الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 6 / 28
مواضيع وابحاث سياسية


لقد حاولت البرهنة في المقالات السابقة عن الراديكالية السياسية على أن تذليل النفسية الراديكالية يفترض تأسيس وتنشيط المرجعيات الثقافية السياسية الكبرى للبديل العقلاني واحتمالاته المتنوعة. ولعل احد أهم اتجاهات هذه العملية تقوم في وضع الحدود الفاصلة والضرورية بين فكرة السياسة والمقدس. بمعنى عزل أو تحييد الأبعاد الدينية والدنيوية في الحياة السياسية. وهذه بدورها غير ممكنة التحقيق دون فصل السياسة والفكرة السياسية عن الدين وفكرة المقدس. وهو فصل يفترضه كل منهما بما فيه من مقدمة وما يسعى إليه من غاية.
أما محاولة المزج بينهما، فانه مؤشر على غياب الاثنين. بمعنى غياب تصور واضح ودقيق عن السياسة والفكرة السياسية، وعن الدين وفكرة المقدس. وقد يكون السبب الذي يجعل السياسي كثير التشدق بكلمات المقدس والدفاع عن المقدسات وما شابه يقوم في افتقاده المقدس. فالسياسة هي من بين الأمور الأكثر بعدا عن المقدس بوصفه المجرد عن الابتذال. مع أن السياسة تتضمن مساعي تجسيد الحق والعدالة وغيرها من القيم التي تشكل المضمون الملموس لتجليات المقدس.
وإذا أخذنا بنظر الاعتبار كون كلمة المقدس من بين أكثر الكلمات تعقيدا بالنسبة للتفسير العقلاني والتأويل الوجداني، وذلك بسبب صعوبة حصر مضمونها بأمور هي نفسها عرضة للزوال، من هنا يتضح تعقدها حال ربطها بالسياسة. إذ لا يمكننا عزل مضمون السياسة وأسلوب فعلها وكيفية تجسيد وظائفها عن المصالح. والمصالح مكون يتراكم ويجري التأسيس له بمعايير النفس والجسد في ظل تباين واختلاف وتناقض القوى الاجتماعية والأحزاب السياسية. إضافة إلى الطبيعة المتغيرة للمصالح نفسها.
ومع أن أصل المصالح من المصلحة، فإن ذلك لا يجعل منها في ميدان السياسة ومعاييرها العملية وغاياتها الفعلية رديفا للصالح والأصلح والصلاح. وذلك لأن السياسة نفسها عادة ما تصبح جزء من لعبة المصالح. وهي لعبة تحكمها في نهاية المطاف قواعد هي بحد ذاتها مجموعة وسائل متبدلة متغيرة لا تحتكم إلى الأخلاق المطلقة. وهو أمر طبيعي لأن السياسة جزء من الطبيعة المباشرة وليس من مكونات الروح المتسامي. من هنا استحالة تناسق السياسة والمقدس. فلكل منهما ميدانه ووسائله وغاياته. ومع أن أحدهما يحدد الآخر في ميدان القيم ومستوى تأسيسها النظري والعملي، إلا أن ذلك يبقى جزء من ارتقاء أو انحطاط كل منهما. فليست السياسة فقط مستعدة للانحطاط والرذيلة، بل و«المقدس» أيضا عندما يصبح جزءاً منها.
فعندما ننظر إلى ما حولنا من مظاهر الوجود، فإنها تشير جميعا إلى أن كل ما في الكون عرضة للتغير والتبدل. ومن ثم فإن كل القيم التي تبدو في مظهرها شديدة الثبات تنحلّ كما لو أنها من مخلفات الماضي وبقاياه الميتة. مما يجعل من الضروري أيضا إعادة النظر النقدية بفكرة المقدس وتأويلها الوجداني بالشكل الذي يجعلها حية وإنسانية من حيث دوافعها وغاياتها. لاسيما وان الكثير من الأعمال الإجرامية التي جرى ويجري اقترافها في العراق حاليا عادة ما تؤطر وتقدم على أنها جزء من تاريخ «مقدس».
