الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أيقونة الوجدان الجمعي

صبحي حديدي

2006 / 6 / 27
العولمة وتطورات العالم المعاصر


التسديدة الصاعقة، والفرصة الضائعة، وضربة الجزاء، والهدف المحقق... ليست وحدها اللحظات الأكثر درامية في مباريات كرة القدم التي يتابعها العالم هذه الأيام، إذْ لعلّ البرهة الأكثر إثارة للحماس، والأشدّ اكتظاظاً بالمعنى والجيشان المعنوي، هي تلك التي تسبق بدء المباراة، خلال الثواني المعدودات التي تشهد عزف النشيد الوطني لكلّ من الفريقين المتباريين.
ومن الثابت أنّ النشيد الوطني لأيّة أمّة هو أشبه بالعلامة الفارقة التي تميّزها عن سواها، والرمز الذي يعبّر عن هويتها الوطنية واستقلالها السيادي، تماماً مثل العلم الوطني أو أكثر قليلاً ربما. ويحدث مراراً أن يجهل الآخرون تصميم علم دولة ما، ولكنهم يحفظون موسيقى نشيدها الوطني بسبب عزفه في المناسبات الرسمية والإحتفالات والمباريات الرياضية بصفة خاصة. وفي معظم دورات كأس العالم لكرة القدم، يحدث أن يحفظ المرء جملة موسيقية واحدة على الأقلّ من الأناشيد الوطنية الخاصة بالأمم التي تأهلّت فرقها إلى النهائيات، ولعبت بالتالي مباريات اكثر أتاحت عزف نشيدها الوطنة مرّات عديدة.
غير أنّ النشيد الوطني هو، أيضاً، جزء من الذاكرة الجَمْعية للأمّة، بل يحتلّ صدارة عالية في الشطر الأكثر إثارة للمشاعر الوطنية الأعرض: الإستقلال (في حال الأمم التي كانت خاضعة للإستعمار أو الإنتداب أو الإحتلال)، أو تأسيس نظام سياسي جديد، أو نشوء الأمّة ذاتها بكلّ بساطة. وثمّة أناشيد وطنية ذات طبيعة خاصّة للغاية لأنها من نوع كفاحي ـ ملحمي عابر لمشاعر البلد صاحب النشيد، كما في مثال النشيد الوطني الجزائري الذي مضى زمن كانت فيه حناجر ملايين العرب تنشده وكأنها تؤدّي طقساً سحرياً لاهباً وملهباً للمشاعر.
وبهذا المعنى يتحوّل النشيد الوطني إلى أيقونة مقدّسة راسخة في الوجدان الشعبي، على نحو قد يبلغ من التجريد مبلغاً يستعصي تماماً على أيّة إمكانية لإدخال تبديلات أو تعديلات، وإنْ طفيفة شكلية تجميلية تطويرية، على النصّ الشعري الذي يصنع النشيد. أمّا اللحن ذاته فإنّ المساس به يصبح أقرب إلى انتهاك الذاكرة الجمعية، وجرح الذات الوطنية، وربما تشويه العلامة الفارقة التي شبّت عليها الأمّة. وباستثناء حالات محدودة للغاية، في الأنظمة الدكتاتورية بصفة خاصة، أو حين تنتقل الأمّة من طور إلى طور آخر مختلف تماماً (كما في جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الأبارتيد)، فإنّ الأناشيد الوطنية للأمم تظلّ ثابتة خالدة باقية، ما بقيت الأمّة.
ومنذ سنوات دار في فرنسا سجال لافت حول النشيد الوطني الفرنسي، وما إذا كان من الممكن ـ أو حتى من الواجب، والضرورة ـ تعديل بعض المقاطع في «المارسييز» الشهير. وخلفية السجال بدأت على يد الفنان والمغنّي والمؤلف الموسيقي الفرنسي أنطوان كابيلا، الذي حاول انتهاز فرصة حلول الألفية الثالثة لكي يطلق حملة المطالبة بتعديل بعض العبارات العنيفة والدموية والخشنة التي تجعل من «المارسييز» أنشودة حرب وتعطّش للدماء والثأر، وليس نشيداً وطنياً لأمّة تزعم أنها بلد الأنوار والتسامح وحقوق الإنسان.
والرجل كان يعرف أنّ اللحن أكثر قداسة (وعراقة، وتجذراً، وجمالاً في الواقع!) من أن يجاهر بتعديله أو اجتثاث بعض أجزائه من ذاكرة الفرنسيين، شيباً وشباباً. وكان، كذلك، يعرف أنّ قلّة قليلة من الفرنسيين هي وحدها التي ما تزال تنشد النشيد كنصّ وقصيدة، وأنّ قوّة «المارسييز» كانت وتظلّ كامنة في اللحن الموسيقي ذاته. قبل هذا السجال، كان السياسيّ اليميني المتطرف جان ـ ماري لوبين قد شنّ هجوماً مقذعاً على الأعضاء «الملوّنين» في الفريق الوطني الفرنسي لكرة القدم، لأنهم لا ينشدون «المارسييز» في المباريات الرسمية. ثمّ اتضح فيما بعد أنّ السبب لا يعود إلى قرار اللاعبين مقاطعة النشيد الوطني الفرنسي، بل إلى حقيقة أنّ معظمهم ــ ملوّنين وغير ملوّنين ــ كانوا لا يحفظون نصّ النشيد كاملاً، وأنّ الاكتفاء بتحريك الشفاه كان سيضعهم في موقف أكثر إشكالية من خيار زمّ الشفاه!
كابيلا دعا إلى تعديل الفقرة التي تحثّ على حمل السلاح ضدّ «الغزاة الأجانب المتوحشين» الهادفين إلى «جزّ رقاب أبنائنا ونسائنا»، وتدعو الجنود الفرنسيين الثوريين إلى «إغراق الخنادق» بـ «الدماء النجسة» للغزاة. حجّته أنّ هذه الفقرة لا تحرّض على العنف الأقصى فحسب، بل هي تتضمّن تلميحات عنصرية أيضاً (الأجانب، الدماء النجسة) قد تناسب الحاجات الثورية لعام 1795، ولكنها اليوم لا تتناسب مع القِيَم الجمهورية لفرنسا الحديثة. وهكذا ارتأى استبدال عبارات إراقة الدماء وجزّ الرقاب، بأخرى تتحدث عن «تألّق السماء اللازوردية» و«تفتّح الألوان في الريح». وأعدّ قرصاً مدمجاً (CD) يحتوي على كلمات النشيد الوطني المقترح، وزّعه على أعضاء الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) وعلى شخصيات ثقافية وفكرية وسياسية هنا وهناك، آملاً بنقل النقاش إلى مستوى عملي. كذلك نقل حملته إلى شبكة الإنترنيت، وحاول جمع تواقيع المواطنين على عريضة كبرى إلى رئيس الجمهورية والمجلس الدستوري، وأقام سلسة حفلات موسيقية أدّى فيها النشيد الوطني المقترح، برفقة كورال مهيب مميّز.
.. دون جدوى، حتى إشعار آخر! لقد ظلّ «المارسييز» حصّة الذاكرة الجمعية، بدليل أنّ 40% من الفرنسيين يقرّون بـ «دموية» النشيد، ولكن 7% فقط يوافقون على تغيير كلماته!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرنسا.. مظاهرة في ذكرى النكبة الفلسطينية تندد بالحرب الإسرائ


.. مسيرة تجوب شوارع العاصمة البريطانية لندن تطالب بوقف بيع الأس




.. تشييع جثمان مقاوم فلسطيني قتل في غارة إسرائيلية على مخيم جني


.. بثلاث رصاصات.. أخ يقتل شقيقته في جريمة بشعة تهز #العراق #سوش




.. الجيش الإسرائيلي: دخول أول شحنة مساعدات إنسانية عبر الرصيف ا