الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أجنحة الموت

نواف خلف السنجاري

2006 / 6 / 27
الادب والفن


في أسواق البصرة كانت عيوننا معلقة تبحث عن لعبة، أو ثوب جميل نحمله لأطفالنا أنا و صديقي (ماركار) الذي يسكن مدينة بغداد، و هو أب لطفلة جميلة اسمها (سهى) تصغر ابني الحبيب (يوسف) بشهر واحد.. كثيرا ما كنت أمازح صديقي و أقول له: ابني سيتزوج ابنتك عندما يكبران، فيقهقه عاليا و يقول: لن أعطيها له لأنه سيكون مثلك جبانا.. تركنا صورتيهما معلقتين فوق صندوق المئونة في ملجئنا وانطلقنا.
كنا فرحين لان أجازتنا تصادف دائما في نفس الوجبة _ التي تتأخر لتستمر أكثر من خمسين يوما أوقات الإنذار_ و هذا يهيئ لنا فرصة "العيش سوية أو الموت معا".. كنت اعد الأيام، انتظر أن أضع (نموذج الإجازة) في جيبي و احمل حقيبتي وسط توديع زملائي الجنود و تمنياتهم لي بقضاء إجازة سعيدة، و عيونهم مليئة باللهفة و الأمل لأوصل رسائلهم و أخبارهم إلى عوائهم و أحبائهم الذين ينتظرون عودتهم بفارغ الصبر. كم كنت أود لو احلق بطائرة تحملني إلى قريتي الجميلة التي تنام بهدوء شمال مدينة الموصل، لاختصر الزمن و اكسب ساعات ثمينة أضيفها فوق عمر الإجازة القصير.
أكملنا شراء حاجياتنا و استقلينا سيارة (تاكسي) من كراج البصرة باتجاه العاصمة، كل منا يقلّب الهدايا التي اختارها غير مصدقين بها من (الفرح) الذي تعلمنا أن نستعيره بغريزتنا، لنرمي وراء ظهورنا (مؤقتا) كل مناظر القتل و بشاعة الموت و الدم المتيبس المجبول بالتراب و رائحة البارود، و مرارة الترقب و القلق الذي يسكن أرواحنا طوال الوقت، و لا نستطيع انتزاعه منّا حتى أيام الإجازات، فكم مرة فززت من نومي على صوت قذيفة مدفع مزّقت بقايا أحلامي الهادئة و انتزعتني من فراشي لاصطدم بنظرات زوجتي المذهولة و الممزوجة بالشفقة و المرارة.
جلسنا في المقعد الخلفي للسيارة نسمع أغاني الجنوب منطربين (بالأبوذية) التي كان يغنيها داخل حسن.. كانت الأحاديث تدور عن آخر مستجدات الحرب و الهجوم المزمع شنّه على القاطع القريب من مدينة الفاو.. تلك المدينة التي تحولت إلى محرقة ابتلعت آلاف الجنود و أبيدت (ألوية) بأكملها على مشارفها دون أن تحقق شيئا يذكر.. قاطعنا السائق و كان رجلا تجاوز الستين من عمره، تبدو على محيّاه علامات المرح و اللامبالاة، يضع في زاوية فمه سيجارة تهتز كلما تكلم. و من المرآة المقابلة لوجهه بانت ندبة واضحة فوق حاجبه الأيمن أعطت وجهه تميّزا و قوة و قال ضاحكاً: سأحكي لكم عن حادث وقع ليلة البارحة، كان سببه (دبابة مشئومة) معطلة تربض على جانب الطريق في منطقة لا تبعد أكثر من ربع ساعة عن هذا المكان.. تصوروا غباء السائق الذي لم يميّز الدبابة و اصطدم بها! فتحولت سيارته إلى (خردة) و الركاب الذين معه إلى أشلاء.. ثم أكمل بعصبية:" كم اكره تلك الدبابة اللعينة التي لا يسلم منها الأبرياء حتى و هي معطلة"!. استمتعنا بحديث السائق و ضحكاته و نكاته الماجنة، و بدأ التعب و النعاس يداهمان جفوني المتعبة من (واجب) الليلة الماضية، فاستغرقت في إغفاءة لذيذة... فتحت عينيّ بعدها لأجد صديقي ممددا على سرير بالقرب مني و ساقه معلقة إلى أعمدة فوق سريره!! سألت الممرضة باستغراب: ما الذي أتى بنا إلى هنا بحق السماء؟!. ابتسمت و قالت: انتم محظوظون لأنكم نجيتم بأعجوبة من حادث اصطدام مروّع بدبابة معطلة على الطريق بين البصرة و بغداد.. الحمد لله على نجاتكم. قلت لها بسخرية ممزوجة بالألم:
"ما الفائدة من نجاتنا ما دامت أجنحة الموت ترفرف فوقنا أينما كنّا؟!."








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح


.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص




.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع