الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المفكرة والمناضلة اليسارية نوال السعداوي: قضية المرأة سياسية اقتصادية ومرتبطة بالاستغلال والفقر

إبراهيم العريس

2006 / 6 / 25
مقابلات و حوارات


السبت 24/6/2006

* نتحدث عن قضية المرأة ونقول أن المرأة نصف المجتمع، فيقولون: ما هذا الكلام؟ علينا أن نطرد أميركا وإسرائيل أولاً، ولا يعرفون أنه لن يكون في استطاعتنا "طرد أميركا وإسرائيل" إن كانت مجتمعاتنا معطلة إلى هذه الدرجة *
*أنا ضد العولمة حين تكون حالة هيمنة على العالم واستغلال لمقدّرات البشر والشعوب.. لكن في مقابل العولمة الفوقية التي ليست سوى تحريك رأسمالي للحكومات وسرقة لأموال الناس؛ هناك العولمة التي تساعد الشعوب على فهم معنى حريتها والوصول إليها*

هي بالتأكيد واحدة من اكثر المفكرين العرب مشاكسة وعنادًا وتمسكًا بالمواقف. منذ عقود ونوال السعداوي اسم حاضر في الفكر العربي، مؤلفة في القضايا الاجتماعية والجنسية، طبيبة مناضلة، روائية تستخدم الأدب لعرض أفكارها. شهرتها تجاوزت مصر، وطنها الأول، الى العالم العربي باكرًا، لتصل الى العالم كله حيث تقدم وتترجم كتبها بوصفها من المدافعين الشرسين عن قضية المرأة. لكن نوال السعداوي تفضل ان يقال عنها انها مدافعة عن قضية المجتمع في شكل عام، معتبرة ان قضية المرأة هي قضية المجتمع بامتياز، وأن حل العقبات التي توضع في وجه المرأة وضد حقوق المرأة، كفيل بأن يوصل الكثير من قضايا المجتمع نفسه الى حلول معقولة. ومعقولة فقط، لأن السعداوي ترى ان المشاكل تتضخم وتتفاعل بحيث ان الآفاق تبدو غائمة. ومع هذا تراها على الدوام متفائلة.
حين التقيتها في القاهرة، كانت نوال السعداوي مشغولة بقضية النزوع نحو استخدام اسم الأم من قبل الأبناء والبنات، كنية لهم اسوة باسم الأب. وهي تقول ان هذه المسألة قد لا تبدو هامة لكثر من الناس، لكنها مسألة محورية. في سبيل تنظيم النضال في هذا المجال، تمعن هذه المفكرة التي تقول كلمتها من دون تنازلات وتعرض أفكارها صراحة ومن دون مواربة، في تجميع الناس من حولها. وهؤلاء الناس ليسوا كما يعتقد البعض نساء فقط "بل هناك من حولنا وفي قلب النضال الذي نخوض، رجال كثر ايضًا"، تقول نوال السعداوي مبتسمة مضيفة: "لقد أدرك هؤلاء اننا لسنا في ترف النضالات النسوية الخالصة، بل في وسط عملية بحث دؤوب عما يخرج مجتمعاتنا من كبواتها".
ولأن نوال السعداوي تعمل لإخراج هذه المجتمعات من الكبوات، نراها تثير غيظ كثر. وفي مقدمهم جماعات من الأصوليين، أهدرت دمها منذ سنوات واضعة اسمها على لوائح القتل، ما "اضطرني يومها الى السفر الى الغرب" لاجئة، حيث درّست ودرست وساهمت في نشر كتبها وأفكارها... وكان للأمر برمته في النهاية تأثير كبير في مسارها، لم يبدّل من قناعاتها، لكنه رسخها أكثر وعقلنها اكثر.
اليوم، تطل نوال السعداوي من شرفة الطابق السادس والعشرين في المبنى الشاهق الذي تسكنه شمال القاهرة، وتتأمل المدينة من حولها متسائلة: ترى أفلا يستحق هؤلاء الناس حياة أفضل؟
من اجل هؤلاء الناس، إذًا، تواصل نوال السعداوي معاركها وجهودها وتواصل نشر كتبها وتؤسس اتحادًا لنساء مصر.

