الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حامد أبو أحمد يؤثر الرحيل إلى عالم أرحب وأكثر عدلاً

خالد سالم
أستاذ جامعي

(Khaled Salem)

2020 / 7 / 22
الادب والفن


"لكنها تدور يا ملوك الطوائف..."
لئن كانت الحياة ملغزة للإنسان فإن الموت هو أكبر ألغاز الحياة البشرية لا يحل طلاسمه غير الدين والإيمان بواهب الحياة وسالبها، ما يخفف حدة الفقد ويجعله يخفت مع مرور الوقت. لكن هذا اللغز لا يُحل كليًا طالما ظل الإنسان يفكر في سرعة حياة الإنسان وقصرها، وهي حقيقة دامغة، فعندما يصل إلى سن الحكمة وتشكيل رؤية شخصية لأمور الحياة ومعناها يكون قد اقترب من الشيخوخة.
هذا هو ما حدث لي في حالة الأصدقاء والزملاء الذين ترجلوا إلى السماء في السنوات الأخيرة، وكان آخرهم حامد أبو أحمد، أستاذ الأدب الإسباني في كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، الذي غيبه الموت أول أمس، ليواصل عقد الدراسات الإسبانية في مصر والوطن العربي في فقد حباته، لؤلؤةً تلو الأخرى خلال العقد الأخير.
شريط الذكريات يحملني إلى العاصمة الإسبانية، إذ لا أزال أتذكر نشاطه واقباله على الحياة بشقيها المعهدي والثقافي وهو يعد أطروحته في جامعة مدريد التي انتهى منها في النصف الأول من الثمانينات. وكان بالنسبة لمن حوله من الأساتذة والمستعربين الإسبان والمثقفين العرب، وعلى رأسهم الشاعر عبد الوهاب البياتي، ناقدًا واعدًا، بعد أن هضم مناهج ومدارس النقد ا لغربية والعربية. كان يملأ الدنيا ضجيجًا ثقافيًا ومعهديًا بمقالاته التي أفردت لها مطبوعات عربية صفحات، من بينها مجلة العربي ومجلة البيان، مطبوعة رابطة أدباء الكويت الدسمة موضوعاتها. كان لا يزال للنشر معاييره العلمية الدقيقة سنتئذ، ليس كأيامنا حيث يملأ الكتاب والمبدعون طٌرقات الحياة.
كنت قد وصلت إلى مدريد للدراسة بينما هو كان يستعد لمناقشة أطروحته للدكتوراه بعد شهور، وأذكر أنني في أول زيارة لمكتبة المعهد الإسباني العربي للثقافة التقيت القس سلبادور غوميث نوغاليس، أفضل من درس العالم والفيلسوف المسلم الفارابي، وفي اطار اللقاء قال لي:"حافظوا على حامد أبو أحمد، فهذا الشاب سيغير مسار الدراسات الإسبانية في مصر". وفي هذا الإطار أكد لي الشاعر عبد الوهاب البياتي أن حامد أبو أحمد كان أفضل طلاب الدكتوراه المصريين الذين عاصرهم في مدريد، وتنبأ له بمستقبل عظيم في مجال النقد الأدبي. كان قد انتهى من أطروحته وعاد إلى أرض الوطن حيث واصل العطاء، عطاء متميز عن كثيرين من أترابه، لكن متطلبات الحياة أثقلت كاهله، وهو ما أسر لي به عند زيارتي ذات مرة في مدريد. وكنت قد سمعت أنه يخطب الجمعة في طنطا فاستغربت، وكان مبرره لذلك مثيرًا للدهشة والضحك "فالحياة مختلفة تمامًا في أرض الكنانة..."، فيبدو أن جذوره الأزهرية غلبت عليه، نظرًا لأن الخطابة ليست مهنته.
كان قد تمثل الثقافة الإسبانية جيدًا ومدارسها الأدبية والنقدية وساعده في مشوار الاعداد المشرف على أطروحته أستاذ اللغويات والكاتب الروائي وعضو مجمع اللغة الإسبانية ألونصو ثامورا بيثنتي، الذي كان علمًا من أعلام جامعة مدريد كومبلوتنسي. إلا أنه سعى إلى تأهيل الذات مبكرًا، وكان يضع نصب عينيه أنه سيصبح ناقدًا أكثر من كونه أستاذًا جامعيًا، لهذا درس الفلسفة في آداب عين شمس إلى جانب دراسته الرئيسه للغة الإسبانية في معهد اللغات والترجمة.
برز خلال محطة الدراسة والعمل في مدريد، وكان دائم الحضور والمشاركة في الندوات والمؤترات والتعرف كتاب أميركا اللاتينية الذي مروا على مدريد، كان بعضهم يعرج على لقاءات عبد الوهاب البياتي في مقهى فويما Fuyma التقليدي وسط العاصمة الإسبانية الذي كان يذكرنا جميعًا بمقاهي الشرق العربي الأصيلة.
تمتع حامد أبو أحمد بجلد ومثابرة أبناء ريف دلتا النيل والصعيد، إذ كان كله رغبة في البزوغ بحثًا عن الشمس كالبذور التي دأب الأجداد على بذرها منذ آلاف السنين في طمي النيل فتشقه بحثًا عن الحياة والعطاء. انتمى إلى جيل عظيم في عالم الدراسات الإسبانية والأميركية اللاتينية، وكلهم نبتوا على ضفاف النيل وروى طمي المنبت عرق الفلاحين وكدهم الممتد إلى عهد الفلاح الفصيح في التراث الفرعوني.
