الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأثرُ الجمالي والفن

سامي عبد العال

2020 / 7 / 6
الادب والفن


ليست اللوحات الفنية جغرافيا للألوان، بل وطنٌ للجمال والحياة...."​

الأثر، الجمال، الدلالة ​

في الأعمال الفنية المُبدعة هناك أثر جمالي ما. ليس هو الخطوط، وليس هو الألوان، ولا يعدُّ مظهراً للعلاقة بين مفردات اللوحة، وربما لا يمثل بنية صورية تحط على معالم الرسم. ولكنه طاقة إبداعية لها إمكانية الخلق، وإعادة صهر دلالة العلامات الفنية بصيغٍ كليةٍ. صيغ عليها أنْ تستمر، حتى تبلور نسقاً رمزياً دون تحديدٍ. وطالما لا يوجد مكان معين لها(أي لصيغ الدلالات)، فلن تتوانى عن الانفجارِ في وجه الحقائق المألوفة. وتباعاً لن تخرُج من تجربتي الفنان والمتلقي إلاَّ آثار راسبة في قاع التشكيل، وضمن تفاصيل الصورة على وجه التقريب. ودوماً هناك تحريك منتج لها، هناك طفو وطفر متتابعان خلال مجمل المعاني الناتجة عن العملِ، حيث يبرِزان عالمَّاً له فرادته وتناسله وظلاله.​

هكذا تفيض لوحات الفنان الليبي "رمضان نصر"(* ) بقدرتها الباذخة على إنتاج الخلفية الدلالية. ففي الوقت ذاته الذي تتسرب خلاله الألوان بين كائنات التشكيل الفني، يعبر الأثرُ الجمالي عن نفسه، يترامى ويترسب كفوران الرمال تحت التفاف الرياح. أثر جمالي لا يزول مطلقاً ولا يبقى مطلقاً، لكنه يشكل الارتباط المتداخل تواً ضمن لاوعي المتلقي واللوحة. وعندما يمثل أثرُ كهذا عُنصراً من عناصر التكوين، ينتشر مُوزّعاً ومُضافاً مع امتداد الأشكال والخطوط. إذ تنتهي هي( الأشكال)، بينما لن ينقطع هو( الأثر). إذ ينتاب الفضول الجامح متلقيها، يتداعى مع تذوق الفن لرسم صورة العالم والحياة.​

لا يتوقف الأثرُ الجمالي حينئذ عن إبراز العلامات. فنظراً لكونه أثراً متخيلاً ومهموساً، فإنَّه يتركُ وجودَّه على صعيد الصور، يذهب لتأتينا أفعاله الدلالية بطرائق تشكيلية. إنه جوهر العلامة التشكيلية plastic sign مع تكوينها من دالٍ ومدلولٍ. الدال في الفن التشكيلي يحتاج إلى أثرٍ كهذا، يوجد مع الإغواء والتوحد بين الناظر والمنظور، بينما يتوارى المدلول مرشوقاً في حاشيته أو معلقاً على ناصيته أو مغروساً في خاصرته. وذلك على غرار ما يتخلق في التكوينات الهندسية غير المكتملة( الأشكال الفراغية)، ويجري بالانتقال من مستوى لوني إلى آخر، وعلى غرار ما يلتمِّع بالقفز مع ظلال وأطياف الكائنات الهائمة في متن اللوحة. وهو الوضع الأكثر وضوحاً في لوحة "تراكم".​

