الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سلسلة فنارات - ج2 - الحاج سعود الفالح

حامد تركي هيكل

2020 / 7 / 3
الادب والفن


يشعر فاضل العطية بالملل فقد طالت مدة الحظر بسبب تفشي جائحة كورونا. تعوَّد فاضل العطية في هذا الوقت من كل سنة السفر الى الخارج لقضاء شطراً من العطلة الصيفية. أما هذا الصيف فيتعين عليه البقاء في بيته.
حاول وضع خطة تتضمن قراءة عدد من الكتب، ومراجعة عدد من البحوث العلمية، ومشاهدة عدد من الأفلام السينمائية، فضلا عن حضور عدد من الندوات التي تقيمها مراكز البحوث العالمية عن بعد. كتب كل ذلك بقصاصات علّقها على الجدار خلف مكتبه، إطار من الخشب يحيط بلوح من الفلّين، ذلك الجدار الذي يضمُّ صورا، وقصاصات، وأجزاء مقطوعة من جرائد، وأجزاء من صفحات كان قد طبعها، ولون بعض الأسطر منها باللون الأصفر. ياله من جدار طلسمي.
مرة أخرى نظر من نافذته الى الحديقة التي جفَّت. فالرطوبة التي احتفظت بها من فصل الشتاء الماضي والتي ساعدت على نمو أدغال بريّة فيها، قد تبخرت بفعل حرارة حزيران، ثم ها هو تموز يجهز على ما تبقى فيها من حياة ما زالت تقاوم. فتحولت الحديقة الى عيدان جافة.
فكر لو أن عود ثقاب أو عقب سيجارة أُلقيَّ على الحديقة في يومٍ حار، ستحصل مصيبة. لن ينجو البيت من ذلك الحريق. وتخيَّل منظرا مرعبا هزّ كيانه. تخيل ألسنة النار وهي تتصاعد من حديقته المتوحشة لتعلق بالأبواب، يتكسر زجاج النوافذ، تعلق النيران بالستائر، تحترق كابلات الكهرباء، تنفجر قنينة الغاز في المطبخ، وتلك القنينة الاحتياطية الموضوعة في مرآب السيارة، وينفجر خزان وقود السيارة، أوه كارثة.
حاول أن يطرد تلك الصورة من ذهنه، بحث في هاتفه النقّال، بحث في قائمة الاسماء عن اسم الفلاح الذي نسيه. جرَّب أن يبحث تحت اسم فلّاح، لا نتيجة، جرَّب أن يبحث تحت اسم حديقة، لا نتيجة، أخيرا اهتدى الى طريقة جيدة، إتصل بجاره يسأله عن الفلاح. ليـأتي لتنظيف الحديقة من الأدغال.
جلس على الأريكة متعبا، وكأنه قد أطفأ حريقا للتو. حاول أن يستريح، بيد أن صورة ألسنة النار التي اشتعلت في خياله قبل قليل، قد أيقظت حريقا آخر في ذاكرته، حريقا حقيقيا قد حصل قبل نصف قرن.
ما الذي جعل تلك الحادثة مرتسمة في ذهنه كل تلك السنين؟ هل لأنها أول حريق يشهده منذ أن كان في الثالثة عشرة من عمره؟ هل لأنه حريق هائل؟ أم لسبب آخر؟
إرتبطت ذكرى ذلك الحريق في أعماق ذاكرته بصورة رجل شيخ. شيخ ضخم الجثة، بدين، في أواخر أيامه. وبسبب بدانته كان لا يستطيع الحركة إلا بالكاد. كان يجلس أمام بيته قرب ذلك الجسر الذي يربط ضفتي نهر خضابوه، على حصير من البردي كل يوم. يرتدي دشداشة بيضاء، وكوفية بالأبيض والأسود، فوقها عقال سميك جدا ويضع عباءته الصوفية السوداء ملفوفة بجانبه، هي وعصاه الغليضة. وجهه المحمر، تعلوه ابتسامة دائما. كان ذلك هو الحاج سعود الفالح.
القرية عبارة عن تجمع عشوائي من بيوت متداخلة لا تكاد تميّز لها حدودا. صرائف من القصب، غرف من الطين، سوابيط من جذوع النخل، أكداس من سعف النخيل اليابس مخزونة هنا وهناك من أجل استعمالها كحطب للتنانير التي تخبز فيها النساء الخبز مرتين أو ثلاث مرات باليوم. أكداس من الحشيش اليابس ( يبيس) علف للبقر في فصل الشتاء، قباب من أقراص روث الحيوانات المجفف بالشمس والذي يستخدم كوقود شتاءا، ولغرض عمل المداخن صيفا من أجل طرد البعوض القارص. مائة وخمسين مترا طولا بمائة متر عرضا تلك كانت أبعاد القرية وهي عبارة عن كتلة متصلة متكونة من أربعة مضائف طويلة مبنية من القصب والحصران وسعف النخيل اليالبس وجذوع النخيل، فضلا عن البيوت المتراصة المتداخلة مع حضائر البقر والغنم والدجاج، كتلة من المادة القابلة للاشتعال، تضم أربعة عائلات ممتدة كبيرة، انشطرت الى عشرات العائلات الصغيرة. كانت تلك هي القرية.وبيت الحاج سعود الفالح بطرفها الجنوبي الشرقي قرب الجسر.