فقد مارست الدكتاتورية الصدامية مختلف أصناف الإرهاب الشامل تحت شعارات لا تتمتع بأية رؤية واقعية وتاريخية، ومع ذلك حاولت أن تعطي لها أبعادا ما فوق تاريخية من خلال ربطها «برسالة خالدة» لأمة لم تتكامل بعد! أما النتيجة فهي الإفساد الشامل لفكرة القومية العربية وتشويه محتواها وتخريبها الفعلي. وتشاطر هذه الرؤية الكثير من الحركات الدينية والدنيوية، اليسارية واليمينية، القومية والاشتراكية في العراق. مما يعطي لنا إمكانية القول، بأن ضعف الرؤية الواقعية والتاريخية المشار إليه أعلاه يختبئ في معظم جوانبه وراء البحث عن صيغة أسطورية تلتهم كلمات «المقدس» من اجل تبرير ضعفها البنيوي في ميدان العمل السياسي وبالأخص فيما يتعلق منه ببناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني.
وهو ضعف لازم في تاريخ العراق الحديث، كيفية تشكل الدولة وابتعادها المتزايد عن كينونتها السياسية ومضمونها الاجتماعي. مما جعل منها في نهاية المطاف كيانا مغتربا اغترابا تاما ومناقضا لوظيفتها السياسية والاجتماعية، بوصفها أداة لإدارة شئون الحياة. وضمن هذا السياق يمكن فهم «الجرأة» التي تميز كثرة من الأفعال الإجرامية التي يجري اقترافها وتقديمها على أنها جزء من الدفاع عن «المقدسات». إذ تفترض هذه الأفعال الإدراك الواعي والمحدد ضد من يجري تنفيذها، وتتضمن بالتالي قدرا من «الوجدانية» و«الروحية» و«التاريخية» في تنفيذها. بمعنى أنها تحتوي على تأسيس فكري وأيديولوجي وسياسي لقيمتها الفعلية في الصراع الدائر في العراق. وهي أفعال تشير من حيث مقدماتها ومجرياتها ومغزاها إلى أنها جزء من المعترك السياسي والاجتماعي والثقافي فيه. وفي بصماتها تشير إلى قوى تتصف بمستوى عال من التعصب العقائدي، الذي أكثر ما يميز في ظروف العراق الحالية التيارات الراديكالية الأصولية.
فمن الناحية الظاهرية والشكلية لم يكن تخريب وتدمير «الأماكن المقدسة» فعلا غريبا في تاريخ الدول والأمم والأديان، بما في ذلك في تاريخ الإسلام. فقد جرى هدم وتخريب الكعبة مرارا بدأ من الأموية وانتهاء بالوهابية. وبغض النظر عن اختلاف البواعث والغايات، إلا أن النتيجة المعنوية كانت واحدة على الدوام، ألا وهي هدر القيمة الوجدانية لفكرة «المقدس». ومع أن الإسلام لا يقر بقدسية المكان الجغرافي، إلا انه يتضمنه سواء في موقفه من «وادي الطوى» و«بيت الله الحرام». لكن مضمون الموقف الإسلامي يقوم في رفع شأن الأبعاد المجردة للحق، كما في الآية القائلة «أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله». وهي فكرة تجرد المقدس عن الحصر في مكان معين. بمعنى سموه عن الحصر والحشو والتجسيم. وليس مصادفة أن يروى عن الخليفة عمر بن الخطاب هو يقبل الحجر الأسود، قوله بأنه يعلم بأنه مجرد حجر، ولولا انه لم ير النبي محمد يقبله لما قبله. وهو موقف يشير إلى تقليد الفعل الظاهري وقيمة التقاليد المعبرة عن معنى الانتماء الوجداني لا غير. وهي رؤية واقعية وعقلانية لحد ما وتتصف بعمق ثقافي هائل بالنسبة لتراكم القيم والمواقف التاريخية الاجتماعية. وليس إلا الانحطاط التاريخي لعالم الإسلام وجمود الذهنية الثقافية هو الذي جعل من الحجر الأسود مجرد حجر لا غير، وبالتالي تحويل شعائر الاقتراب منه إلى فعل مقدس، مع انه لا قدسية فيه كما هو. وليس مصادفة أن يدور بعض المتصوفة حول حجر يضعه في بيته ويتبرع بأموال سفره إلى الحج للأيتام والفقراء. وإلا فكيف يمكن فهم صرف الأموال الكبيرة من اجل تحسين شروط الحج، بينما تتكرر النتيجة سنويا، وهي موت العشرات والمئات وهم يرشقون حجرا بحجر! بينما لم يكن المعنى والمضمون الوجداني للرمي سوى رمي حجارة النفس أو وثنيتها من اجل تنقيتها باسم الحق.
ولكن حالما نتأمل طبيعة الأحداث الدموية التي رافقت «قتل الشيعة» و«هدم أماكنهم المقدسة» في زمن التوتاليتارية والدكتاتورية واستمرار بعض نماذجها الإرهابية في الوقت الراهن، فإننا نستطيع العثور على قدر من التوليف المفتعل لتقاليد اتسمت تاريخيا بالتعصب والجمود ونفسية الانتقام المتربية بأحضان الاستبداد والانعزال الثقافي، أي كل ما يمكن دعوته بالوثنية الهمجية. وتشكل هذه الأيديولوجية في الواقع مضمون الفعل السياسي لمن يمكن دعوتهم بالغلاة الجدد! وبهذا المعنى يمكن النظر إلى أن اغلب مظاهر القتل الجماعي والعشوائي في مختلف مناطق العراق، وبالأخص في «الأماكن المقدسة» منها في «أيام الدين» من جانب مختلف قوى «السلفية الجهادية» على انه الصيغة «المقدسة» لاستمرار تقاليد الإرهاب السياسي الشامل للدكتاتورية. وان ما جرى ويجري من سلوك إرهابي تجاه البنية التحتية للاقتصاد الخرب وقتل المدنيين ورجال الشرطة وقوات الحرس الوطني ما هو إلا التعبير النموذجي عما يمكن دعوته بالاستظهار السياسي العابر للأمراض المزمنة الموروثة من بقايا التوتاليتارية والدكتاتورية وتقاليد الاستبداد. إذ نعثر فيها ليس فقط على محاولة إثارة الفتنة الطائفية، بل واستمرار لها. والقضية ليست فقط في أنها استهدفت شعائر الشيعة والشيعة أنفسهم، بل ومراكز تاريخهم الوجداني والروحي. وهو الأمر الذي يشير إلى بروز وتبلور ظاهرة جديدة في تاريخ العراق السياسي الحديث لا ينبغي البحث عن جذورها في «القوى الأجنبية» أيا كانت مثل «المحتل» و«القاعدة» وغيرها. فهي قوى «تشترك» من حيث وجودها السياسي وصراعها «العالمي» في العراق، إلا أنها لا تحدد مضمون ومسار الصراع فيه.
إن جوهر الصراع في العراق اليوم يقوم بين ممثلي تقاليد الاستبداد والدكتاتورية والتوتاليتارية من جهة، وقوى الديمقراطية والدولة الشرعية والمجتمع المدني من جهة أخرى. وإذا كانت القوى البعثية الصدامية التي تمثل زمن الاستبداد قد تعرضت إلى هزيمة سياسية ساحقة، فان رصيدها الأيديولوجي والاجتماعي مازال يتمتع بقوة نسبية في العراق. وهو رصيد له موارده القوية على الصعيد المحلي والعربي والإسلامي المتمثل بالقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية التي ارتبطت به سياسيا طول وجوده في سدة الحكم، والتي أدعوها بقوى «الغلاة الجدد». أنها القوى التي تحاول استلهام فكرة المقدس المزيفة من اجل تحويلها إلى غطاء سياسي لاستعادة بنية الاستبداد التي كانت السلطة البائدة «كعبتها المقدسة».
بعبارة أخرى، إننا نعثر في هذا النموذج من الأفعال على انحدار وانحطاط المقدس إلى حضيض الرذيلة السياسية! وذلك لان فكرة المقدس هنا لا تهدف لغير استعادة تقاليد الاستبداد التي وجدت نماذجها المتنوعة في صعود الهامشية إلى السلطة وسيادة النزعة الراديكالية. وهي حالة أدت إلى صنع توتاليتاريات دنيوية ودينية، ليس الغلاة الجدد سوى نموذجها الأكثر همجية. بمعنى أنها الحالة التي تشير إلى تزاوج وتوليف التقاليد التوتاليتارية الدينية والدنيوية. وهي نزعة لم تكتمل بعد ولا تشبه في شيء تقاليد الحركات الإسلامية (السنيّة) بدءا بالوهابية وانتهاء بحركة طالبان والقاعدة. إلا أنها عرضة للزوال السريع مقارنة بأمثالها لأنها تجمع بين قوى متناقضة لا يجمعها سوى العداء العلني والمستتر لفكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، أي ضد التيار الكاسح للتقدم والحرية.
الأمر الذي يضع بدوره مهمة النقد العقلاني العميق لتقاليد المدارس الإسلامية السياسية السنية منها بشكل عام وفي العراق بشكل خاص. والقضية هنا ليست فقط في أن هذه المدارس اتسمت في التاريخ الحديث بنزوع حاد نحو التطرف والغلو، بل ولوقوفها السياسي الطويل إلى جانب القوى التقليدية وأنظمتها الاستبدادية. وهي تقاليد ميزت تاريخيا الفكرة «السنية» منذ انحطاط المعالم الكبرى للحضارة الإسلامية، وبالأخص بعد سقوط بغداد في منتصف القرن الثالث عشر. ولعل مهزلة المفارقة التاريخية الآن تقوم في محاولة هؤلاء الغلاة الجدد استعادة تقاليد المدارس الحنبلية الضيقة والوهابية بشكل خاص بعد ممازجتها بأفكار ونفسية الدكتاتورية الصدامية.
والشيء نفسه ينبغي تطبيقه على التشيع، بوصفه التيار الذي لم يخل تاريخه من كثرة الغلاة. لكنه غلو عقائدي وفكري ووجداني في جوهره. من هنا سموه وتسامحه النسبي وعنفوانه البطولي في مواجهة الاستبداد والدفاع عن الحق. بينما لا تجعل الحنبليات ومختلف «الأصوليات» الضيقة من الإسلام سوى تصوراتها الفجة وتقليديتها المتحجرة عما تراه «مقدسا». وليس هذا المقدس في الواقع سوى الصيغة الأيديولوجية للتعصب والانعزال الثقافي والاغتراب عن قيم الحضارة الإنسانية وتاريخها الموحد. ويقف هذا الغلوّ من حيث الجوهر على هامش الحركة العامة للظاهرة الإسلامية الكبرى بوصفها عملية عالمية لصيرورة المركزية الإسلامية الجديدة. الأمر الذي يجعل من الضروري التصدي للغلاة الجدد ووثنية إرهابهم «المقدس» من جانب التيارات الإسلامية السياسية من خلال النقد العقلاني للغلو الإسلامي السلفي.