في ضوء اهتماماتك الفكرية والعلمية، كيف تنظرين الى حال المجتمعات العربية في هذه الأيام؟ وربما تفضلين البدء بحال الفكر العربي الذي هو صورة مكبرة لحال هذا المجتمع...

أريد ان أتكلم على الفكر العربي في شكل عام، والعقل العربي والمصري في شكل خاص، لأقول انه لا يعرف كيف يفكر حقًا. أنا، على اية حال، ضد تقسيم الناس الى مفكرين وغير مفكرين، كأنما التفكير مهنة محتكرة. الفكر عمل إنساني. هل ان الفلاح لا يفكر؟ المشكلة ان المثقف لا يعرف كيف يفكر الفلاح. بل نحن جميعًا لا نعرف كيف نفكر، وهذه مشكلة كبيرة جدًا بالنسبة الى الصحافة والإعلام والجامعة والطب... من حظي ان اسمي وُضع ذات يوم على قوائم القتل هنا في مصر. كنت الرقم 2 بعد الراحل فرج فودة. فاضطررت الى ترك البلد ورحت الى الولايات المتحدة وبعض بلدان أوروبا، ومنها اسبانيا، حيث اقمت 13 سنة أدرّس خلالها كتبي ورواياتي وأفكاري. وهناك اشتغلت خصوصًا على مادة "الإبداع والتمرد"، وضمن أبعادها معرفة كيف يفكر الإنسان، وهذه مادة لا ندرسها في جامعاتنا. أذكر انني منذ زمن بعيد أبديت رغبتي في تدريس هذه المادة في الجامعة، وكان عميد جامعة القاهرة أستاذًا صديقًا أبلغته رغبتي فلم يستجب. قالوا انني إنسانة مثيرة للمشاكل والجدل، وكأن الجدل عيب وقبيح. انهم يعتبرون الجدل عيبًا ويصبح من يمارسه مشبوهًا، ومع هذا نردد كلنا يوميًا: "انا أفكر، إذًا أنا موجود"، حتى من دون ان نفهم معناها. ما أريد ان أتحدث عنه هو لماذا لا يلعب المثقف دورًا حقيقيًا في حياتنا العامة. أتحدث عن المثقف وأعني النخبة، وكثيرًا ما كتبت عن الثغرات في فكرها... هذه النخبة التي تتوقف عن تحصيل العلم بعد التخرج، فيتوقف ما عندها من علم في ماض سرعان ما يصبح سحيقًا، بفعل تقدم العلوم والمعارف في هذا العالم.

هل تودين القول ان المثقفين لا يفكرون في هذه الأزمان، أم أنهم كانوا دائمًا لا يفكرون؟

لا... أبدًا. ليست للمسألة علاقة بالجينات الوراثية. ليس من طبع المفكر العربي ألا يفكر. هو فقط تأثير النظم السياسية والأوضاع الاجتماعية. في الخارج ايضًا ثمة مشاكل كثيرة وعويصة من هذا النوع. أنا درّست 13 سنة في اميركا وأوروبا وخرجت بانتقاد حاد للنظام التعليمي الذي رأيته طبقيًا رأسماليًا خطيرًا، بل انه احيانًا أسوأ من انظمتنا. لكنهم هناك، حين يجدون شخصًا يفكر ولديه إبداع، يتمسكون به، حتى في اوساطنا يفعلون هذا. يأخذون أدمغتنا ويشغّلونها لديهم، يستفيدون منها في العلوم والصناعة وأحيانًا في الجيش، وفي ميادين الاكتشافات التي تزيد سطوتهم واستعمارهم لنا وعنصريتهم تجاهنا... باختصار، يعرفون كيف يشغّلون العلماء والمفكرين والفلاسفة، أما نحن فلا نفعل هذا ولا نعرفه.
لم أكن أعرف هذا حتى سافرت. قبل ذلك كنت اشعر بأن هناك خللاً في التفكير العقلي وأسأل نفسي: ما هو هذا الخلل؟ لاحقًا أدركت أن مسألة عدم معرفة التفكير هذه نابعة من غياب الربط عندنا بين الظواهر، ناهيك بـ"سلّم الأولويات" الذي وُضِع من دون ان يعرف احد مَنْ وضعه. مثلاً نتحدث عن قضية المرأة ونقول ان المرأة نصف المجتمع، فيقولون: ما هذا الكلام؟ علينا ان نطرد اميركا وإسرائيل اولاً، ولا يعرفون انه لن يكون في استطاعتنا "طرد اميركا وإسرائيل" إن كانت مجتمعاتنا معطلة الى هذه الدرجة. اننا كي ننهض من الكبوة، في فلسطين وفي العراق وفي كل مكان، علينا ان نعيد الاعتبار الى الربط بين الظواهر. انا طبيبة، تحولت الى الطب النفسي وأعرف جيدًا العلاقات بين الجسم والعقل في الجسد الإنساني، وأعرف العلاقات بين المرأة والرجل وارتباطها بالاقتصاد والسياسة والتاريخ والفلسفة والدين...

