا يشبه قمر مياه البركة في "بير الشوم" عند فيصل حوراني، ولا انعكاس الضوء في عيني هبة على شاطئ كورنيش المالح عند أماني عدلي في "بنت طولون"، ولا انعكاساته على قاع البحر عند ياسر حارب في "إخلع حذاءك"، ولا...

"ابتعدي عنّي أيتها الكلمات دعيني أستسلم للجمال!". ثبتُ إلى جنوني، تمددت بلا حركة فوق سطح الماء وسط بريق متمايل. رأيت جنيّات باسيدونيات يختلسن نظرات حسد إلى حورية معبد ملقارت، التي وضعت لمساتها الأخيرة على تمثال المعشوق أشمون فوق تلّة مطلة على سيّدة البحار. وكانت صُورُ تبتسم لها ولا تعرفّ بمكرها إذ كانت تقصد بتمجيد المعشوق - الإنسان إغاظة عشتروت، آملة استرداد هذا الصيّاد منها إلى عالم الإنس.

ولسوء حظّي انتبهت من حلمي، إذ تذكرت كلمة تختزن هذا المشهد، تعبّر عنه. أيعقل أن كلمة إغريقية واحدة هي "دياكاموس" تعني "انعكاس ضوء القمر على سطح البحر"؟! بعدما انتقل معناها في اليونانية الحديثة، حافظت هذه اللفظة عليه في تركيا متخففة من حرفين فغدت "ياكاموز". نعم "ياكوموز" نفسها، التي اختارها المغني الكوردي أحمد كايا عنوانًا لأغنيته "عندما ينهمر المطر تتبللين/ وإذا ما أشرقت الشمس تختفين/ ابقي هنا معي في ضوء القمر/ يا تلألؤ الشعاع فوق الماء. كأنك تنتحبين بلا صوت/ أحان وقت رحيلك؟ فليرحل القمر، أما أنت فابقي معي لليلة أخرى/ يا أملي...". لا أدري إن كان أحمد قد غنّاها قبل اعتقاله والحكم عليه لنحو أربع سنوات في تركيا، لكونه غنّى في ظلال علم حزب العمال الكردستاني وصورة آبو، أم بعد فترة السجن. ثم مالي ومال أحمد! ما بالنا نحن لم نحافظ على كلمة كهذه؟ نحن الذين يختزلنا مشهد "مصاري" في مسرحية زياد، ابتدعنا في عاميتنا المحكية عشرات الكلمات والتراكيب للتعبير عن المال، وليس لدينا كلمة واحدة تختزن مشهدية وإحساسا لا يمكن لمال العالم كله أن يشتريهما!

طردت عنّي الأفكار.. فأين كانت لتولد كلمة تعبّر عن كل تلك المعاني إلا هنا، في هذه المساحة السحرية التي خلقها القمر فوق صفحة مياه صور ملايين المرات منذ استوطن البشر هذه البقعة من الأرض؟ أسبحوا مثلي ليلا في هذا الجمال أتسللت فضة الضوء عبر مسامات بشراتهم لتستقر في القلب؟ أتراهم لفظوها بدون لاحقتها الإسمية الإغريقية فقالوا "دياكام"؟ استسلمت للتلألؤ وهو يطّهرني من آثام أربعين عامًا قضيتها في الكتابة. أغمضت عيني وذهبت إلى البعيد، إلى وجه صور القديم النقي.. غاص جسدي ببطء، فوجلت. رأيت إحدى جنيات باسيدون الزرقاوات، خفت أن تخطف أنفاسي حيث لا هواء لكائن واهن مثلي، وأن تسجنني في قفص من الفضّة لأربع سنوات أخرى.

كبتُّ جنوني من جديد. فررت منها، بيديّ ورجليّ أدفع جسدي نحو الشاطئ المعتم البعيد. تلمست طريقي إلى حيث تركت عقلي وأسمالي. ارتديت قناع التجهّم لمواجهة غربة المدينة القاسية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى