الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حديث ذي شجون في الإنقلابات العسكرية

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2020 / 7 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


لا نغالي كثيرا إذا قلنا أن ثمة عداء مستحكم بين حكومات البلدان العربية, وبين نظم الحكم الديمقراطية المتداولة في العالم بصيغها المختلفة, بما يتوافق مع بيئاتها الإجتماعية والثقافية, ومراحل تطورها ووعي وإدراك شعوبها لمصالحها الوطنية. إذ لم تمارس هذه الحكومات قدرا ولو يسيرا على سبيل التجربة, أي شكل من أشكال الديمقراطية , مبررة ذلك أن شعوبها غير مهيأة بعد لممارسة الديمقراطية , وهي ما زالت بحاجة لرعايتها الأبوية , كونها الأعرف بتدبير شؤونها . وعلى فرض صحة هذه المزاعم الحكومية , لم تبذل هذه الحكومات أي جهد للإرتقاء بنظم حكوماتها والسعي لترقية الديمقراطية تدريجيا في بلدانها ,ونشر مفاهيم الثقافة الديمقراطية بين الناس, تمهيدا لإرساء دعائم حكم ديمقراطي وبناء مؤسساته .
ولعل لبنان هو الإستثناء الوحيد بين الدول العربية , حيث تمارس فيه منذ إستقلاله وتحرره من الإنتداب الفرنسي عام 1946 وحتى يومنا هذا , قدرا معقولا من الديمقراطية على الرغم من كونها ديمقراطية مشوه , بحكم التركيبة الطائفية التي يقوم عليها نظام المحاصصة الطائفية التي حددها الدستور اللبناني االذي توافقت عليه جميع الطوائف عشية إستقلال لبنان . وفي جميع الأحوال فأن الديمقراطية اللبنانية تضمن حرية الرأي والمعتقد حيث لا يوجد فيه سجناء رأي , ويتم فيه التداول السلمي للسلطة بصورة مقبولة عبر صناديق الإنتخابات ,على الرغم من البيئة الإقليمية المعقدة وتداعياتها السلبية على الوضع اللبناني , ومداخلات الكثير من الدول الكبرى والدول الإقليمية في الشأن اللبناني التي تسببت بحرب أهلية طاحنة إستمرت من عام 1975 إلى عام 1990، وأسفرت عن مقتل نحو( 120 ) ألف شخص ونزوح نحو مليون شخص من ديارهم . إنتهت الحرب بتوقيع وثيقة الطائف في المملكة العربية السعودية , وإستئناف الحياة السياسية ثانية بموجب نظام المحاصصة على أساس لا غالب ولا مغلوب. ويشهد لبنان حاليا غليان شعبي هائج بسبب تردي أحواله الإقتصادية.
يمكن أن يعزى غياب النظم الديمقراطية في البلدان العربية إلى الثقافة الإستبدادية المتوارثة عبر الأجيال , القائمة على المفاهيم العشائرية والقبلية التي يخضع بموجبها أفراد العشيرة والقبيلة لسلطة شيخ القبيلة بوصفه الآمر الناهي دون منازع, والتعامل مع الدولة بوصفها مجموعة قبائل يرأسها شيخ أكبر القبائل وأكثرها قوة ووجاهة ونفوذا لهذا السبب أو ذاك , كما تؤكد ذلك الوقائع التاريخية التي عاشتها هذه البلدان لمئات السنيين . حكم الأمويون والعباسيون والفاطميون البلدان العربية مئات السنين , وهم جميعهم ينتمون لقبيلة قريش , وبعدهم العثمانيون والصفويون وغيرهم من قبائل غير عربية , ولكنهم جميعا حكموا بإسم الدين الإسلامي .
وقد لا يختلف الحال كثيرا في بلدان العالم الأخرى تحت مسميات وظروف مختلفة, لكن شعوبها غادرت هذا النمط من الحكومات في أعقاب ما يعرف بعصر النهضة الأوربية والدخول بعصر الصناعة وتطور الحياة المدنية ونشوء المجتمعات المدنية القائمة على المواطنة أكثر منها على الروابط العشائرية والقبلية , والتي إقتضت تنظيم أوضاع بلدانها بما يضمن رفاهية مجتمعاتها في إطار أمن جماعي لها ,وتحقيق قدر معقول من العيش الكريم في إطار سيادة القانون ومبدأ المساواة بصرف النظر عن اللون والعشيرة والمعتقد والجنس , فكان إنبثاق النظم الديمقراطية التي تنظم الحياة البشرية بصورة أفضل مما سبقها . وهنا لا بد أن نؤكد أن النظم الديمقراطية لا تعني بالضرورة تحقيق العدالة والمساواة بين الناس , فقد يتسلط على رقاب الناس ممن يملكون المال والجاه والنفوذ والقوة تحت أي مسمى . وبرغم ذلك يبقى النظام الديمقراطي أفضل خيارات نظم الحكم , حيث لا يغلق الأفق فيه , بل يبقى مفتوحا لتحقيق حياة أفضل لو تمكنت قوى المجتمع الفاعلة تحشيد قواها للظفر بالفوز وتولي السلطة .
أدى غياب الديمقراطية في البلدان العربية إلى إعتماد أساليب التآمر والعنف للإستيلاء على السلطة بكل الوسائل الممكنة , ومنها التعاون مع وكالات المخابرات الأجنبية التي تضمر لهذه الحكومات العداء . ولأن القوات العسكرية , تمثل مجاميع بشرية كبيرة منظمة ومزودة بمختلف الأسلحة والعتاد , لا يستطيع أحد مجابتها , لذا وجدت بعض الأحزاب السياسية ضالتها بألإستيلاء على السلطة عبر تعاونها وتشجيع بعض قادة هذه القوات على الإستيلاء على السلطة عبر ما يعرف بالإنقلاب العسكري , بعد أن عجزت هذه الأحزاب من المشاركة في الحكم عبر وسائلها الأخرى . يعرف الإنقلاب العسكري في الأدبيات السياسية : إزاحة مفاجئة للحكومة بفعل مجموعة تنتمي إلى مؤسسة الدولة (عادة ما تكون الجيش) وتنصيب سلطة غيرها مدنية أو عسكرية. يتجنب قادة الإنقلابات في العادة مصطلح الإنقلاب , ويستخدمون مصطلح الثورة بدلا عنه , ربما لشعورهم أن مصطلح الإنقلاب يحمل في طياته بعض صفات الغدر والخيانة لرؤسائهم وقادتهم في السلطة , إذ ينفذ هذه الإنقلابات في العادة بعض ضباط الجيش من ذوي الرتب المتدنية أو المتوسطة , فضلا عن أن مصطلح الثورة يعطي إنطباعا بالتغيير الجذري في المجتمع .
شهدت البلدان العربية الكثير من الإنقلابات العسكرية , ربما هي الأكثر بين بلدان العالم , تأتي سورية بمقدمتها بحصيلة ( 34) إنقلابا أومحاولة إنقلاب , وجزر القمر ( 24 ) إنقلابا أو محاولة , والسودان (16) إنقلابا أو محاولة , وكل من ليبيا وموريتانيا واليمن ( 7) إنقلابات أو محاولات , وكل من العراق والمغرب (6) إنقلابات أو محاولات , والجزائر (3) إنقلابات أو محاولات , ومصر ( 2 ) إنقلابان , وتونس ( 2 ) إنقلابان أو محاولات .
ولم تقتصر الإنقلابات على العسكر , بل هناك إنقلابات قام بها بعض أفراد الأسر الحاكمة على ملوكها بقوة السلاح , أبرزها : إنقلاب الأمير فيصل على أخيه الملك سعود ملك المملكة العربية السعودية عام 1964, وإنقلاب الشخ زايد على أخيه الشيخ شخبوط شيخ إمارة أبو ظبي عام 1966 , وإنقلاب السلطان قابوس على أبيه السلطان سعيد عام 1970, وإنقلاب الأمير تميم على والده الأمير حمد أمير قطر عام 2013.
ويعد أنقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936, أول إنقلاب عسكري في البلدان العربية , واصفًا نفسه "بـقائد القوة الوطنية الإصلاحية"، وتضمن بيان صدقي: "إن الجيش المؤلف من أبنائه، نفد صبره من الحال التي يعانيها من جراء اهتمام الحكومة الحاضرة بمصالحها وغاياتها الشخصية". وطالب صدقي الملك غازي إقالة الحكومة وتشكيل وزارة من أبناء الشعب المخلصين برئاسة حكمت سليمان. استقالت الحكومة وكلف الملك غازي السياسي حكمت سليمان بتأليف الوزارة الجديدة. تلاه محاولة الإنقلاب الفاشلة عام 1941 المعروفة بحركة رشيد عالي , وبعدها إنقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958 بقيادة العميد الركن عبد الكريم قاسم , الذي أطاح بالنظام الملكي ومقتل الملك فيصل الثاني والأسرة الملكية برمتها وتأسيس نظام الحكم الجمهوري القائم حتى الآن في العراق. لم يستمر عبد الكريم قاسم بالحكم طويلا , إذ أطيح به بأنقلاب عسكري آخر في شباط عام 1963 نفذته الأحزاب القومية وفي مقدمتها حزب البعث العربي الإشتراكي, ومناصرة بعض الجماعات الدينية والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة الملا مصطفى البرزاني , وتعاون شركة نفط العراق التي كانت في خلاف مع الحكومة العراقية يومذاك ودولة الكويت الفتية يومذاك والتي طالب عبد الكريم قاسم بضمها إلى العراق بحسب عائديتها التاريخية و والحكومة المصرية التي تكن العداء لعبد الكريم قاسم لرفضه ضم العراق إلى ما كان يعرف بالجمهورية العربية المتحدة التي تضم كل من مصر وسورية , ودول الجوار والولايات المتحدة الأمريكية التي لم ترق لها السياسة التحررية التي إنتهجها عبد الكريم قاسم بخروجه من حلف بغداد وتحرير إقتصاده الوطني.
كان هذا الإنقلاب أكثر دموية وعنفا مما سبقه , إنتهى بإعدام قاسم وكبار مؤيديه , كان معظمهم من قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين هبوا لنصرة قاسم ضد الإنقلابيين . لم تدم سلطة هذا الإنقلاب سوى أشهر قليلة , ليعقبه إنقلاب عسكري آخر من داخل سلطة الإنقلاب نفسه ,قاده العقيد عبد السلام محمد عارف في الثامن عشر من تشرين الثاني عام 1963. أعقبته أكثر من محاولة إنقلابية فاشلة , لتنهي بإنقلاب السابع عشر من تموز عام 1968 الذي أوصل حزب البعث العربي الإشتراكي إلى السلطة, ليستمر بحكم العراق نحو ( 35 ) عاما تخللتها حروب وصراعات وفتن دامية , إنتهت بغزو العراق وإحتلاله عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الأمريكية , ليصبح بعدها العراق أحد أفقر بلدان العالم وأكثرها فسادا , على الرغم من ثرواته الهائلة التي حباه الله بها , وقدراته البشرية العظيمة .
ولا يختلف الحال كثيرا في جميع البلدان العربية التي شهدت إنقلابات عسكرية عن حال العراق , وأن كان حال بعضها أفضل قليلا من حال العراق , فها هي سورية وليبيا واليمن والسودان مزقتها جميعا, حروب أهلية عبثية بدعوى الديمقراطية وحقوق الإنسان ,تصارع اليوم من أجل البقاء , وكذا حال مصر وتونس والجزائر بدرجة أقل .
يبدأ الإنقلابيون عادة بنوايا إصلاحية حسنة لتطوير بلدانهم وتحسين معيشة شعوبهم وإتاحة الحرية لهم , إلاّ أنهم سرعان ما تغريهم السلطة والتحكم بالمال العام , ليتحولوا إلى ذئاب كاسرة تفترس كل من يقف بوجهها أو يقول كلمة حق لا تروق لهم , ويسخروا موارد البلاد والعباد لخدمتهم وإشباع غرائزهم بعد أن يحيطوا أنفسهم بشلة من المزمرين ودقاقي الدفوف وناشري البخور, كي لا تصيبهم عين الحاسدين, ويسبغون عليهم ألقاب التبجيل والتعظيم وبأنهم قادة لا يشق لهم غبار , وقلّ أن يجود التاريخ بأمثالهم وبأنهم هبة السماء لشعوبهم, وينشر البعض دراسات ويكتب أطاريح دكتوراه عن فكرهم النير . وهنا تكمن المصيبة حيث يبدو أن بعضمهم يروق له تقمص هذه الأدوارالبهلوانية والإعتقاد الزائف بالبطولة التي لا تهزم , ويبدأ العبث بأمن البلاد والعباد وجرها إلى مغامرات عسكرية لا طاقة لبلدانهم بها . والأمثلة على ذلك كثيرة في عالمنا العربي يعرفها الآن القاصي والداني حيث ما زلنا نعاني من آثارها الوخيمة حتى يومنا هذا .
أن ما أردنا قوله هنا يتوهم كثيرا من يعتقد أن الإنقلابات العسكرية يمكن أن تقدم حلولا لمشكلات بلدانهم, ذلك أنها لا تجدو نفعا ولا تقدم حلا سحريا للأوضاع السياسية المتأزمة في بلدانهم , وربما يكون غياب الديمقراطية وحالة العجز واليأس التي يشعر بها البعض من إنسداد أفق الخلاص من حالة الفساد الذي تعاني منه بلدانهم يدفعهم لهذا الوهم . كما لابد أن نشير إلى أن إعتماد النظام الديمقراطي في بلدان يسودها الجهل والتخلف أمر محفوف بالمخاطر ما لم يكن هناك وعي ثقافي بين قطاعات واسعة من الناس وإدراك لطيبعة هكذا نظام وإيمان حقيقي بمفاهيمه القائمة على تقبل الرأي والرأي الآخر. كما لابد من التأكيد أن الديمقراطية ليست بضاعة يمكن أن تستورد , وإنما تتطلب خلق البيئة الطبيعية التي يمكن أن تنمو فيها وتزدهر . وفي جميع الأحوا أن لا قيمة للديمقراطية ما لم يصاحبها حكم مدني رشيد عادل يضمن للناس حقوقهم وواجباتهم على حد سواء .
أن ما تحتاجه البلدان العربية وفي مقدمتها العراق , الإستقرار الأمني والإجتماعي والحكم المدني العادل والرشيد وقدر معقول من الديمقراطية , وهي الشروط الأساسية لإحراز أي تقدم وتحقيق تنمية إقتصادية مستدامة وضمان عيش كريم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل دعا نتنياهو إلى إعادة استيطان غزة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. روسيا تكثف الضغط على الجبهات الأوكرانية | #غرفة_الأخبار




.. إيران تهدد.. سنمحو إسرائيل إذا هاجمت أراضينا | #غرفة_الأخبار


.. 200 يوم من الحرب.. حربٌ استغلَّها الاحتلالِ للتصعيدِ بالضفةِ




.. الرئيس أردوغان يشارك في تشييع زعيم طائفة إسماعيل آغا بإسطنبو