الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القضاء القبلي (العرفي) بين القانون والشريعة ح3

عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني

(Abbas Ali Al Ali)

2020 / 7 / 24
دراسات وابحاث قانونية


النهوض بالقضاء الرسمي والبدائل المفتوحة
إن معرفة أوجه القصور وتشخيص الخلل ليس كافيا أمام تطوير العملية القضائية والوصول إلى تطبيق العدل بأبلغ صورة ممكنة، ولكن هذا العمل يحتاج إلى أن تتوفر أرادة جماعية تشارك فيها القوى الفاعلة والمحركة للمجتمع العراقي ومنها المؤسسات الرسمية والتشريعية والشرعية وقوى الحراك المدني المتمثل بالإعلام والثقافة والمؤسسة الأكاديمية والتعليمية، وأيضا أن تلعب المؤسسة القبلية دورا في صياغة إستراتيجية عدلية تضع هدف إحقاق الحق وتحقيق العدل فوق المصالح الذاتية والشخصية، لأن هذا الهدف السامي يخفف من العبء المفروض والمفترض أن تقوم به لدرء عوامل الاهتزاز واللا استقرار بين مكونات العشيرة والقبيلة من جهة وبينها وبين النظائر الأخرى.
إن من أول ألتسليمات التي تركن إليها الأمم المتحضرة هي قاعدة صياغة مفهوم المواطنة على أساس جامع يجعل من قيمة الفرد الذاتية تتساوى أمام القانون والقضاء الذي تختاره الأمة، ,وهذا القرار الخاص بالأمة لابد من أن يستند إلى نظرية سياسية هي في أحدى من أثنين، أما الدولة القومية أو الدولة الدينية ولا مجال في هذا العصر الارتكاز إلى نظرية سياسية أخرى لأنها ببساطة تعني اللجوء مرة أخرى للتمايز وعدم المساواة.
فالدولة القومية المعاصرة تبتنى على قيمة تكوينية تجعل من الدولة ذاتها غطاء لكل مواطن له حق المواطنة بالتعامل ألقسري والافتراضي بالأدوات السياسية والقانونية التي تفرضها شروط أقامة هذه الدولة، ومنها وحدة القضاء وإلزامية الأحتكام له وبه والخضوع التام للقوانين التشريعية التي تمثل وجهة نظر الأمة وتعكس فلسفة وجودها، وبالتالي عدم السماح للتنافس في الخضوع لإرادة خارج نطاق أرادة الأمة، أو التحاكم وفق منظومة تخرج مجموعة من مواطنيها عن قاعدة وحدة النظام وشمولية القانون العام.
وهذا المبدأ ينطبق أيضا على فلسفة تكوين الدولة الدينية مع ملاحظة أن الأسس التكوينية للنظام لا تمثل وجهة نظر الأمة ولكن تعبر بصورة أو أخرى عن أحكام دينية عقيدية متفق على احترامها والخضوع التام لها، بأعتبار مصدر التشريع لها، وبالتالي فإن الخروج عن أحكامها يمثل خروج عن الأسس التكوينية ذاتها المتعلقة بالإيمان بالعقيدة والتشكيك بشرعية ومشروعية المصدر.
وفي كلا الحالين هنا نجد اللجوء الافتراضي والضرورة الأخلاقية والالتزام ينصب على احترام القانون وما ينشأ عنه من نظام قضائي يستند إلى أحدى الفلسفتين، ولا مجال إلا في حالة كون هناك تشريع قانوني ملزم ومقنن يتيح للأفراد باللجوء إلى شكل أخر من القضاء خارج نطاق مفهوم وحدة القضاء كما هو معمول لدينا في مسألة التحكيم التجاري المحلي والدولي فيما يخص جانب حياتي معين، ولكن هذا الخيار أيضا مقنن ومشرع من ضمن المجموعة القانونية العراقية ولا يعد خروجا عن إلزامية ووحدة التقاضي.
عليه فإن مسألة إيجاد الحلول والمعالجات التي تتناول الحالة الشاذة والتي أشرنا إليها وعن حالات قصورها لابد أن تأخذ بنظر الاعتبار كونية المجتمع العراقية والفلسفة السياسية التي يقوم عليها دستوريا وسياسيا، بأعتبار أنه دولة قومية تقوم على مبدأ حق المواطنة الذي يكفله الدستور بقاعدة أن كل عراقي تتوفر فيه شروط المواطنة هو عضو بمجموعة المجتمع ويتمتع بنفس الحقوق والامتيازات المتناظرة مع أقرانه، ومنه حقه المطلق واللا محدود بالتمتع بالعدل والتقاضي أمام السلطة القضائية الرسمية ووفق قانون واحد وموحد، وهذا يتناقض مع واقع الحال في بعض جوانب التقاضي الذي يتدخل به القضاء العشائري ويفرض أحكام ونتائج وسلطة دستورية هي خارج القانون والدستور، وتعتبر تعديا على الأسس التكوينية التي تقوم عليها الأمة العراقية الآن.