وبفضل التكثيف الذي يحتشده نصر في لوحاته، يسري الأثر الجمالي ويتراكم، فتتحقق دلالات الأشياء، كما لو لم تتحقق من قبل. وهنا ينشب اللاوعي مخالبه عبر الهواجس والتعاطف والحنين المتولد عند المتلقي. إذ ذاك يتم الولوج إلى أجواء لوحة " تداخل" كأننا جزء منها. فمن هؤلاء الحاضرون فيها، واللذين يتحولون إلى أثيرٍ مُقطّر؟! لا يخفى علينا أن كلمةَ الأثرِ قريبة من الأثير. من جهة الشفافية الملونة، الانتشار، التماهي، التفتت، التداعي البصري. وهي أمور تظهر في نفس اللوحةِ المُشار إليها. مما يعني أن الدلالةَ ذاتها لا تنتج صورَّها إلا بأثرٍ غائرٍ، أثر غائب.
يمثل في فن نصر البعد الرابع وراء الكائن، وينعكس في جوانب الطقس المكاني(مفردات البيئة اجتماعياً ونفسياً)، وعبر العلاقة الحاضنة(النظر- الهمس- الكلام) بين الأشخاص. إذ يُتوقّع في أية لحظةٍ من اللحظات أن يتعرى فضاء اللوحة غائماً، متفجراً، منتثراً ضمن فاعلية الألوان.​

ويأتي الأثرُ مرةً في الأفق البعيد مع قدوم تاريخ الوجُوه والمعالم(طوبغرافيا المكان- ملامح بشرية- تصاميم وهياكل خيالية) وأكثر من مرةٍ يقترب حتى يكاد يلامسنا عبر أشباح مشخصّة كأن المتلقي يشعر بها. صحيح أنها أشباح متماهية الأجساد، إلا أنها حادة في تفاصيل الوجُوه. وفي غير مرةٍ يتشكل هذا الأثر بين فسيفساء الأمكنة وسيولتها لتصبح زماناً. ففي لوحة"تداخل"، على سبيل التوضيح، ليس امتداد الخطوط المكانية أو الجسدية مكاناً أو جسداً، بل دلالات لونية، تترك للمتلقي فرصة أن يتتبع رمزية الصورة التي يتغياها. ولاسيما أن التعبير اللوني لغة تنشأ بين المتلقي وأشخاص اللوحة. ويحتمل أن يغدو كلَّ تعبير بهذا التوصيف كلمة دالة على عالمها. لكن ما هو هذا العالم؟! ستكون الإجابةُ نقطةَ انطلاقٍ وراء خلق الأثر لهذه الأشكال أو تلك القابلة للدلالة.​

وفي مقابل حدة المعالم البيئية، تندفع لوحة "تداخل" إلى أن تخفيها في غبار هلامي ينفثه خيال كوني. ومع ذلك لا يتناثر كالدخان، لكنه يتوزع بواسطة بناءٍ هندسيٍ يبرز ويتصاعد حاملاً ترميزاته. فالفنان يعيد تشكيل الإحساس بالواقع، وينحتُ تضاريس لونية أثناء الانفعال به. وبدلاً من تضاريس الوعي الاجتماعي والإنساني المحددة بأطره الحياة الصارمة يترك إيقاعه المقلوب داخلنا كأننا نلامس تغييره.​

لهذا، فالوجوه اللونية تمتزج- بفعل الأثر طبعاً- مع خلفيتها الدلالية والوجودية. وجوه تعبر عن نسقٍ من العلامات، تشارك بعضها البعض جدلياً وجهي القناع والفضاء، الخفاء والتجلي. في هذا التراكم قد نرصد وجوهاً مختلفةً بغير التفاصيل السابقة، وربما نعرف أن التراكم في مستواه السيميولوجي هو تراكم آخر. على المتلقي أن يكتشفه مع تحولات اللون وثقله ثم رهافته، ثم ثقله، ثم ذوبانه مع سريان الأثر، ليأخذ تخلقه بالتزامن الدلالي في أغلب اللوحات تقريباً.​

التلقي والخلق الفني​

ومع الأثر الجمالي، يحركُ المتلقي الارتباط بين الدال والمدلول تاركاً الدال حراً مع التشكيل الفني. بل لا يمكنه إلا أن يشتت العلاقةَ بينهما. هو حين يفعل إنما يلامسُ لذةَ الخلقِ، كما لامسها الفنانُ واحترق بها، يحي رمادَّها في خلق جديد، وينفخ الروحَ في رميمها. وربما من تضمينات اسم لوحة"تداخل"أن تكون ثمة دعوة لممارسة التلقي فنياً. لقد غدا المتلقي فناناً متداخلاً، وأخذ الفنانُ وضعية المتلقي في لحظة الخلق الفني بين السحر والرغبة والجمال. ذلك على قاعدة الكشف والفناء لدى الحلاج"... فإذا أبصرتني أبصرته، وإذا أبصرته أبصرتني". وهذا بمثابة المغزى العميق للفن، حين يتيح تشكيل الحقائق والعالم والإنسان من خلال تجربة الوسيط التقني.​

حتى مصطلح الفن نفسه هو لصيق الصلة بكلمة الفناء، حسبما يخرجُ التكوينُ اللوني كتلةً حيةً تحمل قدرات الفنان الذائبة(الفانية) في موضوعها لتعيد تشكيله. فلا تختلف المفردات الفنية-في لوحات نصر-عن مفردات الحياة العادية. هو يشتق الدلالة من أنماط التحديدات في الواقع، ويجعلها متجاورةً، متلاصقةً، محتشدةً، متراكبةً لتؤدي وظيفةً سيميولوجيةً، عبر عنها الفنان ببلاغة لونية في لوحة"تراكم وحشد".​

أما إذا عُدنا إلى لوحة "تداخل"، فمرة أخرى يمسحُ هذا التجاور عيني المتلقي بستائر شفافة لحقيقة الدلالة تظهر نتيجة العيون الموزعة في أعماق اللوحة وطياتها. وتبقى في بعض منها عيوناً غائرةً، كأنها مازالت تحتفظ في أحداقها بكافة مشاهد الحياة التي نظرت إليها يوماً ما. فهي لا تسمح لنا بتفريغها مما شاهدته، بجانب ذلك لا تكف العيون عن النظر. وبذلك يندلع جو اللوحة فنياً مع الحقائق الإنسانية والمعيشة، حيث تعبر عن ضرورة ما يقبع فيها. وبالتأكيد تزداد الطيات اللونيةُ في تركيبها الدلالي، نظراً لعمق السواد وغموضه الذي يصبغ حدقة العين. فللعيون لغة، دلالة، وأكثر من هذا لدرجة أن توزيعها يحمل أبعاداً تأويلية أخرى.​

بدليل أننا حين نترقب مداراةً أو روغاناً من شخصٍ نقول له: عيني في عينك. وتعبر العيون في تلك اللوحة عن إمكانية استعارة عيون المتلقي. دعوة مفتوحة للنظر إلى الداخل الذي قد يتماثل هنا أو هناك عن طريق الوقع الدلالي. هو الأثر الذي لا يُمحى، وفوق ذلك يقفُ خارج كون العلامة منقسمةً إلى دالٍ ومدلولٍ. فالنظرات المباشرة لا تنكسر، بل تمثل العيون جزءاً من لعبة"الاستبدال والاستدماج"، فالذي يوجد بين الرائي والمرئي هو الأثر لا المضمون، والأخيلة لا الأوصاف.​

التشكيل الفني بهذا الأثر لا يتوقف عن توليد الدلالات. وتتم آثاره عبر الوعي المنقسم على نفسه مع لاوعيه(بكل ثقله المتواري) داخل فضاء الكائنات اللونية. فاللعبة تستغرق تجربة التلقي، وبذات الوضع تُفّعِل التجربة الفنية زخمها العميق. إذ ذاك تظل الكائناتُ متبدلةً، ومنتشية بقدر نشوة الألوان، وبقدر صرخات الخطوط والتواء المسافات، رغم الانضغاط في إطار اللوحة. إن التشكيل الفني في أعمال نصر هو عملية إنتاج متواصل لا ينقطع، حتى في حالة إتمام الفنان له. ذلك يُظهِر وجهاً آخر للأثر أنه ما إن ينتشر إلا و ينبثق من أي فضاء كان. لأن فضاءه الأصلي متناسل، ويتمتع بالفعل ماسحاً لفضاءات أخرى. فهو يحيل كل متعلقات وأصداء اللوحة بما فيها التداعيات الجمالية إلى نظامٍ دالٍ. وهنا تنعقد صلة الجمالي والفني والتعبيري داخل التجربة التشكيلية، وإن كانت بموادها الخاصة.​