غير أن التصدي الفعلي للغلاة الجدد وإرهابهم «المقدس» ممكن فقط من خلال بناء أسس ومرتكزات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. فهو الثالوث القادر على حمل الوحدة الوطنية العراقية وعمرانها الشامل. والعمل في نفس الوقت على بناء أسس ما ادعوه بالإسلام الثقافي، أي الإسلام الذي تتحدد ماهيته بقيمة المرجعيات الثقافية العقلانية والإنسانية المتراكمة في تاريخه الكليّ، وليس بمفاهيم وتصورات وأحكام فرقه المتنوعة والمختلفة. فهي العملية القادرة على تقديم بديل إيجابي وفعال يولف بين التيار الديني والدنيوي في العراق في مواجهة سبيكة التوتاليتارية الدينية والدنيوية للغلاة الجدد ووثنية إرهابهم «المقدس». ولعل الصيغة الأكثر استجابة لتوليف الرؤية العقلانية والوجدانية من جانب الحركة الدينية (الإسلامية) والدنيوية (العلمانية) في العراق الآن، ورفعها إلى مصاف الحدس الثقافي، هي الفكرة القائلة، بان المقدس هو المتجرد عن الابتذال. وليس هناك مقدس من هذا القبيل في ظروف العراق الحالية والعقود القليلة القادمة أكثر من وحدة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي والمجتمع المدني.
وهو الأمر الذي يفترض بدوره صياغة الرؤية الواقعية والعقلانية للبدائل. بمعنى تجريدها من ابتذال المقدس العقائدي مهما كان شكله ولونه. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ الدولة الحديثة ونماذج الفكرة السياسية والأحزاب والأيديولوجيات في العراق، والذي يجد انعكاسه النموذجي في نوعية الشعارات المرفوعة بوصفها الصيغة الوجدانية المشحونة بكلمة المقدس. وتقترب هذه الوجدانية من حيث مقدماتها الفكرية من الأوهام وتتمازج معها في الهتاف والتوجه العملي.
لكننا نعرف جيدا بأن للأوهام قوتها الجارفة التي تقهر أحيانا حتى الحقائق الكبرى. وهي مفارقة غريبة لكنها معقولة بموازين التاريخ والواقع والوعي. فقد وقف الفكر الفلسفي على الدوام أمام إشكالية تحديد الحقيقي من الزائف. وإذا كان من الممكن إدراكهما في المنطق بمقولات الصواب والخطأ، فان هذا التمايز يتلاشى أمام الرؤية الوحدانية للتاريخ والنشاط الإنساني الخارج عن شكليات المنطق وحدوده الضرورية في بناء العبارة والمعنى. غير أن هذه الوحدانية نفسها جعلت من الحقيقي والزائف محور اهتمامها الجوهري، لأنها أرادت من وراء ذلك كشف المعنى المفترض أو الغاية المتسامية أو الوجوب الوجودي والأخلاقي في الظواهر والأشياء والأفعال. وإذا كانت الرؤية الدينية قد افترضت المعنى والغاية والوجوب وراء الحياة وجسدته بمفاهيم الوعد والوعيد والثواب والعقاب والجنة والنار دون أن تهمل حدوده الأرضية (على الأقل في الإسلام) فإن النظريات التي جعلت من المطلق الإلهي ميدانا لتأمل الحرية الإنسانية واضطرارها المجبور، حاولت من خلال نماذجها المتنوعة صياغة الأسلوب المناسب في إدراك علاقة «الحقيقي» و«غير الحقيقي» في التاريخ. ومن حصيلة هذه المحاولات ظهرت مختلف التفسيرات والتأويلات السياسية التي ارتدت لباس الأيديولوجية العملية لكي تثبت لنفسها وللآخرين على أن ما تقوله هو الحقيقة النهائية والغاية المتسامية للوجود. وبهذا نقف من جديد أمام الفكرة القائلة، بأنه ليس الحقيقة فقط غير متناهية، بل والأوهام أيضا!
