الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النفي العقلاني للراديكالية السياسية

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 7 / 6
مواضيع وابحاث سياسية


إن احد الاستنتاجات الجوهرية التي يتوصل إليها التحليل الفلسفي للظاهرة الراديكالية السياسية يقوم في أن البحث عن فعل أو حالة أو شخص أو رمز مقدس في التاريخ وجعله نقطة البداية والنهاية هو سجود أمام أوهام أيديولوجية لا تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى "خلود" بلا مستقبل! والشيء نفسه يمكن قوله والتدليل عليه في حال تناول عشرات بل المئات من المفاهيم والشعارات الواسعة الانتشار في ماضي وحاضر الحركات السياسية العراقية الحديثة.
ومازالت هذه الحصيلة تتمتع بقدر هائل من الدعم المباشر وغير المباشر من قبل الأحزاب السياسية العراقية الكبرى الفاعلة حاليا! ومن الممكن التدليل على هذه الحالة من خلال تحليل تاريخها السياسي بهذا الصدد، وبالأخص منذ أن ظهر "مجلس الحكم الانتقالي" ومساعيه الحثيثة لتحويل المؤقت إلى خالد. فعندما نتأمل تاريخ العراق السياسي وطبيعة التحولات العاصفة التي رافقت زوال الدكتاتورية وظهور "مجلس الحكم الانتقالي" وكيفية عمله على الساحة العراقية والعربية والدولية تضع من جديد اغلب الإشكاليات الكبرى التي واجهها العراق في تاريخه الحديث على بساط البحث. ولعل أكثرها جوهرية هي إشكالية الوعي السياسي الوطني للقوى والأحزاب السياسية العراقية الحالية في مواجهة المصير المأساوي الذي تعرض لها. وهو مصير يعبر عن إشكالية المقدس المعلن والسياسة الفعلية. وهي إشكالية نعثر عليها في طبيعة المفارقة التاريخية والسياسية لانحسار الادعاء الأيديولوجي بتمثيل «الشعب العراقي» وتعارضه الشديد في الكثير من الجوانب المهمة لحياة الدولة والنظام السياسي والمجتمع المدني مع سلوكها العملي. ويستعيد هذا التعارض في الكثير من عناصره الخطر الكامن بالنسبة لتدمير الشخصية الوطنية، واقصد بذلك إمكانية انتقال الأطراف إلى المركز، وصعود الهامشية إلى هرم السلطة، واستحواذ الأقلية على مقاليد الأمور. وهو سلوك يعبر عن انغماسها العميق في بقايا ومكونات البنية التقليدية، أي بنية ما قبل الدولة العصرية والقانون المدني الفعلي.
طبعا إن هذه الحالة ليست معزولة عن تاريخ العراق الحديث، الذي لم يتذوق فكرة الحكم الثابت ولم يعش بمعاييره. فقد كان تاريخه منذ عشرينيات القرن العشرين سلسلة من «الانقلابات» التي جعلت منه ميدانا لمختلف التجارب الراديكالية. حيث بلغت ذروتها بصعود التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وفيهما تجسدت بصورة «فاضحة» فكرة ونموذج «المؤقت» في كل شيء. بحيث تحول «المؤقت» فيه إلى ثبات دائم. وفي هذا تكمن إحدى السمات الجوهرية للخراب السياسي والاجتماعي الذي تعرض له المجتمع والدولة. إذ لا يعني «المؤقت» هنا سوى طابعه العابر والزهيد. الأمر الذي كان يسحق بصورة متتالية فكرة التراكم، بوصفها جوهر التقدم والتطور العقلاني والعملي للدولة والمجتمع.