في تدريس ابن رشد للطب وممارسته له، كان هذا موجودًا. كان حاضرًا الربط بين الظروف الجسدية والظروف النفسية... يبدو أننا تخلفنا قرونًا عن زمن ابن رشد في هذا المجال!

بالتأكيد. وهذه نقطة مهمة جدًا علينا ان نعلّم الطفل منذ نعومة اظفاره كيف يفكر. يجب ألا نطلب منه ان يفكر فقط، يجب ان نقول له كيف. مَن حدد مسار حياتي هو ابي الذي كان يطلب مني ان أناقشه وأن أنتقده. علّمني ألا أقبل امرًا على علاته، ومع هذا ابي كان خريج الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعي، قال لي: اياك ان تنظري الى الأمور كأمور مسلّم بها. ناقشي كل شيء.
أعود الى قضية المرأة في بلادنا، كعامل اساس من عوامل تعطيل المجتمع. قضية المرأة عندنا، قبل ان تعتبر – خطأ – قضية دينية، هي قضية سياسية واقتصادية مرتبطة بالاستغلال والفقر. اليوم حين اتكلم على قضية المرأة يقولون انني انشغل بالتوافه. نصف المجتمع في رأيهم توافه. إذًا ما هو المهم عندهم؟ مهما يكن، أود هنا ان أقول شيئًا: اسمع كثرًا يحنّون الى ما يسمونه عصر الليبرالية العربية، أي عصر ما قبل الثورات والانقلابات، ليؤكدوا انه كان ديموقراطيًا، ولو نسبيًا. هذا غير صحيح. فالأمور حينها كانت أسوأ مما هي الآن، ويسري هذا على القضية الفكرية ايضًا.

ألم يكن كتّاب مثل العقّاد وأحمد لطفي السيد وطه حسين، صنّاع عصر ليبرالي ديموقراطي حقيقي أتت الانقلابات وحكم العسكر لتنسفه؟

كانوا قلة ضئيلة، ليست فعّالة حقًا. كنا في حاجة الى ملايين منهم كي تبدو الأمور معقولة. حتى الكتّاب والمفكرون التقدميون، كانوا متخلفين اجتماعيًا. يقولون امام الملأ امورًا، ويمارسون غيرها في حياتهم الخاصة.

لماذا، في رأيك؟

لأن التربية هي هكذا، الطفل ينشأ منذ البداية في ازدواجية مرعبة. هناك التربية والظروف الاجتماعية... هناك إذا شئت جزء جيني وراثي لا بأس به. المكتسب، على اية حال، كان بإمكانه ان يغيّر الموروث، لكنه لا يفعل. لماذا؟ ربما لأن لدينا طبقة مثقفة تحب ان تعيش في كنف السلطة دائمًا، لا تستطيع ان تخرج من حضنها. وحتى حين تكون معارضة، تتطلع الى السلطة وتساير – ناسية افكارها – من يمكنه ان يوصلها الى تلك السلطة. اصدقاء كثر لي، وفي الصفوف التقدمية يقولون لي دائمًا ان عيبي الأساس يكمن في انني لا أمد جسورًا مع السلطة "ولن تكوني كاتبة كبيرة إلا إذا مددت تلك الجسور".

سألح هنا على سؤال: لماذا كانت النخبة هكذا دائمًا؟

ببساطة لأن ما يصلح النخبة هو القوى الناقدة التي تقف في مواجهتها وتحركها للسير في الطريق الصحيح. تحركها ضد طبيعتها البشرية. هات أي حاكم نظيف وضعه فوق نظام فاسد، سيفسد بدوره. هذا ينطبق على المثقف. السلطة أكبر من الفرد، والمجتمع أكبر من المثقف. وحين تتحالف السلطة والمجتمع متواطِئَيْن من اجل إبقاء التخلف... قل على الفكر السلام!

لكن الصورة الآن تقول اننا لسنا وحدنا في العالم. الغرب اليوم يحمي حقوق الإنسان ويشجع التفكير الحر، ويتحدث بإلحاح عن الإصلاح ويدافع عن المرأة... ألا ترين في هذا ايجابيات؟

لا أعتقد بأن الغرب هو من يفعل هذا. ليس بوش ولا الحكومات الأوروبية. من يفعله هو منظمات حقوق الإنسان والقوى المستقلة. مهما يكن، ارى ان من يحمي الواحد منا هو عمله، قراؤه. انا لديّ أعداد كبيرة من القراء أناثًا وذكورًا يقرأون لي بالعربية وبلغات اخرى، وهم ايضًا يمولونني اذ يشترون كتبي. لو كان "أكل عيشي" مرتبطًا بحكوماتنا لتغيّر. انا ضد البطولة الفردية وقلت ان الظروف الاجتماعية أقوى من الأفراد. مشكلة النخبة ومأساتها في بلادنا ان ليس لديها ظهر يحميها. بعض أفرادها موهوب الى حد كبير، لكن هناك آخرين لا موهبة لديهم ركبوا الموجة، مالأوا السلطات ومالأوا الخارج وكبرت أسماؤهم. فكيف تريد من هؤلاء ان يغيّروا مجتمعاتهم؟

لكن الأوضاع كانت مختلفة الى حد كبير خلال ما يسمى "العصر الليبرالي". كان العمل الفكري حرًا، وكان المفكر قادرًا على ان يفعل في المجتمع من دون خوف من السلطة أو طمع فيها. كان قادرًا على إدخال مجتمعه العصر وأفكاره.

مَن منعه من فعل هذا إذًا؟ كيف لم يستطيعوا تحريك الشعب في شكل خلاّق؟ ببساطة لأنهم عملوا كأفراد وفي شكل نخبوي... فقط حين ارادوا ان يتقربوا الى الشعب وضعوا كتبًا دينية! في المقابل تأمّل صورة العالم، حيث لعب الفكر دائمًا دورًا كبيرًا في تحريك الناس. لماذا؟ لأنه أدرك انه إذا حرّكهم حموه... خصوصًا عبر هيئات منظمة ونقابات وأحزاب. هناك، حين يتحرك الناس يكون وراءهم من يحميهم على كل المستويات. عندنا إما ان ينزل الناس بكثرة الى الشارع لتأييد السلطة، وإما ان ينزلوا قوة ضئيلة لمعارضتها، فتجد القلة نفسها مكشوفة من دون سند وتتعرض للقمع. خذ مثلاً الشبان الذين نزلوا دفاعًا عن القضاة في مصر قبل ايام... هل كانت للـ73 مليون مصري علاقة بهم؟ شاهدت العسكر يضرب الشبان والناس يتفرجون بل يسخرون من الشبان احيانًا. في المقابل ينزل الملايين من اجل كرة القدم.
اذا كان ثمة وعي مطلوب، يجب ان يصل الى القيادات الحزبية والاجتماعية، قبل ان نبذل المحاولات المستحيلة لإيصاله الى الملايين.

ولكن ألم يسد هذا الوعي طبقات المفكرين ايام "العصر الليبرالي" وقبله في عصر النهضة؟

- (مقاطِعة)... أراك تهتم كثيرًا بالعصر الليبرالي. في رأيي، كان سيئًا مثل عصرنا هذا، ولا أحب ان أعود إليه لمجرد ان ألف شخص أو ألفي شخص كانوا واعين خلاله ويقرأون باللغات الأجنبية...

لكن كثرًا يقولون ان العصر الليبرالي كان عصر فكر كبيرًا...

حسنًا هو نوع من الحنين الى الماضي... تمامًا كما حال الأصوليين حين يتحدثون عن عصر ذهبي للحكم الإسلامي. كما ان الأصوليين ينطلقون من هذا الحنين الماضوي، كذلك حال المثقفين الليبراليين اليوم. كل واحد يقول لك ان ما فات كان أجمل. هو على أية حال جزء من الخلل الفكري العام: حالة نفسية تعود في مرجعيتها الى الماضي، مثل حال المفلس الذي يجد عزاءه بالقول إن أباه كان ثريًا. ترى، كيف تصدق ان العصر "الليبرالي" كان أفضل وفيه كان الفلاح يساق بالسوط ويوضع في السجن ويُقتل من دون رحمة؟!

إذًا، لستِ من الذين "يحنون" الى العصر الليبرالي او يجدون الجواب في الفكر النهضوي؟ فماذا تقولين عن محمد عبده وأحمد أمين وطه حسين مثلاً؟

محمد عبده كانت لديه أفكار ايجابية جدًا، ولكن ايضًا أفكار سلبية جدًا ومتخلفة... مثل كل مفكر. أحمد أمين ايضًا كان رجعيًا في أمور وتقدميًا في أمور أخرى. ومهمتنا اليوم ان ندرسهما وننقدهما كي نفرّق بين الإيجابي والسلبي لديهما.

اذًا، فكر العصر الليبرالي لم يكن نقديًا؟

جزء منه كان نقديًا. محمد عبده مثلاً انتقد امورًا كثيرة، ومع هذا ربما يصح القول ان الفكر الليبرالي كان يعيش ازدواجية خطيرة، مثلما حال المجتمع الذي عبّر عنه: مجتمع كان فيه الملايين يعيشون اوضاعًا بائسة ويعاملون كعبيد، بينما تتمتع القلة المنتمية الى الطبقات العليا بكل الخيرات.

ماذا عن النزعة التقدمية التي يراها كثر، أكثر جدية وسادت في الفكر العربي إثر هزيمة حزيران 1967 التي عرّت الأنظمة حتى من ورقة التوت ووضعت هذا الفكر العربي امام مسؤولياته؟ توافقين طبعًا على ان دراسات وكتبًا عنيفة في نقدها حتى لأكثر البنى الحساسة في المجتمع، صدرت في ذلك الحين وبعده؟

هذا صحيح. أظهرت الهزيمة امورًا كثيرة كانت خفية وباتت على السطح، وكشفت ان المجتمع كان متخلفًا تخلف الأنظمة حتى قبل الهزيمة، وتخلفه هو الذي جعلها ممكنة. وهذا أكدته كتب ودراسات مفسرة ان هزيمة 1967 لم تكن فقط هزيمة عسكرية وإنما اجتماعية واقتصادية ونفسية كذلك. تلك الهزيمة – وعلى رغم كل جهود المثقفين الناقدين – أتت بأنور السادات الى الحكم.
دخلنا عالم الاستسلام، واليوم جاء دور العراق الذي صار ايضًا مستعمرة واقعة تحت ربقة الاحتلال الأميركي – الإسرائيلي، والاستعماران واحد. في الستينات، كان لا يزال هناك مقدار من الكرامة والاستقلال. اقولها اليوم على رغم انني كنت ولا أزال ناقدة لحكم جمال عبد الناصر. في الستينات كان ثمة مشروع استقلالي ولو هزيل... المؤسف انه تم من دون مشاركة حقيقية من الجماهير تخاطب وعيها. استخدمت الجماهير ديماغوغيًا لتصفق، لا أكثر.

ألاحظ ان في حديثك امرًا غائبًا: الأصوليون... الإرهاب... المجتمع الذي يزداد عنفًا...