عليه فأن النهوض بالواقع الفعال للمؤسسة العدلية وتقويم المجموعة القانونية أولوية لا يمكن أن تسبقها مهمة أخرى إلا ما يمكن أن ندعيه من أهمية قصوى تتعلق بالأسس التكوينية التي يقوم عليها النظام السياسي الأجتماعي، والذي يكشف بدوره عن هوية المجتمع العراقي الجديد ويحدد معالم المنهج الذي يريده ويصمم على أن يكون منهجا يعتمد المواطنة المتساوية، والتي تتفق مع الديمقراطية التعددية وينظم سيرها مفهوم قوة القانون الأساسي (الدستور)، وهذا التصور ليس نظريا لا يمكن الوصول إليه ولكن التوسل بالممكنات العملية وتفاعل القوى الأجتماعية المؤثرة والتي تعي دورها في صياغتها قادرة على الوصول إلية وبلورة مبادي وخطط عملية تعتمد إستراتيجية وطنية خلاقة، في الوقت الذي يتعين على المؤسسة التشريعية والقضائية أن تقدم بدورها ما يمكن أن تعده منهج عملي مستمد من دراسة التجربة الحالية، وما يمكن أن يساعد في تجاوز الأختلاف والتناقض والقصور في عملها أو في الوسائل النظرية والمادية التي تتعامل بها كونها المؤسسة الأقرب إلى فهم وتقدير الممكن والطموح في آن واحد.
وبدور المؤسسة الفكرية والبحثية أيضا أن تكون منهج نظري ومعالجات جذرية تستمد روحها من خلال الدمج بين الأسس الحضارية والآرثية وبين استحقاقات الحداثة والتطور ومستلزمات النهوض الضرورية، وبذلك تقدم المكون الأولي الذي يعتمده المجتمع بالتداول والحوار الراقي الذي يسعى حثيثا إلى ما يتناسب مع طموح الشعب العراقي في صيانة وحدته من جهة وتطوير الآليات التي تساهم بالنهضة وتحفظ له الهوية المميزة.
علية ولغرض المساهمة في إيجاد الحلول المناسبة للمسألة، نرى من الأهمية بمكان أن تتحدد الخطوات الواجب اتخاذها بشأن الترقي في مسألة تحكيم العرف وجعله رافد عدلي يساعد المؤسسة القضائية ويقدم الدعم والعون للمؤسسة الدينية في سبيل تطوير قدرتها على فرض التصورات والحلول المناسبة للمجتمع، لابد جميعا أن تمر عبر التطوير والتحديث والأخذ بجدية كل ما يثبت قدرته للتوافق مع الحق الإنساني ومع قواعد ومعطيات العمل القانوني والقضائي دون رفض كلي وإنكار لخصوصيات المجتمعية والتي يركن إليها في بعض الأحيان في التعاملات البينية وخاصة في مجال الحقوق والالتزامات.
ومن هذه الوسائل والالتزامات ما هو متصل بالقواعد وما هو متصل بالوسائل، كذلك لا بد من مراعاة الجانب الإنساني والفكري الحضاري وتطوير المقدمات للمتعاملين بهذا القضاء وفق الأسس الدينية والقانونية، وتشجيع الممارسات التعاونية المشتركة بين السلطة الدينية ومؤسساتها وبين السلطة القضائية ومكوناتها مع ترادف هذا التعاون مع الجهد الذي لابد أن تبذله مؤسسات المجتمع المدني نحو صياغة فهم جمعي تعاوني يستهدف فرض القانون والشريعة، مع الأخذ بما يتميز به العرف من مرونة وقابلية شعبية للتقبل بأحكامه.
هنا يمكننا أن نؤشر لبعض الوسائل التي لا بد منها أولا لخلق الوعي بالقواعد القانونية والقضائية والشرعية والتي يتم من خلالها الفهم الحقيقي لقواعد الإجراء وترتيب المسئوليات وفقا لما تحدده من أسس تشريعية وقانونية، وتتم من خلال عملية إشراك المهتمين بالقضاء القبلي والعرفي في دورات وندوات وتعميق مفهوم سلطة القانون ومؤديات الشريعة على ما بين أيديهم من أسس عرفية ومفاهيم عشائرية لابد لها أن تتلاءم مع معطيات الأولى وتتناغم مع خطوات المجتمع نحو التحديث وسلطة القانون ودولة المؤسسات.
العمل على تشريع عصري يحفظ للعرف الأجتماعي مكانته التي لا تتعارض مع مفهوم القانون والشريعة للحقوق والامتيازات وتحديد الظروف والمناخات التي تجعل العمل به معاضدا وموازيا بالتعاون مع عمل السلطة القضائية ومهمات السلطة الشرعية، ,ومحاولة التقريب قدر الإمكان بين ضرورات العمل القضائي والشرعي وبين العمل بالعرف العشائري واحتياج المجتمع العراقي له.
