الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بسنادا -1-

علي دريوسي

2020 / 7 / 6
الادب والفن


أمضيت المساء مع صديقي اللامنتمي عبَّاس كما يحلو له أن يصف نفسه.
سهرنا سوية حتى وقت متأخر.

عبَّاس شاب متواضع ودمث يتقّد حيوية وحماسة وقدرة على الحركة والإقناع، قامته ضئيلة وعيناه برّاقتان ذكيتان، يكبرني بخمس سنوات، كان قد مضى على علاقتنا آنذاك أكثر من ثلاث سنوات، تعلمنا خلالها أن نثق ببعضنا.

جلسنا في غرفتي التي تشبه الكهف، غرفة ضيقة رطبة لا نافذة لها، فيها سرير وصوفا قديمة وعلّاقة ملابس ورفوف خشبية وكرسي وجذع شجرة زيتون يابس كطاولة، أما جدرانها فكانت مليئة بالصور والشعارات وأبيات الشعر الثورية، على موقد الغاز المتنقل أعددتّ لنا إبريق شاي أسود ثقيلاً، ملأت الزُبْدِيَّة بالسُكَّر وأحضرت كيس الدخان البلدي، كان عبَّاس مخموراً قليلاً كعادته، وضعت الإبريق والحرارة تتصعَّد منه على جذع الخشب كي يبترد، بينما أخذ عبَّاس يتملَّى البخار وهو ينفث دخان سيجارته ويسليني بحكاياته المنعشة للروح، التي اعتاد أن يعيدها على مسمعي بين الحين والآخر بقوالب مختلفة.

بدأ عبَّاس حديثه بأن قصَّ عليّ حكاية اسم قريتنا التابعة لمدينة اللاذقية، مدينة البحر والشاطئ والمرفأ والغابات، كما سمعها من جده.

قال إنَّ اِسم القرية في الماضي لم يكن (بسنادا) وإنَّما (نادا)، وإنَّ عمرها لا يُقَّدر بمئات السنين وإنَّما بآلاف السنين، وذات يوم نشبت فوق أراضيها معركة بين الغرباء الذين تعاطفوا مع العثمانيين والرعاة الجبليين الذين اِنحدروا من أعالي الجبال المحيطة وسكنوها. اِقتَتَلَ الطرفان آنذاك طويلاً بالمقاليع والسكاكين والعصي والأيادي والحجارة حتى (بسند) دم المتحاربين، يبست الدماء واِلتصقت بجذوع الأشجار وتربة الحقول. بعد هذه الواقعة قيل "(بسند) الدم في (نادا)"، وسُمِّيَ الوادي الذي حدث فيه الاِقتتال الرهيب بالوادي الأحمر. ومن ذلك الحين تغيَّر اِسم القرية من (نادا) إلى (بسنادا).

ثم أضاف عبَّاس: في الحقيقة هناك آراء واعتقادات أخرى بما يتعلق باسمها. هناك من قال إنَّ اِسمها كان (بسنادى) وأتى من مقولة "حين نادى لَبَّيته"، وهناك من قال (بَشنادَّه) وجاءت الكلمة من مقولة "بَشَّ وَجههُ حين نادَّه" (أي هَلَّلَ وَجههُ حين خالفه بالرأيّ).

وبعضهم قال إنَّ اِسم (بشناده) كان معروفاً منذ القِدم ويعني "موطن التعذيب والشقاء" باللغة السورية القديمة أو "بيت الطاحون" باللغة الأكادية.
وثمة من قال بأنَّ الاِسم الحقيقي كان دائماً (بسنادا) ويعني "بيت السَّند"، والسَّند هنا هو "كلُّ ما يُستَنَدُ إليه ويُعتمَدُ عليه".

أخبرني عبَّاس أنَّ اهتمام أهل القرية بالمواضيع الوطنية والقومية قديم جداً، ولهذا أكلوا نصيبهم مبكراً من طعام السلطة الفاخر.

وقال جاداً بأنَّ عدد شباب القرية ممن صاروا ضُبَّاطاً في الجيش الوطني يعدّون على أصابع اليد الواحدة، ولم يحظ أي شخص من القرية بمنصبٍ قياديّ.

وأضاف ضاحكاً: يقول الحكماء إنَّ لهذا النقص في الوصول إلى المناصب الإدارية المدنية والعسكرية أسبابه العشائرية والفكرية والسياسية. لكني لم أصدِّق أقوالهم يوماً، إذ في الوقت نفسه لا يتجاوز عدد الشعراء والنُقَّاد وكتّاب القصة في القرية الخمسة ذوي المنابت الفقيرة، رغم غنى القرية بالإيديولوجيات والآراء والانتماءات الحزبية والسياسية والإنسانية وتنوّعها، رغم صباها وعراقتها بالعلم والمعرفة. فهل لهذا النقص على صعيد الأدب علاقته أيضاً بالأسباب الفكرية والمذهبية فعلاً؟
**








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان درويش صيرفي.. ضيف صباح العربية


.. -بحب الاستعراض من صغري-.. غادة عبد الرازق تتحدث عن تجربتها ف




.. أمسيات شعرية - الشاعرة سنية مدوري- مع السيد التوي والشاذلي ف


.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال




.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف