الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر والنيل: الحياة والخطر

نايل شامة

2020 / 7 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


ربما كان المؤرخ الإغريقي المعروف هيرودوت أفضل من رصد علاقة مصر الفريدة بنهر النيل، حين صاغ منذ 2500 عاماً عبارة: "مصر هبة النيل". لقد كان "أبو التاريخ" محقاً، فقد أعطي النهر لقدماء المصريين كل شيء: الماء، والمأكل، والحيوانات، والتجارة، والمواصلات، أي كل أساسيات الحياة. ولولا وجود هذا النهر، لظلت مصر مجرد صحراء قاحلة وحارة. ولكن النهر الأطول علي وجه الأرض تمكن من نثر بذور أحد أكبر حضارات العصور القديمة، وأكثرها جذباً للاهتمام.

ولكن السؤال يبقى: أمازالت مصر هبة النيل؟ الواقع يحتم إجابة هذا السؤال بالنفي، وذلك لأسباب عديدة.

فعلى سبيل المثال، اشتغل السواد الأعظم من قوة العمل المصرية بالزراعة لآلاف السنين. فقد كانت ضفتي النيل ومنطقة الدلتا بمثابة جنة المحاصيل الزراعية علي الأرض، نتيجة لكثرة الطمي بهما. ومنحت تلك الأرض الخصبة المصريين مجالاً واسعاً للعمل، وأماناً مادياً كبيراً. وبمرور السنين، ارتبط الإنسان والأرض ببعضهم البعض ارتباطاً شديداً. فكما يقول المثل المصري الشهير "الأرض هي العرض". فبيع الأرض أو التخلي عنها يعد طبقاً للثقافة المصرية أمراً يجلب العار، وهو عمل لا يقدم عليه الرجال. وقد وصف المؤرخ البارز إدوارد لين في القرن التاسع عشر خوف الإنسان المصري من ترك أرضه الأم قائلاً:

"يعد حبه لبلاده وخاصة لبيته خاصية من خواص المصري الحديث. وبصفة عامة لدى المصري خوف كبير من ترك أرضه الأم. وقد سمعت عن العديد من المصريين الذين قرروا زيارة بلاد أجنبية من أجل المزايا الكثيرة التي تنتظرهم هناك، ولكن العزيمة خانتهم دائماً عند اقتراب موعد الرحيل."

إلا أن هذا النسق الراسخ قد تغير في القرن العشرين نتيجة لعمليات التحديث والتصنيع التي جرفت أمامها كل شيء. فقد أدت الظروف الاقتصادية المتداعية بوطننا الأم إلي ابتعاد الكثير من الفلاحين في العقود القليلة الماضية عن أراضيهم والمجازفة بكدهم في أراض أخري. وفي إطار البحث المحموم عن العملة الصعبة، أصبح حرث وزراعة أراضي الغير – في العراق أو ليبيا مثلاً – عملاً لا ينم عن ضعف الولاء، وغياب الإخلاص، كما اعتبره الأسلاف. وفي غضون سنوات قليلة، تحول "الخوف" من ترك الوطن الأم إلي هجر جماعي له.

كما أن توجه الثورة المصرية بعد عام 1952م نحو الاهتمام بالصناعة، وتأسيس قطاع عام ضخم استقطب ملايين العمال ممن كانوا يعملون سابقأً بالزراعة. وتلقي الإحصائيات بالضوء علي التغير الذي أحدثته هذه الظاهرة. ففي عام 1965، اشتغل ما يقرب من 55% من العمالة الوطنية بالزراعة. أما علي مشارف القرن الحادي والعشرين، فقد انخفضت نسبة المشتغلين بالزراعة إلى حوالي ثلث قوة العمل فقط، في مقابل نسبة كبيرة تُقدر ب 51% تعمل بقطاع الخدمات.

وكنتيجة منطقية انخفضت نسبة مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي بشكل جلي. فقد ساهمت الزراعة بحوال 31% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1972. ولكن بعد مرور عقود على ذلك، توقف إسهام الزراعة عند نسبة منخفضة بلغت 14.7% مقابل 49.8% و35.5% ساهم بها قطاعي الخدمات والصناعة علي التوالي. وفي نفس الوقت، انخفضت حصة الزراعة من إجمالي قيمة الصادرات من 71.2% عام 1966 إلي 21.5% عام 1990.