العمل على أعادة ترتيب المجموعة القانونية والإجراءات القضائية لسد الثغرات التي تعاني منها المجموعة القضائية العراقية وترصين وتأصيل القواعد القانونية، ومحاولة تقنين الشريعة وشرعنة القانون بمعنى تقريبه من الفهم الشرعي لتلك القواعد، ,وهذا لا يعني فرض الشريعة الإسلامية كمجموعة على الكتلة القانونية بالشكل الذي يجر البلاد إلى نزاعات نابعة من أختلاف التفسير والفهم لقواعد الشريعة بالنظر لكون المجتمع العراقي فيه ذلك التنوع الغني من المذاهب والأديان.
تطوير العمل القانوني والبحثي جنبا إلى جنب مع تطوير المَلاكات القضائية ومحاولة الذهاب أكثر في فصل القضاء عن السلطة التنفيذية، وإعطاءه الدور الأكبر في صياغة التشريعات القانونية والإجرائية لأنه يمثل الحالة الأقرب للواقع العملي، وتنمية المهارات الفردية وتمييزها ونشر البحوث والدراسات التي تؤسس لمدرسة عراقية متميزة تستمد من أرثها الحضاري والتجربة العملية الغنية مع ملاحظة وتأشير النجاحات العملية في الأنظمة المقاربة في نهجها القانوني، وجعل البحث القانوني والقضائي واجب تفرضه طبيعة المرحلة ومنهجية ثابتة تلتزم بها المؤسسة القضائية والقانونية على مدار المسئولية العلمية والوطنية.
السعي الجاد من قبل السلطة الدينية للنزول إلى الواقع العملي وعدم الاكتفاء بالدور الوعظي والإرشادي الذي لم ولن يلامس الحاجات والمتطلبات التي يحتاج لها المجتمع العراقي في أتون حركته البينية اليومية والعامة، وفتح المجال أمام إنشاء مؤسسة قضائية شرعية واضحة المعالم تكون أختيارية في اللجوء إليها جنبا إلى جنب مع المؤسسة القضائية الرسمية وأن تتقبل الأخيرة أحكامها، من خلال وضع تشريعات كيفية تتناول هذا الوجه من التعاون طالما أن الهدف واحد منها وهو إحقاق الحق وإيصال الحقوق لمستحقيها وفق قواعد العدالة .
تشجيع المهتمين بالشأن العشائري والعرفي في تطوير الإمكانات والمهارات القضائية التي تعين في صحة الممارسة القضائية والإفتاء من قبل المؤسستين الدينية والقضائية الرسمية، والاهتمام بجعل التطوير إلزاميا في فترة لاحقة مع محاولة تقنين عملهم وفق إجازات خاصة تعتمدها السلطتان بعد الفحص والاختبار، وهذا لا ينقص من قيمة المتعاملين بالشأن العشائري بل تزيد من الرصيد الأعتباري لهم وتحصنهم من الوقوع بالأخطاء الإرادية واللا إرادية.
تشكيل مجموعات متخصصة من المهتمين بالإفتاء العشائري والقضاء العرفي في كل منطقة تحت إشراف جهة مستقلة تكون نموذجية في تعاملها مع الوقائع وممن كانوا من العاملين بالشأنين الديني والقضائي، وهم أصلا من أفراد القبائل والعشائر لتمارس دور القضاء والفتيا في مرحلة ما قبل التهيئة الطبيعية لمن يرغب وتتوفر في الإمكانات والقبول الأجتماعي، لتكون القدوة العملية لمن يتبعهم لاحقا.
لابد للإعلام وأجهزة الثقافة الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني ومراكز الأبحاث والجامعات من أن تمارس دورها المفصلي والحيوي في دراسة الظاهرة وتأشير النقاط السلبية والإيجابية، واقتراح الحلول والمعالجات صوب تصويب العمل في المجال القضائي العشائري بما يخدم تطور المجتمع والحفاظ على العدل والعيش الاجتماعي السوي وفق القواعد اليقينية التي يعتنقها العراقيون، وأن تكون المؤسسات هذه على القدر العالي من المسئولية في التعاطي مع المسألة برمتها.
وأخيرا فإن هذه الدراسة لا يمكن أن تكون تفكيرا كاملا وشاملا عن البحث والتطوير الجمعي، ولكنها حجرة في الماء الراكد عسى أن تحقق صدى لدى المهتمين بالمسألة القضائية والعدلية، وبذلك نسعى جميعا لحمل المسئولية على محل الجدية والاهتمام المناسب والله من وراء القصد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان.. مدينة الفاشر بين فكي الصراع والمجاعة


.. إعلام إسرائيلى: إسرائيل أعطت الوسطاء المصريين الضوء الأخضر ل




.. كل يوم - خالد أبو بكر ينتقد تصريحات متحدثة البيت الأبيض عن د


.. خالد أبو بكر يعلق على اعتقال السلطات الأمريكية لـ 500 طالب ج




.. أردنيون يتظاهرون وسط العاصمة عمان تنديدا بالحرب الإسرائيلية