بلاغة الألوان​

من ثم تتواتر مع بلاغة الألوان كافة الصور الحياتية. ولعل هذا ناتج بالأساس عن تواتر الدلالات كما تتصورها تجربة الفنان- المتلقي. فبعد أنْ تنغمس الصور في الخيال، يكسُو الفنان بريشة التلوين المائي هيكل وعظام الكائنات، ليعطيها تجسيداً (قريباً ونائياً) مضفورين في لحُمة اللوحة، بفضل الطابع التاريخي الذي يتربص بالأشكال والرموز التكوينية. ويأخذنا التواتر أيضاً نحو نبض الحياة من جديد، و باتجاه صقل الذائقة الجمالية على خلفية متعة الخلق الفني.

كل لوحة لدى نصر تطرح التاريخ كجزء منها، بموجب ما يلي:

1- أن التجربة الفنية مرهونة بالمعطى الدال المُشكِّل للشخوص والتكوينات. وهذا يقتضي وجود تاريخ، كي يتكشف أو ينغلق على أسراره. وكأنها نقوش وحفريات قديمة في ذاكرة الإنسان.​

2- تستمد الوجوهُ والمعالم مضمونها من بيئة الفنان. أقرب فكرة أمام عمل كهذا أن المفردات الفنية لها تاريخ في الزمان والمكان والشخوص. بحكم أنها دوال تتقاطع مع أنساق ثقافية وتحيل إليها.​

3- تحمل الألوانُ في وجود التشكيل الفني تراثاً جمالياً يقرر معايير الحركة اللونية، مع التقاء الأثر فيما بين الفن والواقع على صعيد الصور والمواد. بمعنى أن هناك ملائمة غير مشروطة بين الألوان المستخدمة ونمط الإدراك الجمالي المنعكس في الأشكال.​

4- هناك قيم فنية وجمالية تشكل موقعها عبر نظام الذائقة. نظام كلي و دال في المجتمع الليبي. و ضمن حركة التاريخ يعطي هذا الموقع تضميناته وتراكمه الذي ينهل منه الفنان.​

5- بحكم تقنية الألوان المائية تشكيلياً، لا تدع اللوحاتُ الفنيةُ متلقيها منفلتاً أو خارجاً عن إغوائها. فلا يستطيع إلاَّ أن يجوس داخلهاً، يدخل مع شخوصها وعالمها في سراب تتسربل به، ليظهر عندئذ تاريخُها. لا تاريخ شكلي(تصويري) بعيداً عن اللوحات، هي الآن مصدر من مصادره، إنها بالتحديد فنية التخييل التاريخي مثل لوحة جماليات أفريقية.​

لذلك لم تخلُ لوحة "تداخُل" من تلك العيون الفاترة المكدودة أيضاً. كأنها - من فرط محمولاتها الدلالية تاريخياً- تعطينا انطباعاً بأنها في موقف استحياءٍ(تحشم)، فهي تنظر إلى متلقيها بطرف خفي قائلةً: "آهٍ...آهٍ .. لو أنك ترى ما أرى!!". لتستحيل العيونُ إلى طاقاتٍ جوانية للفضفضة، تبثها اللوحة مع غلالة الألوان المائية حين نشعر باندلاقها الغامض والدافئ. وهناك عيون أخرى في نفس اللوحة تبصق نظراتها بصقاً، وتتحدى متأملِّيها بالتركيز على سريان المضمون، هي تعطينا هذا المضمون حين توصلّه بحدةٍ مع سبق الإصرار والترصد. وفي كل الأحوال عبر التنوع في العيون كحدقاتٍ ناظرةٍ، يتشكل التكوينُ على هيئة دوال ثريةٍ، لكونها تجتذب الرائي داخلاً معها في تخمين المعنى وتقطيعه وترجيحه.​

إنه ذات التكوين الذي تحتفل كائناته اللونية بوجودها في صورة كرنفال دلالي وتصطخب خلاله المدلولات الهائمة. هنالك شخوص متشظية(لوحة تراكم)، وهنالك أزمنة متداخلة مع شروق(سطوع) الألوان وغروبها، مانحةً متلقيها إحساساً قوياً بتحولات الدلالة من الحدة إلى اللين، ومن الإضمار إلى الافتضاح، ومن الاحتشاد إلى التناغم، ومن الوحدة إلى التعدد( لوحة إشراقة). ولا يتم ذلك فراغياً إلا بقدر ما يتخطط عبر مفردات البيئة الحميمة، كما لو كنا نرى أيقونات كرنفالية تتلألأ رغم الغبار العالق بها. كائنات سابحة في أثيرٍ من الأشعة الضوئية.​

وهذا يذكرنا بالنظر إلى أشعةِ الشمسِ، حين تطارد أمامها الأشياء والأفكار على امتداد الأفق، وعندما تخترق الأجساد في البيئة الصحراوية. فتبدو لمن يشاهدها تكوينات أثيرية و متماوجة، وبالأحرى بحسب ما ذكرت تغدو التكوينات أثراً فنياً. فلا فرق بين مَشّاهد الشمس والواقع(اللوحة)، ولا تكتمل حقيقة الشمس إلا بها، وكذلك يصعب تحديد ملامح الموجودات والأبنية والحركة إلا عن طريقها(أي داخل المَشّاهد). حيث يجري انصهار الأشكال والوجوه تاركةً الفرصة لذات المتلقي. وفرصته أن يعطي فاعلية العلامات حركةً أوسع في توليد المشاعر والعواطف.​

ذلك لسبب يبدو تشكيلياً أن الشخوص تدخل، ثم تنضغم بالفعل في تفاصيل المكان، وتذوب الأجساد، وتُختّرَق الوجُوه بفضل الفعل الخلقي للألوان. ولا بقاء من ثم إلا للأثر الطاغي بغيابه وكثافته معاً، لعله يستنطق التكوين في مجموعه. ففي أغلب لوحات رمضان نصر يتبلور الاستنطاق الفني تكويناته بلغة الجمع، الاختلاف والتنوع. فلا يُوجد تحديد بادٍ في اطلاقيته، بل في اضمحلاله حيث تنضح اللوحة بالانسجام والتناقض في نفس الوقت، إنهما يجريان بين الرموز المادية والأمكنة ذات الأبعاد والأحجام. وبفضل التنوع في الشخوص والحيوات التي تحملها اللوحة الواحدة يتجول المتلقي مع الألوان كما هو التشكيل في لوحة"تراكم".​

يصل الأثر إلى أن يحمل كاملَ التجربةِ الفنية. لذلك ترتبطُ الحقيقةُ، المرجعيةُ في الفن بحركة التلاشي الناتج عن تحول الموضوعات إلى آثار جمالية، وهي الحد القائم - بفعل الألوان المائية- على ذبذبات السراب إلى درجة الذوبان غير المرئي. وربما هذا وراء الوهلة الأولى الأخذة في البعد والتمدد حين نتأمل مباشرة في لوحات نصر. إذ تضعنا على مبعدة من مشْهدِّها من خلال كثرة التكوينات وصغرها. والبعد دوماً قرب لإمكانية امتلاء المسافة بالخيال الفني الذي يلتقط نقوش الأثر على خلفية الألوان. حتى أن الصور لا تأتي في المجمل بذاتها، بل تشير إلى أطياف تطايرت إلى أن غدت أخيلةً. فلا يمكن لأية علامة تشكيلية إلا أن تجتمع مع علامات أخرى قد لا تكون من جنسها، ثم يعطيها التجاور تناسلاً دلالياً. لعلها تتفتت خلال نسيج اللوحة مع بعضها البعض وتمتزج وفق تداعي الظلال مثلما هو الحال في لوحتي "تراكم" و"تداخل".​