علاوة علي ذلك، أصبحت أرض مصر الخصبة - والتي كانت يوماً ما سلة غلال العالم أيام الإمبراطورية الرومانية - غير قادرة علي إطعام شعبها. لقد تمتعت مصر باكتفاء ذاتي حتى عام 1960 في كافة السلع الغذائية الأساسية تقريباً، ماعدا القمح، الذي كان الإنتاج المحلي منه يغطي 70% من معدل استهلاكه. إلا أن هذه النسبة تغيرت علي نحو كبير في العقود التالية، نظراً للنمو المطرد للسكان، والمعدلات المتزايدة للتصحر. وبنهاية الثمانينات، أصبح الاكتفاء الذاتي من السلع الغذائية الأساسية مثل القمح والعدس وزيت الطعام لا يتعدي نسبة 20%. وهكذا أصبحت مصر تعتمد بشكل متزايد علي المعونة الأمريكية، التي قدم برنامج الغذاء بها مليارات الجنيهات من الغذاء. وتشير التقديرات إلى أن البرنامج وفر لعدة سنوات ما يقرب من ثلث الخبز المباع في القاهرة.

كما أن كثيراً من القرى المصرية محرومة من الماء العذب، رغم محاذاتها لنهر النيل. وقد تتفاقم تلك المشكلة في العقود المقبلة إذا انخفضت حصة مصر من مياه نهر النيل، وهو أمر وارد في ظل بناء سد النهضة في أثيوبيا والذي قد تبدأ عملية ملء خزانه هذا الشهر.

من ناحية أخرى، انقطع الرابط النفسي المميز الذي ربط بين النهر والشعب المصري لآلاف السنين. ففي الماضي، كان الاحترام والتبجيل من أهم السمات التي ميزت أسلوب تعامل المصريين مع هذا المجري المائي الواهب للحياة. لقد أسموه "النهر العظيم"، وجعلوا لفيضانه السنوي إلهاً يُدعي حابي. كما آمنوا بأن هذا النهر المقدس هو ممر الانتقال من الحياة إلي الموت، ثم حياة بعد الموت. ولذلك بنوا كل مقابرهم علي الضفة الغربية للنيل (وهي الضفة التي ترمز إلي الموت طبقاً لعقيدتهم) حتى تيسر الولوج إلي حياة ما بعد الموت.

تغير كل ذلك كلية، فلم يعد نهر النيل مقدساً في أعين المصريين كما كان. بل إن المفارقة المؤلمة تتمثل في أن النهر الذي وهب المصريين الحياة يُساء التعامل معه علي نحو سافر. فتصريف الكيماويات والنفايات الصناعية والقمامة ومياه الصرف في قنواته يحدث بمعدلات خطيرة. والتلوث الناتج عن ذلك تسبب في إحداث ضرر يتعذر إصلاحه في الثروة السمكية، وأدي إلي انقراض عدداً لا يحصي من سلالات الطيور، كما أدي إلي تكوين موطن كبير للطفيليات التي تهدد الحياة، فضلاً عن انتشار الحشرات المسببة للعدوى. هذا بالإضافة إلي تلوث المياه بالأسمدة والمبيدات التي تتسرب من التربة، لتتسبب في ازدياد معدلات الإصابة بأمراض الكبد، والفشل الكلوي.

تُخَلَّد الشعارات البراقة في العقل الجمعي حين يتشدق بها الناس لفترة طويلة من الزمن دون مراجعة مدي صحتها، وذلك خصوصاً حين تكون مشبعة بالمشاعر الدينية أو الوطنية. وتعد عبارة هيرودوت خير دليل على ذلك. فقد تضاءلت كثيراً إسهامات نهر النيل في رفاهة هذا الوطن، وفقد قدسيته علي مر العقود القليلة الماضية. تعد مصر تاريخياً "هبة النيل"، ولكن مصر المعاصرة ليست كذلك، وإن استمرت المعدلات الاقتصادية الحالية في المستقبل، فمن المتوقع حدوث فجوة أعمق بين النيل والشعب المصري عبر العقود القادمة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب: حملة -تزوجني بدون مهر-.. ما حقيقتها؟ • فرانس 24 / FR


.. كأس أمم أوروبا 2024: ديشان يعلن تشكيلة المنتخب الفرنسي.. ما




.. هل تكسر واشنطن هيمنة الصين بالطاقة النظيفة؟


.. سكان قطاع غزة يعانون انعدام الخيام والمواد الغذائية بعد نزوح




.. إسرائيل تقدم ردها لمحكمة العدل الدولية على طلب جنوب إفريقيا