فقد مر العراق بكل الأزمنة السيئة. لقد مر بزمن «صلاح الوالي وفساد الرعية»، وزمن «صلاح الرعية وفساد الولاة»، وزمن «فساد الولاة والرعية» الذي شكلت الفترة الممتدة من عام 1963 حتى عام 2003 ذروته العليا. ذلك يعني أن كل النصف الثاني من القرن العشرين كان زمن القلاقل وانعدام الثبات. وبغض النظر عن الاعتراضات الجزئية الممكنة على ما في هذا التوصيف العام، فإن حقيقته تبقى واحدة، بمعنى التأكيد على أن العراق لم يعش مرحلة «خيار الأزمان». لأنه لم يتحسس ويعقل حقيقة الزمن الثابت في السلطة، بوصفها سلطة شرعية مقيدة بالقانون وخادمة للمجتمع المدني. الأمر الذي يجعل من الحاضر والمستقبل قضية الرهان الفعلية. وبالتالي التعامل مع «خيار الأزمنة» على انه الخيار الوحيد الممكن والضروري بالنسبة للعراق من اجل تجاوز ضعفه البنيوي الكبير منذ نشوء الدولة في بداية القرن العشرين حتى الآن. ولا يمكن تجاوز هذا الضعف دون المرور بزمن «اجتماع الصلاح في الراعي والرعية»، أي في السلطة والمجتمع. ويمكن تحقيق ذلك فقط من خلال بناء دولة الحقوق الشرعية والمجتمع المدني. مما يفترض بدوره المطالبة العامة والدائمة بسلطة قوية للقانون ومجتمع مدني أقوى. وبالتالي ترابطهما الضروري، باعتبار أن أي إخلال بأحدهما هو إخلال بالآخر، مع ما يترتب على ذلك من خراب الاثنين. إذ للزمن بعد سياسي مهم هو «زماننا نحن». وهو مضمون السياسة والمقدس الفعليين.
وإذا كانت المرحلة المعاصرة من «الزمن العراقي» تدفع إلى الأمام إشكالية السياسة والأخلاق، فلأنه بلغ الذروة التي أطلق عليها ابن المقفع تسمية «شر الأزمان». وتكشف هذه الرؤية الفلسفية الثقافية السياسية عن قيمتها العلمية والعملية الكبيرة بالنسبة لترتيب الرؤية الضرورية عن علاقتنا بالزمن في الظروف الحالية للعراق لكي نجعل منها علاقة جوهرية بمعاصرة المستقبل. ومن ثم إعادة ترتيب الزمن بالطريقة التي تجعل منه «خير الأزمنة»، أي الزمن الثابت والدائم، أي التاريخ الفعلي المجرد عن ابتذال قيم المقدس الفعلية. ولا يعني ذلك من الناحية السياسية سوى العمل من اجل تحويل الزمن إلى تيار المعاصرة وليس إلى مجرد الانهماك الدائم في ترميم العلاقة «الطبيعية» بين السلطة والمجتمع.
فالتجربة التاريخية للعراق في مجرى القرن العشرين تجعل من الضروري الإجماع الملزم للحركات الاجتماعية والسياسية على مبادئ عملية بالنسبة لبناء مكونات تيار المعاصرة، أو معاصرة المستقبل فيه. ولعل أهمها هو الاقتصاد الديناميكي، والنظام الاجتماعي العادل، والثقافة الإنسانية الراقية، والعلم المتنور والتكنولوجيا الرفيعة، والتربية العقلانية الشاملة. فهي العناصر العملية الوحيدة القادرة على تجاوز ضعفه البنيوي. وفي وحدتها فقط يمكن بلوغ «خير الأزمنة». ولا يعني خير الأزمنة بالنسبة للعراق المعاصر سوى بناء أسس الزمن الذاتي، أي الزمن الذي ينفي الاغتراب والافتراق الفعلي بين المجتمع والدولة، أي بين الزمن والناس، أو بين التاريخ ووعي الذات. وبهذا المعنى يمكن اعتبار «الزمن البديل» مسئولية مشتركة للسلطة والمجتمع بقدر متكافئ تنهي «الحكم المؤقت» بكافة أشكاله ونماذجه، لا إعادة إنتاجه والتعود عليه. فالزمن المؤقت والحكم المؤقت وهم. بينما الحقيقة في الثبات. وليس المقصود بالثبات هنا سوى تذليل نفسية وذهنية إنتاج هالة المقدس المزيف في المشاريع الجزئية والمبتورة للقوى التي تضع نفسها فوق الجميع باسم الجميع مع ما يترتب على ذلك من تخريب لوعي الذات التاريخي السياسي الذي اشد ما يفتقده العراق في ظروفه الحالية.
