الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رَشَاقةٌ جديدةٌ في بعض حياتنا..

السيد إبراهيم أحمد

2020 / 7 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


عرفنا الرشاقة زمنا في الجسم المشدود والقوام الممشوق، كما عرفناه أيضا في اللغة والأسلوب، والسرد من خلال انسيابية انتقال السارد من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب وأجمله حين تقترن الرشاقة السردية بعاملي الإثارة والتشويق، ومن الرشاقة عرفنا “ابن رشيق القيرواني” الأديب البليغ، والناقد المعروف بأشهر كتبه “العمدة في معرفة صناعة الشعر ونقده وعيوبه”، لكن هناك رشاقة جديدة غزت بعض ميادين حياتنا العملية وما كان لأحدٍ أن يتخيل أن هذه الميادين ستتسع أو ترحب أو تقترن بالرشاقة أبدا!

ربما لكوني رجلا درس الإدارة ومارسها زمنا، كما خاض مجال المحاسبة زمنا أيضا وقعتُ على هذه الغزوة الجديدة للرشاقة التي لن تُغري أي أديب أو كاتب في تعقبها خارج حصونها التي أشرتُ إليها في المقدمة، فهل يتصور أن تقترن الرشاقة بالتفكير، أو تقترن بالتصنيع أو الإنتاج، أو تقترن بالإدارة، أو تقترن بالاستراتيجية، أو تقترن بالحكومة وبالتنظيم أو المنظمة كما تقترن بالمحاسبة وأدواتها؟!

وإذا كانت “الرشاقة” في أحد معانيها حسن القامة ولطفها، فمن معانيها أيضا الخفة والسرعة في العمل، وربما كان هذا المعنى هو الذي أغرى بعض علماء الإدارة في جذبها لميادينهم لكونهم رأوا أن لهم فيها نصيبا فرطوا فيه زمنا حتى استولى عليه الأدباء، فألصقوا الرشاقة بالتفكير الذي هو استراتيجية لتأسيس شركات ناشئة تستند منذ بدء تشغيلها على إعلاء القيمة والحد من الفاقد، وقرنوا بين الرشاقة والإنتاج أو التصنيع بأن يأتي خاليا من الهدر أو الفاقد باعتباره وسيلة منهجية للتقليل من النفايات لكونها تمثل عبئا زائدا فيتخلصون منها دون أن يوقفوا الإنتاج، وهو ما أوجب استحداث ما يُسمى بـ “التيسير الرشيق” الذي عرفته المؤسسات اليابانية والأمريكية وخاصة اليابان التي خرجت من حربين عالميتين وحاولت اللحاق بركب التقدم من خلال تطبيق هذه الدينامية التي تستوجب القضاء على كافة مصادر التبذير والإسراف في الوقت والمواد والموارد، وتعظيم هوامش الربح، وتفعيل الرقابة المحكمة والفعالة، وإنتاج مخرجات مقترنة بالجودة في ظل أجواء تنافسية لن تسمح بالبقاء إلا للأفضل.

لقد استلزم دخول الرشاقة في الإنتاج والتصنيع أن يتوازى معه ـ أي التصنيع الرشيق ـ وجود قيادات مدربة على الإدارة الرشيقة التي تسير في ذات الاتجاه الذي يعتمد على الاستجابة الفورية لكافة المتغيرات المستجدة وسرعة التعامل معها من خلال تعديل أسلوب العمل بصورة مناسبة وانسيابية؛ فالإدارة الرشيقة خفيفة الوزن والحركة، مرنة، متطورة، تقبل بالتحدي، ولا تخشى المنافسة، وتنبذ الكلاسيكية، والجمود، والثبات، وتثبيط الهمم وهذه أهم صفات أو نكبات الإدارة المترهلة التي عجزت أوصالها ومفاصلها عن الاستمرار في المنافسة، وهو ما استلزم أن يكون هناك أدوات محاسبية رشيقة تواكب التطور الحادث وبعيدة كل البعد عن النظريات المحاسبية الجامدة التي تعلمناها وطبقناها في شركاتنا ومؤسساتنا.

لقد دخلت الرشاقة بعض حياتنا، والـ “نا الدالة على الفاعلين” هنا تخصنا كبشر لكنها لا تخصنا كعرب ـ في أغلبنا ـ لأن حياتنا على المستويين الرسمي والخاص مازالت بعيدة كل البعد عن القيادة الرشيقة وأدوات إدارتها ويكفي للدلالة على ما أقول أن نلقي نظرة على حال الأسرة العربية الفاقدة لثقافة ترشيد الاستهلاك التي تحدثتُ عنها طويلا في كتابي: “ثقافات مفقودة في عالمنا العربي المعاصر”.

وهو ما يفرض في التو أن نتواجه بالعديد من الأسئلة التي يَلزم أن نجيب عنها بلا مواربة أو تحليل أو تعليل ـ كما تعودنا ـ في أغلب نقاشاتنا التي لا تساعدنا سوى في التكيف مع كل سيء قائم دون السعي أو محاولة السعي لتغييره، ذلك أن التبرير ليس فيه مشقة أو فعل بينما يستلزم التغيير حركة وعملا. ومن هذه الأسئلة:

هل التزمنا بالحوار الرشيق داخل مؤسسة الزواج سواء بين الزوج وزوجه أو بين الزوجين وأولادهم؟ هل التزمنا بها داخل مؤسسات العمل بين الرئيس ومرؤسيه؟ هل تعلمنا الرشاقة في أسلوبنا عند التعامل مع المخالف لرأينا فاحترمنا وجهة نظره بل ونفذنا مقترحه أم سفهناه وحططنا من شخصه ومااقترح؟ هل دخلت الرشاقة في معاملاتنا اليومية على كافة الأصعدة؟

في الوقت الذي تحدث فيه عالم الاجتماع البريطاني “زيجمونت باومان” عن السيولة في العلاقات السائدة في عالمنا المعاصر كنا من أشد الناس تمسكا بالثبات على بعض العادات الغريبة في عالم الأعمال والمؤسسات سواء الحكومية أو في القطاعين العام والخاص، ومراجعة صغيرة للمخازن المكتظة بالفاقد والمهدر من الأجهزة المهملة والمعطلة أو بيوتنا التي تئن من الفاقد في المال والوقت مثلما تئن من الاحتفاظ بما لا قيمة له من الأدوات والأثاث لتخبرنا بمكان العالم المتقدم منا وبمكاننا منه.

لقد ترهل ـ أكثرنا ـ في قوامه وفي تفكيره الثقيل الثابت الجامد، وفي العواطف القائمة على التطرف في العلاقات التي نبنيها سريعا ونهدمها بأسرع ما أقمناها، وذلك لافتقادنا للرشاقة: لغة، وأسلوبا، وسردا، وحوارا، وعملا.. فهل نسمح ـ ولو على سبيل المحاولة ـ للرشاقة أن تغزو كل حياتنا كل الوقت؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قوات الاحتلال تخرب محتويات منزل عقب اقتحامه بالقدس المحتلة


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل إلى صفقة ونتنياهو يقول:




.. محتجون أمريكيون: الأحداث الجارية تشكل نقطة تحول في تاريخ الح


.. مقارنة بالأرقام بين حربي غزة وأوكرانيا




.. اندلاع حريق هائل بمستودع البريد في أوديسا جراء هجوم صاروخي ر