كانت العلامةُ في الفنون التقليدية أيقونةً للشهود، للحضور، بينما في لوحة"تراكم وحشد"مادة لامتصاص الدلالات قبل إفرازها عبر وجوه مضغوطة تشعرنا بالتآلف أحياناً وبالتنافر أحياناً أخرى. إن الكُولاج اللوني يعمل في هذا التآلف مستنداً إلى كُولاج شعوري، تتلاقي لديه مفارقات العواطف وتناقضات الذاكرة. وهو عمل يوازي تقنية التشكيل، عمل يُبرِّز المنمنمات الدقيقة. وسنكتشف أنها منمنمات لذاكرة آتية من ماضٍ سحيقٍ، من صحارى وأجواء مليئة بالآفاق مع الإيماءات اللونية.​

بعبارة صمويل بكيت، ستكون أنت أيها المتلقي في انتظار ما لا يأتي. لعلك ستطرحُ سؤالاً: ولماذا لا يأتي هذا المنتظر؟! لأن الأثر عصي على الإتيان بنفسه، فهو تجربة الاندماج جمالياً بفضاء التكوين الفني. إن درجات التلاشي تشبه إمتاع الفناء الصوفي ومكابداته. حيث يسيطر الدال كرغبة عارمة للكثافة المترسبة مع مُناخ الكائنات والألوان، و يتحقق نسبياً مع توزيع الأضواء والظلال الدلالية، ذلك إذا ظهرت الأخيرةُ عبر شكل أو آخر بحسب تشكيل الوجوه والمفردات. في هذا الإطار يؤدي التظليل والتوضيح دوراً في ترك نتوءات غائرة معبرة عن مخاض الذاكرة باستمرار. إذ ذاك يمكن للمتذوق التقاط معاني الأثر الدال. إنه يتعدد في متن اللوحة ليظهر الأشياء والصور.​

الأثر في لوحة "تداخل" هو أيضاً السر الباقي مع شفافية الألوان المائية. بل يكملُ في عمقهِ ما يصعب تحقيقه، ليحضر التكوين الفني بديلاً انطولوجياً عنه. وهذا التجلي المبدئي في لوحات نصر يظل في حدود الألوان كنجوم حية متطايرة بفعل عملية وجودية خالقة. ومن تشوهات الأثر أنه قد يتعين أحياناً. فيبدو الوضع مع ذلك غارقاً في أطيافٍ مائيةٍ، يختلطُ فيها الدال بالمدلول، حيث يسبق الأثرُ كونهما مجتمعين على شرف (نخب) علامة لا تمتلك بكارتها إطلاقاً. لقد تحولت العلامة إلى أثر. فقدت أغلى وأعز ما تملك، هذا الحضور العذري. لا حضور عذري بعد الآن في أعمال رمضان نصر. الألوان المائية تجعله طافياً وسط البقع الضوئية والأصباغ والأخيلة المتزاحمة. نتيجة أن الماء في الأصل هو رحم الحياة ودفقها المتواصل. ماء الخلق، وإكسير الوجود الذي يجرف الكائنات، لتبقى غارقة تحت سطح الذاكرة. وسرعان ما تأخذ الكائنات عند عمل الذاكرة فعل النقوش المائية، التي تمتلئ بالمشاهد والرؤى والأحلام. ​
____________________________
* رمضان نصر المبروك ابوراس فنان ليبي، مواليد 1956بمدينة صبراته. حصل على إجازة التدريس الخاصة شعبة التربية الفنية 1976م معهد ابن منظور المعلمين طرابلس. وحصل على ليسانس جغرافيا كلية الآداب جامعة قار يونس 1983بنغازي. أقام وشارك في العديد من المعارض الشخصية والجماعية(المحلية والدولية). وصمم العديد من الملصقات والأعمال الفنية في الكثير من الجهات العامة والخاصة(جداريات لوزارة السياحة. كلية الهندسة صبراته. مجسم لمدخل الآثار بصبراتة مع مجموعة فنانين). له العديد من الأعمال المقتناة بمعهد الأورام بصبراته ووزارة الثقافة وبكثير من الدول(سويسرا، ايطاليا، النمسا، مالطا، المغرب، تركيا، الأرجنتين، ألمانيا، بلجيكيا، فرنسا، فنزويلا). وهو من المؤسسين لجمعية الفنون التشكيلية بالزاوية. وعضو بجماعة رؤى الدولية للفنون. نال جائزة الترتيب الأول في الرسم والتصوير بالمحفل الأول للفنون التشكيلية بمصراتة 2005.​
أهم المعارض الخاصة​
1995معرض على هامش مؤتمر الجراحين الليبين بمعهد الأورام بصبراته.2007 معرض بالدار الليبية للفنون بذات العماد طرابلس. 1997 معرض بقاعة الثقافة والفنون(دي فيلا)طرابلس. 1998معرض بقاعة الثقافة والفنون(دي فيلا)طرابلس.2001معرض بدار الفنون طرابلس.2003معرض المركز الثقافي العربي الليبي التونسي. تونس.2003 معرض بالقلعة الصغرى سوسه، تونس.​

