الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القوة الناعمة المصرية: الرصيد والتحدي

نايل شامة

2020 / 7 / 3
السياسة والعلاقات الدولية


على كثرة ما كتب جوزيف ناي أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد في شئون العلاقات الدولية على مدى أكثر من أربعين عاماً، يبقى مفهوم "القوة الناعمة" من أهم وأعمق ما كتب، وربما يدل إشارة ناي إليه في كتابين وبحث أكاديمي ثم في كتاب منفصل مخصص بالكامل لشرح المفهوم وأهميته ما يدل بوضوح على ذلك.

يقسم ناي القوة إلى نوعين رئيسيين، قوة صلبة وأخرى ناعمة. القوة الصلبة هي القوة التقليدية (عسكرية واقتصادية)، وهذا النوع يدرك أهميته جيداً ويستخدمه رؤساء الدول والساسة بشكل شبه يومي فيما يعرف بمنطق "العصا والجزرة"، فالقوة العسكرية (العصا) تقوم على الاستخدام الفعلي للأداة العسكرية أو على الأقل التلويح بها بينما تتمثل القوة الاقتصادية (الجزرة) في استخدام المساعدات الاقتصادية لحمل دول أخرى على اتباع سياسات معينة أو لإثنائها عن سياسات أخرى.

أما القوة الناعمة فلا تقوم على الإجبار والقسر، بل على الجذب والإعجاب. وخلاصة منطق ناي في هذا الصدد أن دولاً أخرى في النظام الدولي قد تعجب بك وبثقافتك وأسلوبك فتتبع السياسات الداخلية والخارجية التي تتماشى مع توجهاتك. في هذه الحالة - وحديث ناي مركز بالطبع على الولايات المتحدة – فلن تحتاج إلى خوض الحروب المكلفة أو إنفاق البلايين من الدولارات للحصول على ما تريد، بل ستتكفل قوتك الناعمة بتحقيق ذلك. وتتمثل أدوات القوة الناعمة بالتالي في الثقافة الآسرة والأيديولوجيا الجذابة والسياسات ذات الشرعية والمصداقية والسمعة الطيبة.

لا يعني ذلك أن القوتين الصلبة والناعمة تتحركان كلٌ في مدارٍ مختلف، أو أنهما منفصلتين تماماً، بل الثابت أن كلاً منهما تؤثر في الأخرى وتتأثر بها. فالانهيار المادي للاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات أثر سلباً على قوتها الناعمة دون شك. في المقابل، زادت القوة الناعمة لدول مثل الهند وباكستان مثلاً بعدما زادت قوتها الصلبة بالحصول على القوة النووية.

إلا أن بعض الساسة يغفلون أهمية القوة الناعمة، فقد دفعت سذاجة ستالين لأن يسأل مستنكراً عن "عدد الفرق العسكرية التي تتبع البابا"، وعندما سئل رجل مهووس بالقوة العسكرية مثل دونالد رامسفيلد عن القوة الناعمة أجاب بأنه يجهل أساساً ماذا يعني هذا المصطلح. على أن السذاجة والجهل ليستا مقتصرتين على ستالين ورامسفيلد، فالعديد من قادة العالم لا يرون من القوة إلا جانبها العسكري والاقتصادي ولا يستخدمون من أدواتها إلا السلاح والمال.

عندما يتفكر المرء في أمر القوة الناعمة، ويجول ببصره في أنحاء الوطن العربي، لا يجد أمامه إلا مصر، مستودعاً هائلاً للقوة الناعمة ومعيناً لا ينضب من الجاذبية والإشعاع والتنوير. تتميز مصر أولاً عن باقي دول المنطقة بموقع جغرافي فريد يطل على بحرين ويتحكم في ممر ملاحي هام كما يتوسط قارات العالم القديم الثلاث. هذا الموقع الفريد دفع قائداً عسكرياً محنكاً كنابليون بونابرت إلى اعتبار مصر "أهم بلد في الدنيا" ومثقفاً بارزاً كجمال حمدان إلى البحث في "عبقرية المكان والمكانة". وليس أبلغ في شرح أهمية موقع مصر الجغرافي مما كتبه حمدان عن شخصية مصر الإقليمية:

"هي بطريقة ما كاد تنتمي إلى كل مكان دون أن تكون هناك تماماً. فهي بالجغرافيا تقع في أفريقيا، ولكنها تمت أيضاَ إلى آسيا بالتاريخ. وهي متوسطية دون مدارية بعروضها، ولكنها موسمية بمياهها وأصولها...هي في الصحراء وليست منها، انها واحة ضد-صحراوية anti-desert بل ليست بواحة وانما شبه واحة هي. فرعونية هي بالجد، ولكنها عربية بالأب. ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدما في الأرض وقدما في الماء. وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم. وهي بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط، كما تمد يدا نحو الشمال وأخرى نحو الجنوب. وهي توشك بعد هذا كله أن تكون مركزا مشتركا لثلاث دوائر مختلفة بحيث صارت مجمعا لعوالم شتى، فهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الاسلامي، وحجر الزاوية في العالم الافريقي."

ورغم أن الموقع الاستراتيجي الهام جعل مصر عرضة لأفواج لا تنقطع من الغزاة والمستعمرين الذين استغلوا مواردها واستباحوا أعراضها وأخروا نهضتها (على عكس دولة مثل اليابان أتاح لها انعزالها الجغرافي المزيد من الوقت لبناء قوتها الذاتية) إلا أن ذلك الكم الهائل من الاحتكاك بالعالم الخارجي وثقافاته وخبراته قد أضاف إلى الشخصية المصرية عبر السنين كنوزاً معنوية تضاهي ما فقدته من كنوز مادية حتى صارت أشبه بالسبيكة المتكونة من عدة رقائق من الحضارات، وبالتحديد سبعة أعمدة كما أوضح ميلاد حنا في كتابه الهام "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية"، تتمثل في انتماءات تاريخية أربع (الفرعونية، اليونانية/الرومانية، القبطية والإسلامية) وانتماءات جغرافية ثلاث (عربية ومتوسطية وإفريقية). قارن هذا الغنى الثقافي بدولة كالصين ذات ميراث حضاري عظيم، ولكن ثقافتها تتكون من رقيقة واحدة إذ لم تغير الصين لغتها أو ديانتها أبداً على مر السنين.

وإشعاع الثقافة المصرية في كل أرجاء الوطن العربي لم ينقطع أبداً، فبالأدب والكتاب والدراما والموسيقى وبجيوش من الأدباء والفنانين والمدرسين وعلماء الأزهر أثرت مصر في عقول الملايين من العرب وصار لها مكاناً مميزاً في قلوبهم ما أتاح لها سنداً وظهيراً قوياً في أوقات الأزمات وما تجربة تضامن الشعوب العربية مع مصر ضد العدوان الثلاثي في عام 1956م ببعيد. كما كانت الدراسة بالمؤسسات التعليمية المصرية منتهى طموح أي شاب عربي، ويحدثنا أستاذ العلوم السياسية بهجت قرني عن طلبة المدارس الثانوية في الدول العربية الذين كانوا يدركون أن عليهم ممارسة أقصى جهد والحصول على أعلى الدرجات ليتمكنوا من الالتحاق بجامعة القاهرة، وإلا اضطروا إلى الدراسة بأكسفورد أو كيمبردج.

ومصر أيضاً – وليس أحداً غيرها في الوطن العربي - مؤهلة لقيادة المنطقة سياسياً حتى أن ثلاثين عاماً من محاولات العقيد القذافي المستميتة لقيادة المنطقة قد باءت بالفشل الذريع. لقد كان القذافي "زعيماً بلا دولة" أما مصر فأصبحت بعد رحيل القيادات "دولة بلا زعيم". لم تكن قيادة مصر للنظام العربي في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم تتعلق بشخصية عبد الناصر فقط (رغم أهمية تأثير كاريزما الشخصية) بقدر ما ارتبطت بامكانات مصر (وقوتها الناعمة في طليعتها). هل كان يمكن لعبد الناصر أن يلعب هذا الدور المؤثر في المنطقة العربية إن كان قد ظهر في اليمن مثلاً أو إحدى إمارات الخليج؟ الإجابة هي النفي القاطع.

إلا أن الكثيرين لم يفهموا مغزى عبارة هنري كيسنجر الشهيرة من إنه في الشرق الأوسط "لا حرب بدون مصر ولا سلام بدون سوريا"، إذ تصوروا أن كيسنجر يساوي بين أهمية ووزن مصر وسوريا في النظام الإقليمي العربي، وهو في تقديري فهم خاطئ. فبدون مصر "لا حرب"، أي لا قوة أو تأثير في الموازين الإقليمية، أما سوريا فيقتصر دورها على جعل السلام منقوصاً إن هي استبعدت من مسيرته. وهي نفس النتيجة التي وصل إليها السياسي اللبناني المحنك كمال جنبلاط، إذ قال قبيل وفاته أن من يحكم مصر هو بالضرورة "فرعون" أما من يحكم سوريا فمجرد "والي". بعبارة أخرى، ترسم مقولة كيسنجر – ببلاغة الإيجاز – صورة لهيراركية القوى في الوطن العربي، فتجئ مصر أولاً ثم سوريا ثم بقية العرب (أو الأصفار بحسب وصف عبد الرحمن عزام أمين جامعة الدول العربية الأسبق ونحن هنا لا نقر الوصف). وبديهي أن هذه القوة لم تنبع من وضع اقتصادي مريح، فقد عانت مصر دوماً من اشكالية نقص الموارد بالقياس لعدد السكان المتضخم، وهي لا تنبع فقط من قوتها العسكرية على أهمية هذا المصدر، وإنما ترتكز في الأساس على إشعاعها الثقافي اللامحدود، وجاذبية فنها وإعلامها ومشروعية – وشعبية - سياساتها، أي باختصار قوتها الناعمة. وحتى مساهمة القوة العسكرية في تعضيد قوة مصر فتعتمد في جزء كبير منها على القوة الناعمة، أي ميراثها النبيل في خوض أربعة حروب ضد إسرائيل والتضحية بآلاف الشهداء في سبيل قضايا عربية. ولعلنا نذكر أن تأثير مصر في فترات عدة تخطى حدود الجوار الجغرافي بكثير ليصل إلى أقاصي الأرض، ففي منتصف القرن التاسع عشر حارب الجيش المصري في المكسيك، وفي منتصف القرن العشرين أكد كاسترو لعبد الناصر كيف أن انتصار مصر في معركة السويس ألهم ثوار كوبا في نضالهم ضد حكم باتيستا الديكتاتوري.

لكن ذلك كله توارى في السنوات الأخرى. فقدت مصر بريقها وصعد آخرون إلى مسرح التأثير السياسي العربي. أين يكمن الخلل إذن؟ ولماذا أفل بريق القوة الناعمة المصرية في العقود الأخيرة؟ هذا ما نناقشه في الجزء الثاني من هذا المقال.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السيسي وبن سلمان: -إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة هي ال


.. هل تستعد إسرائيل لمواجهة غير متوقعة في جنوب لبنان؟




.. الجيش الإسرائيلي يصدر أمر إخلاء لمبنى بالضاحية الجنوبية


.. صور مباشرة للغارات الإسرائيلية على النبطية جنوب لبنان




.. وسط ترقب للرد الإسرائيلي على إيران.. شركات طيران عالمية تعلق