وهي الحالة التي كشفت عن نموذجها التخريبي في الممارسة السيئة للقوى التي شكلت للامس القريب قوام «مجلس الحكم الانتقالي». إذ نعثر في التيارات والحركات الراديكالية الجديدة نموذجا جديدا لاستلهام فكرة المقدس من اجل بلوغ مآربها الجزئية ومشاريعها المبتورة بمقاييس التاريخ والمعاصرة والبدائل العقلانية. ولعل البروز الجديد للظاهرة الراديكالية، وبالأخص في نماذجها الإسلامية الطائفية هو المؤشر الأول على ذلك.
وفيما لو حاولنا تكثيف الرؤية النقدية للظاهرة الراديكالية فيما يتعلق بعلاقة السياسة والمقدس في العراق الآن، فانه يمكن صياغتها بالشكل التالي: إن المقدس الأوحد للراديكالية هو يقينها الخاص بما تعتقده. الأمر الذي يجعل من أفعالها تضحية دائمة لا غاية منها سوى «البرهنة» على «صحة» و«عظمة» عقائدها وشعاراتها المتعالية في سماء الأوهام. إلا أن الراديكالية لا تتحسس الآلام لأنها تجرّب كل نماذج الكسر العنيف على الآخرين، ولا تستمع لأي تأوه واعتراض ونقد لأنها تجد في الآهات نغم الوجود، وفي الاعتراض حجرة على قارعة الطريق، وفي النقد تشكيكا باليقين، ولا ترى الماضي لأنها تحتقر تجارب الأسلاف، كما أنها لا تشاهد الحاضر لأن عيونها شاخصة صوب مستقبلها فقط، ولا تشم نتانة الاستبداد المترتب على استهتارها بالحق والحرية لأنها مصابة بزكام التأفف من الهواجس والخواطر والأفكار المخالفة لها، ولا تتذوق طعم الحياة لأن ما يثير غريزتها دماء «الأعداء». ويمكن التدليل على هذه النتيجة في حال جمع الكلمات والعبارات والشعارات والتبريرات التي رافقت «جبهات» القتال في النجف والفلوجة وغيرها من مناطق العراق «الملتهبة». ففيها نرى اختبار العلاقة المبتذلة بين السياسة والمقدس. ففي مدينة النجف من خلال رفع شعار الدفاع عن «المدينة المقدسة» و«الصحن العلوي الشريف»، وفي الفلوجة من خلال رفع شعارات الدفاع عن «مدينة المساجد والجوامع» و«مقدسات الإسلام»! بينما لم تكن حقيقة الدفاع عن المقدسات سوى الصيغة الأيديولوجية للدفاع عن المصالح الضيقة للراديكالية الشيعية كما مثلها «التيار الصدري» آنذاك، و«مثلث برمودا» الذي لم يعرف منذ عقود عديدة شيئا غير ابتلاع أرواح العراق وأجساده!
ولعل أهم ما يميز الراديكالية الإسلامية العربية (الشيعية منها والسنية) الآن هو نظرتها الضيقة المقيدة بنفسية ومزاج وأهواء الحثالة الاجتماعية. الأمر الذي يحدّ من إمكانية نموها العقلاني، كما يجعلها بالضرورة أسيرة الحدود الضيقة في رؤيتها لآفاق تطوير الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة. ويمكن ملاحظة هذه العملية على مثال تزايد وتوسع وتعمق الشرخ السياسي والفكري والمعنوي بينها وبين المجتمع. مما يشير إلى مستوى وحدود وديناميكية الاغتراب السريع بين الظاهرة الراديكالية والمجتمع. وفي هذه العملية تكمن دون شك مؤشرات انحلال تأييد الرابطة العقائدية (الأيديولوجية) بين المقدس والسياسة في الوعي الجماهيري. وهي إحدى الضمانات الكبرى لكي لا تكون السياسة جزءا من المقدس ولا المقدس جزءا من السياسة. بمعنى ضرورة إدراك مقدمات وحدود ووظيفة كل منهما على حدة، السياسة باعتبارها علم وفن إدارة شئون الدولة والمجتمع بمعايير الحقوق والاجتماع المدني، والمقدس باعتباره كل ما لا يخضع لابتذال الدعاوى العقائدية والمصالح الضيقة أيا كان شكلها وهدفها المعلن.