المعارض الجماعية​
1977معرض جماعي بنادي الشعب بصبراتة. 1982معرض جماعي بالمدينة الأثرية صبراته. 1982- 1983 معرض جماعي بمدينة الزاوية. 1989المسابقة الثقافية الكبرى ببيت الشباب صبراته. 1990 معرض أعراس التحدي بالقبة الفلكية طرابلس. 1990معرض أعراس الفن التشكيلي، قاعة الشعب صبراته. 1991معرض الوفاء بالمدينة الأثرية بصبراته. 1991معرض جماعي بصبراته، زواره، الجميل. 1992معرض جماعي بكلية الهندسة بصبراته. 1995، 1996،1997مهرجان مصراته للثقافة والفنون. 1996معرض جماعي بمعرض طرابلس الدولي. 1998معرض جماعي بقاعة الثقافة والفنون(دي فيلا)طرابلس. 1999معرض جماعي بمدينة سرت. 2000 معرض جماعي بمدينة الزاوية. 2002 معرض جنين في العين برج الفاتح طرابلس. 2002 اشرف وشارك في إعداد معرض فسيفساء تشكيل ليبي برعاية صحيفة العرب الدولية. 2004 تظاهرة هنيبال للفنون التشكيلية، طرابلس. 2005 المحفل الأول للفنون التشكيلية بمصراته. 2005 معرض جماعي بمعرض طرابلس الدولي. 2007معرض الفنون التشكيلية، معرض الكتاب طرابلس. 2007معرض الفنون التشكيلية، كلية الفنون، طرابلس.2007 معرض جماعي بافتتاح رواق السلفيوم بنغازي . 2007 معرض بمدينة سبها. ​

أهم المشاركات الدولية ​
1989 معرض أسبوع الثقافة المغاربية بمدينة القنيطرة المغرب. 1990معرض المركز الثقافي الليبي بقبرص. 1990 معرض مهرجان المدينة بمدينة القنيطرة المغرب.1991معرض بدار الثقافة المغاربية القنيطرة المغرب.1997معرض بقاعة( ماري لويس مولر ) بناشاتيل سويسرا . 1997، 1999 مشاركة بينالي مالطا.2001 معرض برواق حمادي الشريف تونس .2005 الأسبوع الثقافي الليبي بالخرطوم(الخرطوم عاصمة الثقافة العربية). 2005 مشاركة بمهرجان التراث رادس تونس. 2006 مشاركة بمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية الدورة (19 )تونس. 2006ملتقى دوز الدولي للفنون التشكيلية والصورة الفوتوغرافية تونس.2007 ملتقى دوز الدولي للفنون التشكيلية والصورة الفتوتوغرافية تونس. 2007 ملتقى دولي حول الحرف الرواق البلدي صفاقص تونس.2007 المعرض الدولي للفنون التشكيلية بصنعاء باليمن(مجموعة رؤى الدولية ).2007 الأسبوع الثقافي الليبي بالجزائر(الجزائر عاصمة الثقافة العربية).​








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز


.. لحظة تشييع جنازة الفنان صلاح السعدني بحضور نجوم الفن




.. هنا تم دفن الفنان الراحل صلاح السعدني


.. اللحظات الاولي لوصول جثمان الفنان صلاح السعدني




.. خروج جثمان الفنان صلاح السعدني من مسجد الشرطة بالشيخ زايد