كان الدكتور حامد قد ولد في قرية نواج التي تقع في دائرة مدينة طنطا، وهي الدائرة التي ترعرع فيها آخرون أثروا حقل الدراسات الإسبانية والعمل في الجامعة، من بينهما العليان العزيزان، علي المنوفي وعلي البمبي، وشكلوا ثلاثيًا، إلى جانب آخرين، نهض بهذا الحقل وسجلوا له إضافات نوعية سوف تبقى حاضرة ومرجعية لعقود قادمة. هذا الثلاثي الناجح والمتنوع ظل يشغل الساحة ووضعه الطلاب نصب أعينهم للسير على خطاهم، فنشأت أجيال فاعلة في قسم اللغة الإسبانية، في جامعة الأزهر، خرجت من عباءتهم، فخرَجوا دفعات ناجحة تملأ اليوم سوق العمل في مجالات التدريس والترجمة والدعم الفني لشركات خدمة العملاء.
كان حلم الأسرة، مثل غالبية الأسر الريفية في تلك الفترة، أن يدرس علوم الدين، وكلهم أمل في أن يعتلي منبر القرية ويُكسب العائلة وزنًا اجتماعيًا في القرية من خلال الدين روح هذا الشعب منذ فجر التاريخ. ولهذا ألحقوه بالمعهد الأزهري في عاصمة المحافظة، طنطا، وهو معهد عتيق تخرجت فيه أجيال التحقت بجامعة الأزهر في القاهرة. إلا أن اختبار الابن لم تكن علوم الدين، بل اللغات والترجمة ما فتح له الطريق للسفر بغية الدراسة والتعرف على ثقافة الغرب التي اجترها وتمثلها فأفرز رحيقًا طيبًا، متفتحًا، بعيدًا عن الإنغلاق والاعتقاد بامتلاك الحقيقة دون الآخرين.
لقد دخل إسبانيا فولجت إليه وأمسكت بتلابيبه الفكرية بثقافتها وطريقة حياة شعبها، فتحرر من أصفاد الشرق وقيوده وجمود أفكاره وموروثه الآسن في بعض جوانبه. ولقلما يدرك هذا من يسافرون للدراسة في الغرب، فكثيرون أمضوا فترة الدراسة منغلقين على ذواتهم، رافضين لمحيطهم الجديد، خوفًا من ضياع الهوية وصيق الأفق أحيانًا وغيرةً على الدين والهلع من أن يُمزج بأفكار شاردة. لهذا عادوا دون أن يضيفوا لأنفسهم غير الشهادة الجامعية، وهذه ليست كل شيء في حياة الدارس، وإلا لكان من الأفضل أن يبقى في بلده، فربما كان يعد أطروحة دكتوراه أفضل. وهناك من لم يقتصروا على الانغلاق بل تخطوا الحدود والأخلاق منتحلين رسائل لغيرهم ترجموها للمشرف الأجنبي.
عاد الدكتور حامد أبو أحمد محملاً بزَخْمٍ وفهم عميق للثقافة الغربية ومناهجها النقدية، وتجلى هذا في دراساته عن الشعر الإسباني المعاصر والواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية. وكان من أوائل جيله في اثراء المكتبة العربية بترجمات عن آداب اللغة الإسبانية، لكنه سرعان ما تحول إلى نقد الأدب العربي في مصر والوطن العربي، مخلفًا اسمًا يعتد به في هذا المجال. من الطرائف في هذا المجال أنني في مطلع العام الجاري تعرفت في لقاء تلفزيوني إلى إعلامي يكتب القصة أسرّ لي بأن دراساته عن الواقعية السحرية كانت حجر الزاوية لبعض أعماله الروائية. وهذا أمر جميل أن يستضيء المبدعون بدراسات النقاد والباحثين، ما جعله متفردًا في هذا المضمار، فنادرًا ما يوجد بيننا من يكتب دراسات لها ثقلها، إذ يكتفون بالترجمة من الإسبانية، وهذا أمر مشروع وواقعي فليس كل أستاذ جامعي يصلح ليكون ناقدًا وإن كان من واجبه المعهدي اعداد الدراسات والبحوث التي لا يجب أن تقتصر على الحصول على الدرجات العلمية ووتتوقف بعدها.
لم يكن حامد أبو أحمد أستاذ جامعة تقليديًا، بل كان مثقفًا نوعيًا يدرك دوره في المجتمع، لهذا وقف في وجه بعض حالات الفساد في بعض المؤسسات الثقافية وكثيرًا ما اعترض على فساد فترة حكم مبارك ومحاولته توريث ابنه حكم أرض الكنانة. لهذا لم يشغل منصبًا ولم يحصل على أي جائزة، وهو الذي كان يحلم منذ أن كان يدرس في إسبانيا أن يصبح وزيرًا للثقافة بغية السعي إلى تعديل الأوضاع، على اعتبار أن الثقافة إحدى القوى الناعمة للتغير. إذ كان يحلم منذ منذ شبابه بالمدينة الفاضلة، ببلد يسع الجميع دون تفرقة، تسوده الحرية وليدة الديمقراطية، لكنه آثر الرحيل مبكرًا ربما بحثًا عن العدل في السماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024


.. السجن 18 شهراً على مسؤولة الأسلحة في فيلم -راست-




.. وكالة مكافحة التجسس الصينية تكشف تفاصيل أبرز قضاياها في فيلم


.. فيلم شقو يحافظ على تصدره قائمة الإيراد اليومي ويحصد أمس 4.3




.. فيلم مصرى يشارك فى أسبوع نقاد كان السينمائى الدولى