في عصر يوم صيفي حار، اندلع حريق وسط القرية. كان منظرا مرعبا. ركض فاضل وهو في الثالثة عشرة من عمره من بيتهم الذي يقع على بعد مائة متر من القرية لمشاهدة الحادث عن قرب. وقتها كان لا يأبه إلا باللهو. ولم لا وهي العطلة الصيفية، حيث لا دراسة ولا واجبات. كان مهتما بالتنزه بالزورق، وصيد السمك، والطيور، والعثور على أعشاش البلابل وسرقة الفراخ منها. إقترب من الحاج سعود الفالح الذي كان عاجزا عن الحركة بسبب وزنه وعمره. فوجده متوترا، سمعه يناديه:
- فاضل،ها يا ابني، وين ابني، اليوم يومك ابني!
هزَّت تلك الكلمات فاضل الطفل هزّا، أخافته، أرعبته، أحسَّ بثقل المسئولية التي ألقيت على كاهله للتو،كاد يبكي، أحس بمغص فظيع يلوي أمعاءه ليّاً، وشعر بالأهمية أيضا. فها هو الرجل الكبير الحاج سعود الفالح بنفسه وهو أحد الأجداد الكبار في القرية يستثير همته، ويضع على عاتقه مسئولية كبيرة.
- طفّيها ابني اليوم يومك.
أيقظت كلمات الحاج سعود الفالح في قلب فاضل الطفل الغرّ رجلا، وليس أيَّ رجل، بل رجل شجاع مقدام، يتصدى للكوارث، ويواجه الصعاب.
هرع فاضل الى بيته، أطلق ساقيه للريح، كان يعجب من قدرته على الركض بمثل تلك السرعة التي لم يكن يعرف أنه قادر عليها من قبل. جمع كل الأواني التي استطاع جمعها، مركزا على الجرادل التي يحتو ي كل منها على عروة. حملها وذهب ليسلمها للرجال الذين كانوا مذعورين لا يعرفون ما الذي عليهم فعله. صرخ بهم، نظَّمهم بطابور. أولُه عند النهر حيث مجلس سعود الفالح وآخره عند الحريق. صارت الجرادل تنتقل سريعا، جيئة وذهابا، تُملأ بالماء فتتلقفها الأيدي، وتصبُّها على الصرائف المشتعلة. دبَّت في رجال القرية وشبابها وأطفالها وأحداثها ونسائها حركةٌ دؤوبة، تنبه الجميع لأهمية الجرادل، جمعوها من كل مكان، وجمعوا القدور وصفائح الدهن الفارغة وكل ما يمكن أن يُملأ ماءً. صارت الطوابير تسكب المزيد من الماء على ألسنة النيران. وما هي إلا لحظات حتى خمدت النار في أرجاء القرية التي كانت قبل دقائق أتون نار مستعرة.
بعد أن خمدت النيران. كان الحاج سعود الفالح يلهج بالدعاء.
- عفية فاضل، عفية فاضل، رجل فاضل، شجاع فاضل.
ظل الحاج سعود الفالح يكرر حكاية الحريق حتى آخر أيامه، وظل يشكر فاضل وشجاعته ودوره. منذ تلك اللحظة، لم يعد فاضل ذلك الطفل اللاهي. صار رجلا. واستمرأ حياة الرجال على حياة الطفولة التي بدأ ينفر منها، وشعر أنها لا تليق به.
ربما يكون ما حصل فعلا أقلَّ بكثير من تلك الأحداث التي حُفرت في ذاكرة وضمير فاضل عن ذلك النهار. مؤكد أنها أقل بكثير، فقد راكمت عليها السنون اضافات، وزادت عليها الأيام تفاصيل لم تكن فيها، ربما. أو ربما كان ما حصل أجمل وأعمق وأكثر مما يتذكره فاضل العطية اليوم. من ذا الذي يستطيع الجزم؟ خمسون عاما من الكفاح. ولكن الشيء المؤكد أن دعوة الحاج سعود له في ذلك الموقف العصيب، كانت لحظة فارقة أسهمت في بناء شخصيته، وعزَّزت ثقته بنفسه، وكان لها دور في تكوينه. ليس في ذلك الزمان فحسب، بل أن دورها وتأثيرها وفعلها لازال قائما حتى هذه الساعة، يستشعرها فاضل العطية، ويستثمرها من أجل خوض معاركه التي لا تنتهي.
رحم الله سعود الفالح بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حكايتي على العربية | ألمانية تعزف العود وتغني لأم كلثوم وفير


.. نشرة الرابعة | ترقب لتشكيل الحكومة في الكويت.. وفنان العرب ي




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيب: أول قصيدة غنتها أم كل


.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أول من أطلق إسم سوما




.. عوام في بحر الكلام - الشاعر جمال بخيت: أغنية ياليلة العيد ال