الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اوروبا المؤمركة تتجه بسرعة نحو الافلاس والفوضى

جورج حداد

2020 / 7 / 21
العولمة وتطورات العالم المعاصر




حتى الحرب العالمية الثانية كان الاستعمار القديم (الكولونياليزم) هو السائد في العالم (ما عدا الاتحاد السوفياتي الذي كان محاصرا ومعزولا) وكان مركز ارتكاز النظام الكولونيالي هو: الانتاج (اي الصناعة والزراعة المرتكزة الى الصناعة). وكانت المتروبولات (البلدان الاستعمارية الاوروبية) هي "مصنع العالم". اما المستعمرات وشبه المستعمرات، التي سميت في وقت ما "العالم الثالث"، فقد فرض عليها فرضا بالقوة المسلحة ان تكون:
-1- مصدرا للمواد الاولية (الخام والزراعية) لتزويد الصناعة في المتروبولات.
و-2- اسواقا لتصريف المنتوجات الصناعية والزراعية المصنعة للمتروبولات.
وكان ما يسمى "مقص الاسعار" يفرض بقوة السلاح على شعوب بلدان المستعمرات وشبه المستعمرات، اي ان تشتري سلع البلدان الاوروبية باسعار مرتفعة (اكثر من قيمتها الحقيقية)، وان تبيع موادها الاولية باسعار منخفضة (ادنى من قيمتها الحقيقية).
وطبعا كانت الطبقات الرأسمالية الحاكمة في الدول الاستعمارية تستحوذ على القسم الاعظم من تلك الارباح "الفائضة" الناتجة عن "مقص الاسعار" (اي فروقات الاسعار) سالف الذكر. ولكنها كانت "تتنازل" عن جزء اقل او اكثر من تلك الارباح "الفائضة" لرفع مستوى معيشة الجماهير الشعبية في اوروبا الاستعمارية، من اجل تخديرها والحصول على دعمها للسياسة الاستعمارية، وعلى الاقل شراء سكوتها عن تلك السياسة.
والنتيجة التاريخية لذلك النظام الكولونيالي كانت هي: ان التقدم والبحبوحة في بلدان اوروبا الاستعمارية لم يتحققا الا بفضل ذبح وقهر واذلال وتجويع شعوب "العالم الثالث" المستعمرة وشبه المستعمرة.
وجاءت الحرب العالمية الثانية وسجلت نقطة تحول في النظام العالمي السابق: فمن جهة ظهر المعسكر الاشتراكي (السابق)، ومن جهة ثانية جرى انهيار النظام الكولونيالي القديم بفضل ثورات شعوب المستعمرات وشبه المستعمرات. ولم يعد بامكان دول المتروبولات الاستعمارية السابقة (التي خرجت من الحرب ضعيفة وشبه مدمرة) ان تفرض "منتوجاتها" بالقوة على العالم الثالث كما في السابق. وانتشر الفكر الاشتراكي كالنار في الهشيم في جميع ارجاء "العالم الثالث". وتبنت هذا الفكر ولا سيما في جوانبه الاقتصادية والاجتماعية جماعات كثيرة تعادي او تختلف مع الشيوعية سياسيا ودينيا وايديولوجيا. ونشأت امكانية واقعية لان ينهار النظام الرأسمالي العالمي بمجمله. ولكن التدخل الجيوستراتيجي الاميركي، عسكريا وسياسيا واقتصاديا، قطع الطريق على هذه الامكانية.
فأميركا ليس فقط خرجت من الحرب سليمة ومعافاة بسبب بعدها عن ساحات القتال، بل انها خرجت اكثر غنى بكثير مما كانت عليه، وتحولت فعليا الى "بنك العالم"، الذي تجمعت فيه احتياطات الذهب والوف مليارات الرساميل الهاربة من بلدانها بسبب الحرب والثورات وانهيار النظام الكولونيالي القديم. وادى هذا التراكم للرساميل العالمية في اميركا الى عدة نتائج جديدة اهمها:
-1- ظهور الشركات متعددة الجنسية والاحتكارات الرأسمالية العالمية الكبرى ونواتها الرساميل اليهودية.
-2- اعتماد الدولار بوصفه العملة الدولية الرئيسية.
-3- ظهور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لضبط عملية السيطرة الدولارية على الاقتصاد العالمي بمجمله.
وكل ذلك ادى الى تحقيق نقلة نوعية في النظام الرأسمالي العالمي، تمثلت في نقل مركز الارتكاز للاقتصاد الرأسمالي العالمي من "الانتاج" الى "التمويل"، المتمثل في القروض والتوظيفات والاستثمارات، وهو ما اسس لظهور النظام النيوليبيرالي الجديد والعولمة (الاميركية) وما يسمى "الرأسمالية المتوحشة". وبفضل هذه الآليات عملت اميركا ولا تزال تعمل لفرض هيمنتها على العالم.
وادى هذا "التحول النوعي" في النظام الرأسمالي ـ الامبريالي العالمي الى النتائج التالية:
-1- الارتفاع الجنوني لنسبة حصة القطاع المالي في الاقتصاد العالمي من 5% في اعقاب الحرب العالمية الثانية، الى 50% اليوم.
-2- محورة الاقتصاد العالمي حول الدولار، اي وضعه تحت رحمة ماكينة طباعة الدولار الورقي التي تمسك بها المجموعة المالية اليهودية التي تسيطر على "قائمقام" البنك المركزي الاميركي المسمى "فيديرال ريزرف بنك".
-3- تحويل اميركا الى دولة طفيلية بشكل شبه كامل. اذ اصبح الانتاج الاميركي يمثل اقل من 18% من الاقتصاد الاميركي، الذي بدوره يمثل اقل من 20% من الاقتصاد العالمي، في حين انها ـ اي اميركا ـ تستهلك اكثر من 40% من الانتاج العالمي.
-4- تحولت اوروبا ذاتها، بكل تاريخها العريق، الى حوش خلفي ومنطقة نفوذ لاميركا. وبالتالي صارت اوروبا تنتج، واميركا تستهلك انتاجها (وانتاج غيرها) مقابل عملة ورقية (دولارية) تفقد قيمتها الشرائية باستمرار. وهذا يعني ان اوروبا فقدت بالتدريج كل الثروة الاضافية التي سبق لها ان نهبتها من شعوب المستعمرات وشبه المستعمرات طوال مئات السنين، ـ فقدتها في بضعة عقود فقط لصالح اميركا. واصبحت ـ اي اوروبا ـ تعيش يوما بيوم على انتاجها الخاص، الذي اخذ بدوره يفقد قيمته التسويقية بالتدريج بفعل الارتباط بالدولار الذي يفقد قيمته الشرائية بالتدريج لصالح الطغمة الاحتكارية المالية الاميركية ـ اليهودية التي تصدر وتطبع الدولار الورقي.
-5- وبفعل سعي الكتلة المالية الاحتكارية الاميركية ـ اليهودية العولمية الى الحصول على الارباح كيفما كان، فقد شجعت موضوعيا على التصنيع وزيادة الانتاج في ما سمي "النمور الاسيوية" اليابان وكوريا وتايوان وماليزيا واندونيسيا وغيرها، و"تغاضت" وشجعت موضوعيا ايضا على النهضة الصناعية العارمة للصين التي يحكمها الحزب الشيوعي والتي يبلغ عدد سكانها 50% اكثر من عدد سكان اوروبا واميركا مجتمعتين. واخذت هذه البلدان الاسيوية تنتج بكميات هائلة سلعا صناعية (بمواصفات دولية) ارخص بكثير من السلع الاوروبية الغالية، لان اجور اليد العاملة في اسيا هي ادنى بكثير من اجور اليد العاملة "المدللة" في اوروبا. وشكل انتاج البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة السابقة مزاحمة شديدة وقاتلة للانتاج الاوروبي الذي تقلصت نسبته بشكل كبير جدا في نطاق التجارة العالمية.
واخيرا، وبحكم القوانين الاقتصادية العامة ذاتها للرأسمالية، انفجر البالون المنفوخ للرأسمال المالي الريعي (الفوائدي ـ المضارباتي)، واندلع في اميركا سنة 2008 حريق الازمة المالية ـ الاقتصادية التي امتد لهيبها الى اوروبا. والسبب الاساسي والرئيسي لهذه الازمة المتمادية الى الان، هو الاصطدام الانفجاري بين "لامحدوية" الارتفاع الجنوني للارباح الناتجة عن السياسة المالية الربائية ـ المضارباتية، وبين "محدودية" القدرة الشرائية للمستهلكين.
وقد استطاعت اميركا ان تعالج جزئيا ومرحليا عواقب الازمة، بفضل قدرتها على طباعة المزيد من العملة الدولارية الورقية التي لا خيار للعالم سوى ان "يقبضها" شاكرا(!).
اما اوروبا فليس لها هذه الامكانية. ولهذا فإن معاناتها من الازمة هي اكبر من معاناة اميركا بكثير، وهي ـ اي اوروبا ـ "تحل" المشاكل الناتجة عن الازمة بالتضخم والبطالة وخفض مستوى معيشة الجماهير الشعبية الاوروبية.
وعلى هذه الخلفية جاء وباء كورونا.
وسواء كان هذا الوباء شكلا من اشكال الحرب البيولوجية (كما يوحي دونالد ترامب في اتهاماته المتكررة للصين)، او هو ظاهرة "طبيعية" نتيجة تلوث البيئة بسبب وحشية تعامل نظام الجشع الرأسمالي مع الطبيعة، فإن الازمة الاقتصادية تشق طريقها بسرعة وشدة في اوروبا: الانتاج ينكمش بنسب عالية جدا تحت الصفر، والبطالة تتفاقم، والخدمات الاجتماعية تتضاءل بشكل كارثي وتتحول الى "جمعية دفن موتى"، والنظام التعليمي ينهار، والاسعار ترتفع بشكل جنوني.
واذا كانت اميركا قد قدمت لاوروبا "مشروع مارشال" الانقاذي بعد الحرب العالمية الثانية، من اجل الهيمنة على اوروبا، فإن اميركا اليوم (المأزومة بدورها) لا تستطيع ولا تريد مساعدة اوروبا، بل تريد حل ازمتها الخاصة على حساب اوروبا والعالم اجمع، اذا استطاعت الى ذلك سبيلا.
وفي مثل هذا الوضع المأساوي، بكورونا وبدون كورونا، فإن اوروبا (وفي اعقابها اميركا) تقف على اعتاب الافلاس والفقر والمجاعة الحقيقية والفوضى. وليس من حل "رأسمالي" لهذا الوضع الكارثي الا بأن تعمد اميركا الى شن الحرب على روسيا والصين وايران للسيطرة على هذه البلدان ونهب خيراتها غير المحدودة. ولكن باب هذا " الحل" هو مقفل تماما، لان الستراتيجيين العسكريين الاميركيين يعلمون علم اليقين ان الاسلحة المتفوقة الروسية قادرة على ان تمحو من الوجود بالنووي كل مدينة اميركية، وكل المدن الاميركية، في اقل من ساعة. وفي حال استبعاد السلاح النووي وخوض حرب بالاسلحة الكلاسيكية فإن الاساطيل البحرية والجوية الروسية والصينية قادرة على ان تنقل الى الاراضي الاميركية عشرات ملايين المقاتلين الاشاوس، من الروس والصينيين والايرانيين وحلفائهم، كي يخوضوا حربا برية في كل زوايا الارض الاميركية ذاتها، وهو ما ليست اميركا مستعدة له اي استعداد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مستشرق إسرائيلي يرفع الكوفية: أنا فلسطيني والقدس لنا | #السؤ


.. رئيسة جامعة كولومبيا.. أكاديمية أميركية من أصول مصرية في عين




.. فخ أميركي جديد لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة؟ | #التاسعة


.. أين مقر حماس الجديد؟ الحركة ورحلة العواصم الثلاث.. القصة الك




.. مستشفى الأمل يعيد تشغيل قسم الطوارئ والولادة وأقسام العمليات