من اين جاء هذا الإرهاب. ومن اين اتى الأصوليون؟ في الخارج ثمة مقولة تفيد بأن بن لادن وجورج بوش وجهان لعملة واحدة. كل منهما يبرر الآخر، وكل منهما اتى بالآخر الى الموقع الذي احتله!

وصدام حسين؟

طبعًا، صدام ايضًا، هو التوأم الثالث، منذ كان متحالفًا مع الأميركيين حلّت الكوارث على هذه الأمة. من البدايات الجديدة للانهيار العربي، تسبّب صدام في إشعال اول حرب إسلامية – إسلامية في التاريخ الحديث بدءًا من العام 1980. وهو استخدم خيرات الأرض العراقية وأموال الشعب العراقي لإفساد الناس وشن الحروب وقتل العزّل من السلاح. تسألني بعد هذا عن الإرهاب؟ حسنًا السؤال الواضح هو: لماذا اصبح جزء كبير من الشارع العربي يميل الى الإرهاب والعنف؟... أنا لا أفصل الظواهر عن بعضها بعضًا. لا أفصل الجسم عن الروح. في مجتمعاتنا، ومنذ زمن، ظاهرات يمكن ان تُلاحظ خصوصًا في مصر: ملايين الشبان العاطلين من العمل والفقراء الذين لا يذهبون حتى الى المدارس. انهم هناك يكوّمهم الجوع والفقر واليأس في زوايا الشوارع، مقتلَعين غالبًا من مناطقهم الريفية التي يغيب عنها كل أنواع التنمية، زراعية وصناعية. هؤلاء الشبان هم فريسة الجماعات التي تجندهم وتحولهم إرهابيين. الشارع صار هكذا لأسباب اقتصادية واجتماعية، وبتسهيل من الأسباب السياسية، ناهيك بالأسباب النفسية والأخلاقية والمرتبطة بالحرمان والكبت الجنسيين. تُرى أفلا يضعنا هذا كله امام توقعات أشد سوءًا: توقعات حروب أهلية هنا وهناك؟

هل تريدين القول انك تفهمين الإرهاب أم انك تبررينه؟

طبعًا أفهم الإرهاب ولا أبرره على الإطلاق أكاد أن أصبح ضحية له. فأنا مطاردة على الدوام ومهددة بالقتل، لا لشيء إلا لأنني أفكر. ولكن علينا ان نلاحظ ان ثمة انواعًا من الإرهاب: إرهاب يمارسه شبان يائسون سُدّت في وجههم كل الدروب، وإرهاب يخطِّط له محنكون سياسيون محترفون يستغلون الأوضاع للوصول الى السلطة، بصرف النظر عن مضمونها، وهناك إرهاب الدول. هناك إرهاب "القاعدة" وإرهاب بن لادن، ثم الإرهاب الذي كان يمارسه صدام حسين ولا يزال أصحابه يمارسونه. وكتتويج لهذا كله، هناك إرهاب جورج بوش أليس كذلك؟ ترى، عن أي إرهاب يجب ان نتحدث؟ هل فقط عن إرهاب الشبان الذين يُحوَّلون – غالبًا في غفلة منهم – الى قنابل بشرية تقتل الأبرياء وتدمر الحضارات؟

قلتِ في البداية انه كان من حسن حظك ان اسمك ورد على قائمة المطلوب قتلهم... لماذا؟

إنطلاقًا من القول المأثور: رب ضارة نافعة. ادى بي ذلك الى الهرب الى الخارج، ما أتاح لي ان أرى أحوال العالم عن كثب وأن أدرّس في الخارج طوال 13 سنة.

إنطلاقًا من كل ما تقدم، ومن ان تعبيراتك تدل على انك – رغم كل شيء – متفائلة... أسألك: ما دورك كمثقفة وكاتبة، وما مفهومك لهذا التفاؤل؟

دوري ما أقوم به بالفعل، وهو يملأني تفاؤلاً من دون أن أكون حتى متأكدة من النتائج. فأن تعمل معناه انك تؤمن بأن ثمة دربًا ستقودك حتمًا الى مكان ما. وأنا، لا سيما في هذه الفترة أعمل باستمرار. اكتب رواية أحاول ان ادرس فيها، نفسيًا، شخصية الإرهابيين من خلال فتاة تُكلَّف مهمات. ومن ناحية ثانية، أساند ابنتي منى نوال حلمي، في معركتها من اجل فرض استخدام اسم أمها في اسمها، الى جانب اسم أبيها، وهي معركة تشغل الناس والصحافة في مصر الآن، ولها بالنسبة إلينا دلالات مهمة. بعد ذلك أجدني منشغلة في تأسيس اتحاد نساء مصر الذي نكافح من اجل قيامه منذ اكثر من سنة ونصف السنة، وتقف الى جانب كفاحنا قطاعات عدة، رجالاً ونساء، فيما تقف السلطات الرسمية ضدنا، ثم هناك المجلة الإلكترونية التي نصدرها ونوقع فيها جميعًا، نساء ورجالاً، بأسماء أمهاتنا الى جانب أسماء الآباء.

أنت إذًا، في قلب نشاطات المجتمع المدني. هل ترين ان هذا المجتمع يمكن ان يكبّر حجم النخبة ويجعلها فاعلة فيه؟

هناك نوعان من المجتمع المدني: مجتمع مدني تمويله كله خارجي فيصبح ولاؤه لمن يموّل. انا لست ضد التمويل الآتي من الخارج، ومن أطراف مستقلة، لكنني ضد الخضوع للتمويل، لأن من يخضع لمن هو خارج مشروعه لا يكون في إمكانه ان يحدث أي تغيير في مجتمعه. في المقابل هناك مجتمع مدني مستقل، يعتمد على التمويل الذاتي. نحن، في حلقتنا الخاصة، نمول أنفسنا بأنفسنا ما يحفظ لنا استقلالنا ودرجة وعينا ومستوى رغبتنا في التغيير، وهذا يعطينا أملاً متواصلاً منطلقًا من قدراتنا الذاتية. وهو أمل لا أعتقد بأن ثمة إمكانية للعيش ومواصلة الكفاح من دونه. ان انفتاحنا على العالم وانفتاحه علينا، والإمكانات الجديدة التي يتيحها الإعلام والتواصل، تزيد جرعة هذا الأمل.

انت إذًا من الذين يحاولون الإفادة من العولمة بدلاً من رجمها وإلصاق أبشع النعوت بها، كما يفعل عدد كبير من المثقفين العرب الذين لا فارق لديهم بين العولمة والاستعمار...؟

انا ضد العولمة حين تكون حالة هيمنة على العالم واستغلال لمقدرات البشر والشعوب. لكنّ هناك لحسن الحظ، انواعًا من العولمة، هناك خصوصًا العولمة التي تساعد الشعوب على فهم معنى حريتها والوصول الى هذه الحرية. العولمة الحقيقية هي حماية للبشر وتوعية لهم، هي العولمة الإيجابية التي تنطلق من تحت لتحرك الشعوب، في مقابل العولمة الفوقية التي ليست سوى تحريك رأسمالي للحكومات وسرقة لأموال الناس. هذا التفريق يجب ان نفهمه جميعًا، ولا سيما نحن العرب الذين، إن فهمنا العولمة جيدًا، سنكون قادرين على الإفادة منها. ما يؤلمني انني كلما شاركت في منتدى عالمي، غير رسمي، أي حر ومستقل، أرى كل شعوب العالم حاضرة إلا العرب.


(الحياة)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مسلسل-دكتور هو- يعود بعد ستين عاما في نسخة جديدة مع بطل روان


.. عالم مغربي يكشف الأسباب وراء حرمانه من تتويج مستحق بجائزة نو




.. مقابل وقف اجتياح رفح.. واشنطن تعرض تحديد -موقع قادة حماس-


.. الخروج من شمال غزة.. فلسطينيون يتحدثون عن -رحلة الرعب-




.. فرنسا.. سياسيون وناشطون بمسيرة ليلية تندد باستمرار الحرب على