ولا علاقة للاستنتاج المذكور أعلاه بالأحكام القيميية، بقدر ما أنه يستند إلى تعميم التجارب التاريخية للفكر السياسي العقلاني، التي تبرهن على أن السياسة والمصالح توأمان لا يمكن عزل أحدهما عن الآخر. ومن ثم صعوبة بل استحالة رفع هذا الترابط والعلاقة إلى مصاف المقدس. غير أن ما لا يعقل في المنطق يمكن أن يكون مقبولا في السياسة! لكنه قبول يعكس من حيث الجوهر مستوى المغالطة التي لا تؤدي في نهاية المطاف إلا إلى إفلاس هذه السياسة. فالسياسة الحقيقة تفترض التمسك بالمنطق لأنه سر نجاحها النهائي. الأمر الذي يجعل من الضروري ردها إلى ميدان فعلها الواقعي، أي إلى ميدان الوجود الاجتماعي وتمثل مشاكله والبحث عن حلول لها عوضا عن الارتماء في «مقدسات» لا يربطها بالسياسة سوى الجهل بمقدمات ونتائج كل منهما. وتبرهن على هذه الحقيقة أيضا تجارب التاريخ السياسي للعراق الحديث. إذ تكشف هذه التجارب عن ضرورة الإجماع الملزم للحركات الاجتماعية والسياسية على مبادئ عملية بالنسبة للبدائل العقلانية. ولعل أهمها هو الاقتصاد الديناميكي، والنظام الاجتماعي العادل، والثقافة الإنسانية الراقية، والعلم المتنور والتكنولوجيا الرفيعة، والتربية العقلانية الشاملة. فهي العناصر العملية الوحيدة القادرة على تجاوز ضعفه البنيوي. وفي وحدتها فقط يمكن بلوغ «المقدس» فيه.
إذ لا تعني حقيقة المقدس في العراق الآن سوى بناء أسس ديمومته الذاتية، القادرة على نفي الاغتراب والافتراق الفعلي بين المجتمع والدولة، أي بين الزمن والناس، أو بين التاريخ ووعي الذات. الأمر الذي يجعل من هذه المهمة مسئولية مشتركة للسلطة والمجتمع بقدر متكافئ تنهي «الحكم المؤقت» بكافة أشكاله ونماذجه، لا إعادة إنتاجه والتعود عليه. فالزمن المؤقت والحكم المؤقت هو وهم الأوهام! لان الحقيقة في الثبات. وليس المقصود بالثبات هنا سوى تذليل نفسية وذهنية إنتاج هالة المقدس المزيف في المشاريع الجزئية والمبتورة للقوى التي تضع نفسها فوق الجميع باسم الجميع مع ما يترتب على ذلك من تخريب لوعي الذات التاريخي السياسي الذي اشد ما يفتقده العراق في ظروفه الحالية.
فهو الوعي الذي ينبغي أن يؤسس لنفي تقاليد الراديكالية السياسية والعقائدية في مختلف الميادين وعلى كافة المستويات. ولعل أهم مظاهر هذا النقد يقوم في تفنيد الادعاء المزيف عن علاقة السياسة بالمقدس. فهي علاقة لا تؤدي ضمن السياق العام للراديكالية إلا إلى تحويل العقل إلى هوى، والهوى إلى هوس، والهوس إلى هراوة. ولا يحتاج العراق إلى دليل إضافي من اجل البرهنة على هذه النتيجة. لاسيما وأن تجربته التاريخية الحديثة ومأساته الوطنية والقومية تكفي بحد ذاتها. أنها تبرهن على أن الرذيلة قد تكون أيضا مقدسة للأراذل!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مشروع -2025- بين يدي ترامب..هل يغير شكل الولايات المتحدة؟


.. النجمة #ناظلي_الرواس تكشف عن حياتها بعد الطلاق #تلفزيون_الآن




.. قمة المناخ في اذربيجان.. غياب القادة الكبار • فرانس 24


.. تامر حسني يخاطر بإطلالة مختلفة على الجمهور وجولة ياسر العظمة




.. نتنياهو يلاحق ترامب بـ-نووي إيران-.. هل تفاجئهما طهران بالقن