فالتجارب التاريخية للأمم والحضارات تبرهن على أن للأوهام قوة تعادل أحيانا قوة الكوارث الطبيعية. وتزداد قوتها تدميرا عندما تتلألأ من خلال ما يمكن دعوته بالقيم والعبارات «المقدسة». مع أننا نعلم انه لا قدسية في اللغة والقيم بحد ذاتها، باستثناء تمثل وتمثيل الفضائل التاريخية القادرة على تأسيس التحرر الشامل والسعادة. وهو تمثل وتمثيل تسعى لتحقيقه مختلف القوى الاجتماعية والسياسية على امتداد التاريخ. إذ ليس التاريخ العالمي والسياسي منه بالأخص سوى المسار التي تتكسر في دروبه مساعي البشر لتحقيق الأحلام «المتسامية». الأمر الذي يبرهن على أن «الحل النهائي» في كل فعل تاريخي كبير هو وهم تاريخي، وان «الحل النهائي» الحقيقي يفترض الإقرار بعدم تناهي الحلول وشرعية البدائل والاحتمالات المتنوعة. ويعكس هذا الاستنتاج طبيعة الخلاف التاريخي الذي طبع وما يزال يطبع الفكر في مختلف مدارسه واتجاهاته وأصنافه. بمعنى الخلاف بين أيديولوجيا الأوهام الكبرى وبين الرؤية العقلانية للتاريخ ومساره الواقعي.
وليس المقصود «بالأوهام المقدسة» هنا سوى تلك التي ترتقي إلى مصاف العقائد الإيمانية المتوارثة والمقتلعة من جذورها الأولية. وبالتالي فإنها عادة ما تجعل من وقوعها «الواعي» في اسر العقائد الموروثة مصدرا للتفاخر والاعتزاز، مع ما يترتب على ذلك من استعادة «حية» لمسار الأحداث القديمة وتذوقها الجديد خارج إدراك معنى الحقيقة القائلة بأنه لا تكرار في الوجود. إذ لا تكرار بتاتا! وهي ممارسة تؤدي بالضرورة إلى استلهام العبارة لا المعنى، واستنساخ الرمز لا محتواه الثقافي (التاريخي) ومن ثم الولع بترهات الماضي عوضا عن بذل الروح المعاصر من اجل حل الإشكاليات الواقعية الكبرى القائمة أمام المجتمع والدولة. وعادة ما تؤدي إلى هذه النتيجة الأيديولوجيات الكبرى المصابة بمرض «الأوهام المقدسة»، التي تنطلق في رؤيتها للواقع من يقينها الجازم بأن ما تستلهمه من الماضي هو الوحيد المقدس، وبالتالي فإن ما تقوله وتفعله وتسعى إليه هو غاية «نهائية» للوجود. بينما لا تدرك هي الحقيقة البسيطة القائلة، بأنه لا نهاية في الوجود، وان أقصى ما تسعى إليه لا يتعدى كونه رؤية عابرة وتعبيرا عن غايتها الخاصة. إذ ليس هناك من غاية نهائية للأيديولوجية أيا كانت سوى تجسيد ما تعتقده غاية عليا. وليس هذه الغاية العليا في الواقع سوى تصوراتها عما تقف عند حدوده التاريخية فقط. فالأحداث والأفعال والممارسة السياسية والمهمات العملية هي أمور محدودة على الدوام. ولا يمكن للأيديولوجية أيا كانت أن تتعدى في أحكامها وتقييمها للأحداث هذه الحدود. وهي حقائق لا يمكن للأيديولوجيات العملية «الجماهيرية» أن تتمثلها وتمثلها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لدفاعه عن إسرائيل.. ناشطة مؤيدة لفلسطين توبّخ عمدة نيويورك ع


.. فايز الدويري: كتيبة بيت حانون مازالت قادرة على القتال شمال ق




.. التصعيد الإقليمي.. شبح حرب يوليو 2006 | #التاسعة


.. قوات الاحتلال تعتقل شابا خلال اقتحامها مخيم شعفاط في القدس ا




.. تصاعد الاحتجاجات الطلابية بالجامعات الأمريكية ضد حرب إسرائيل