الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أخلاق يسارية

علي دريوسي

2020 / 7 / 9
الادب والفن


خلال دراستي الجامعية كنت أعمل مثل معظم الطلبة الفقراء لتمويل جزء من حياتي الطلابية بعرق جبيني وتعب يديّ، كنت أحمل قضبان الحديد وعوارض الخشب وأحجار البناء الثقيلة والبلاط وأكياس الإسمنت والرمل والحصى وأنقلها مع العمال الآخرين على الأكتاف وبالأكُفّ الحافية العارية إلى الطوابق العليا في الأبينة السكنية الجديدة أو إلى أماكن بناء المشاريع التجارية، كنت أعمل في الأيام الباردة والحارة على السواء، كان هذا النوع من الأعمال الجسدية العضلية أقسى مما تحتمله طاقة الإنسان بكثير وكانت الأجور المدفوعة تافهة وهزيلة كوجوه المتعهدين والمستثمرين.

في إحدى المرات اشتغلت برفقة أخي لصالح مديرية الزراعة في اللاذقية لعدة أسابيع متفرقة تحت إشراف أحد المهندسين المدنيين المدعومين "ق. ع." والذي سرق ملايين الليرات أثناء إشرافه على بناء بعض الوحدات الزراعية، ذات أسبوع شتائيّ قارس توجّب علينا أن نعمل في مكان بعيد عن المدينة، كان الطقس ماطراً وعاصفاً ومكفهراً، كنا نبدأ العمل في الصباح الباكر وننتهي بحلول المساء، بعد أربعة أيام من الجهد المضني والإرهاق والعواء الذئبّي في براريّ وغابات البسيط خارت عزيمتنا وضعفت قوتنا وهمتنا وخرّ كلانا صريع الحُمَّى لعدة أيام لاحقة.

بعد أن تعبت وسئمت من الأعمال العضلية توجهت إلى الرفيق أبو نضال في العطلة الصيفية التالية على خروجه من السجن راجياً منه أن يساعدني بتأمين فرصة عمل طلابي نظيفة في مكتبة لبيع الكتب مثلاً أو في مكتب للمحاسبة بحكم علاقاته الطيبة مع بعض ميسوري الحال من الشريحة البرجوازية الصغيرة.

حينها أشعل الرفيق سيجارته بهدوء، أخذ نفساً عميقاً منها ووضعها في المنفضىة، نزع نظارته عن عينيه وانشغل بتنظيفها وهو يفكّر متمعناً، لم يكن ينقصه إلا أن يُحضر كتاب "ما العمل" كي تكتمل الصورة، أخبرني بأنه يعرف شخصاً قد يستطيع مساعدتي فيما أبتغيه، وأخذ يشرح لي عن رجل لبناني من مدينة طرابلس كان قد تعرَّف إليه في سجن صيدنايا، في المهجع المجاور لمهجعه، كان الرجل قد سُجِنَ بتهمة تجارة المخدرات وحيازتها، رغم ذلك فهو رجل شهم وقبضاي وخدوم، بعد أن أنهى تاجر الحشيش هذا محكوميته في سوريا عاد إلى قريته البحرية، إلى أهله وناسه وأعماله، هناك يدير مرفأ وخليجاً بحرياً بالإضافة إلى عدة مشاريع تجارية وشبكة علاقات ومعارف كبيرة، ختم أبو نضال حديثه بأن شجعني على السفر إلى طرابلس والعمل لدى الرجل الوقور بعد أن أعطاني عنوانه ورسالة توصية، وكانت فلول الحرب في لبنان ما زالت قائمة والرصاص يلعلع.

عملت بنصيحة الرفيق وكانت هي المرة الأولى في حياتي التي سأغادر فيها مدينتي إلى مدينة أخرى في بلد مجاور. بعد سفر وتشرد في بيروت التقيت بالشاب الجريء ناصر أحد أخوة أصدقائي، أمضيت لديه ثلاث ليالي سوداء في غرفة خاوية ومهدّمة، تحت زخ الرصاص المتقطع المخيف، كان قد استولى عليها عن طريق معارفه هناك، كان كل ما يُحيط بي غريباً ومستهجناً وكنت صامتاً، تطوع ناصر لمرافقتي إلى منزل الرجل في ضواحي طرابلس بعد أن قصصت عليه سبب سفري، استأجر سيارة خاصة لإيصالنا.

وصلنا إلى عنوان بيته البحري الكبير، استقبلنا أحد مرافقيه وأدخلنا إلى غرفة ضيافة راجياً منا الانتظار ريثما يأتي المعلم، بعد دقائق قليلة جاء المعلم، نهض ناصر وتكلم معه بجرأة حسدته عليها، تكلم ناصر نيابة عني، أخجلني وهو يمدح بأخلاقي واجتهادي ومحبتي للعلم، طلبت منه أن يسكت فسكت، قال رجل المخدرات بكل بساطة وكياسة ما معناه: "ما الذي أتى بك إليّ؟ لا مكان لأمثالك هنا، عد إلى مدينتك". ثم طلب من حاجبه بإشارة من يده أن يُحضر شيئاً، بعد برهة اقترب المعلم مني وقدّم لي رزمة من النقود وهو يقول: "هذه هدية لك تعوضك عن تكاليف السفر إلى هنا وتساعدك قليلاً في دراستك الجامعية وسلامي للأخ أبو نضال".

رفضت طبعاً بدافع الغباء والعصامية أن آخذ النقود، ودّعته وخرجت، فما كان من الشاب ناصر إلا أن مدّ يده بحركة سينمائية متقنة، وبغمضة عين تناول الرزمة شاكراً كرم المعلم وتفهمه للحالة ومضى خارج الفيلا دون أن أستطيع التدُّخل، وحين عاتبته في الطريق على فعلته الحمقاء أجابني بأن المبلغ المقدّم عبارة عن هدية والهدية ينبغي ألا تُرّد، عدّ المبلغ بأصابع خبيرة وقال ثلاثمائة ألف ليرة لبنانية، تناول خمسين ألف ليرة وهو يعني بأن هذا المبلغ هو لتكاليف النوم والسفرة من بيروت إلى طرابلس وبالعكس، وترك لي ما بقي.

عندما رجعت إلى اللاذقية ذهبت مساء اليوم نفسه إلى بيت أبو نضال، أخبرته بتفاصيل ما حدث معي، أعطيته المبلغ، هديتي، ليرتاح ضميري، آملاً منه إعادته إلى مصدره، استلم الرفيق المبلغ ووعد بإرساله صبيحة اليوم التالي بالبريد السريع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث