الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السرديّة الانصاريّة (2) الكتابة من الداخل

نصير عواد

2020 / 7 / 25
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


في هذا المقال سنتوقف، مرة أخرى، عند كتاباتٍ لمقاتلين ما زالوا ممسكين بجمرةِ اليسار على الرغم من الخسارات وركض السنين. كتاباتٌ أدرك اصحابها ضرورة الاستمرار في توثيق تجربتهم، ونحت مكان لها في تاريخ العراق المعاصر. فمن بين الحقائق التي افرزتها الحياة، بعد عقود على انتهاء حركة الأنصار الشيوعيّين، هي ان اغلب صناّع التجربة هم اليوم في منحدر الرحلة، وان أصغر نصير فيهم يتّكأ على عتبة الستين من العمر. وأن الحوادث التي عاشوها بجبال كوردستان العراق بقيت راكدة بذاكرتهم الجمعية، يروونها لبعضهم البعض، تحوّلت بعد أعوام إلى كتاباتٍ تسجيليّة تغرف من تجربة دامية دامت عشر سنين، ترفْعوا فيها عن مزالق الشهرة وتصفية الحسابات وليّ الأذرع، وانشغلوا برسم الصورة النضاليّة للأنصار أكثر من انشغالهم بالنْص وبرأي القارئ الآخر، وما إذا كانت الحادثة ذات تأثير على الأجيال الجديدة أم لا. المُتتبّع لهذه الكتابات سيجد ان الحادثة الانصاريّة غالبا ما يجري تقديمها ببعد سياسيّ، فيه الاهتمام بصورة التجربة هو الحدث الأبرز؛ أي ان الموقف السياسيّ، المثقل بالأيدولوجيّا، والأمانة في نقل الاحداث والوفاء للشهداء هو الرافعة الأساس لسرديتهم، ما أدى إلى تراجع الجوانب الفنيّة الأخرى. صحيح ان روايات الانصار حقائق خام جديرة بالتوثيق والمتابعة، فيها الكثير من الأسماء والحوادث والمواقف، ولكن الانشغال فقط بحقيقة وقوع الامر وبالموقف السياسيّ، وليست بالقارئ، أو الانشغال بفكرة النْص لا بالنْص نفسه، قد يجلب مشكلاته معه. فالقارئ الآخر يبحث عن المعنى والمبنى في النْص، يُسقط خبراته عليه ويهتم بعناصر ذات أهمية قد تأخذه بعيدا عن أهداف الكاتب. لأن المشكلة أحيانا ليست فقط في النْص بل بالقارئ كذلك، ومثلما توجد للكاتب اعتقادات سابقة على الكتابة فللقارئ أيضا آراء سابقة على القراءة قد لا تتفق مع مضمون الرسالة التي يريد توجيهها الكاتب. فتجده، القارئ، يبحث عن شيطان بين السطور، ويعمد إلى البحث عن مواقع رخوة في النْص للتقليل من قيمته، قد تكون اللغة هنا هي الخاصرة الرخوة. ففي كتابات الأنصار الكثير من الحوادث المهمة رويت بلغة ضعيفة، يريد منها النصير التضامن مع الآخرين في رواية ما حدث. وغنيٌ عن القول ان الكتابة لغة، وان أي لغة فقيرة ستنتج نصْا فقيرا، حتى لو كان النْص مفعما بالصدق والمعاناة والاحداث الحقيقية. إن اللغة الركيكة والمواقف الجادة في سرد الحوادث، التي لا يعرف تفاصيلها سوى الأنصار، غالبا ما تضع القارئ الآخر في زاوية الاصغاء، لا التفاعل والمشاركة والنقد. في حين انهما معا، الكاتب والقارئ، يجلسان على جانبي النْص ويساهمان في إنتاج المعنى، بغض النظر عن مضمون الحادثة المروية وكمية الصدق فيها. أردنا القول ان النْص له ملكيته، وان مسؤولية الكاتب مقدمة على مسؤولية القارئ، وإذا تصدعت الأولى فلا نلقي بالّلوم على الثانية.
إنّ تنوع الرواة واختلاف تجاربهم وخلفياتهم الثقافية لا يساعد كثيرا في تحديد معيار واحد للكتابة. بعضهم يسجل ذكّرياته بأدق التفاصيل والبعض الآخر يروي ويحفر في الأسباب والنتائج، وهؤلاء قلّة. ولكنّنا نستطيع الحديث عن سمات عامة للكتابة الأنصاريّة، لها تقاليد واساليب متقاربة في تناول الموضوعات، ولها صلتها بأعراف الكتابة اليساريّة، فيها تركيز شديد على الجانبين السياسيّ-العسكريّ. كتابة مفتوحة لجميع الأنصار، الحزبيّين والجدليّين، لكنها غير منفتحة على مستجدات وفنون السرد. يقع في قلبها نضالات وشهداء ومعاناة المئات المناضلين الشيوعيّين، تعطي الإحساس أحيانا بان أصحابها يكتبون تحت ضغوط أخلاقيّة وسياسيّة، نلمسها في لغة جادة تنقصها المرونة، تشي بنقاءٍ قديم ساد واقعية الربع الأخير من القرن الفائت. أغلب الأنصار يكتبون دون ان يضعوا البعد الفنيّ بين أولوياتهم، ولم يشغلهم جنس الكتابة إن كانت تسجيليّة أو روائيّة أو... وبقي توثيق الاحداث وكمية الصدق فيها هو الإطار الذي يحكم روايتهم. فكثير من الأنصار لم تكن الكتابة صنعتهم، لجأوا إليها في منحدر الرحلة، دونوا فيها ذكّرياتهم بلهجة سياسيّة-محليّة شابها الكثير من الهنات الّلغويّة. كل نصير يروي ثم تزكي روايته ملاحظات وتعديلات الأنصار الآخرين الذين شهدوا الحادثة، نلمسه في غياب ضمير المتكلم. وهذا الانشغال المبالغ فيه بالصدق والأمانة أدى إلى ضعف اصغاء النصير لحادثته، وتجده يروي وعينه على رفاقه، يحسب حسابهم أكثر من أي قارئ آخر، ويستأنس برأيهم قبل النشر، لغرض تصويب المعلومات الواردة فيها، الأمر الذي أضعف تلقائية النْص، وفي ذات الوقت أفقد الراوي خصوصيته وحريته. إن حقيقة وقوع الامر، التي تشغل بال الرواة الأنصار، قد لا تعني بالضرورة وجود نصْ، وهناك الكثير من العناصر الفنيّة التي تكشف عن اتساق وأهمية النْص؛ بكلام آخر ان وجود المضمون، الحقيقيّ والمأساويّ، من دون أداة فاعلة في التوصيل يعني عدم قدرة النْص على التفاعل مع محيطه الاجتماعيّ والثقافيّ، وسيزيد ذلك من سرعة اندثاره، وفي أحسن الأحوال تحويله إلى معلومةٍ أو خبر في مواقع التواصل الاجتماعيّ. من خصائص السرديّة الانصاريّة أيضا التوافق بين اللغة الجادة وبين إيصال الموقف السياسيّ، استعراض المعارك والبطولات، تمجيد المواقف والشهداء، التباهي بقوة الذاكرة، واسداء النصح لأصحاب الذاكرة الخربة بعدم الكتابة عن تجربة الأنصار. بالمناسبة إن ذاكّرة الأنصار، مثل أية ذاكّرة، تعمل على تصفية الحوادث واستعادة المواقف بلغة وجدانيّة تخلو من السقطات. فحين ينحاز النصير ستعمل ذاكّرته على تعقيم الحوادث وإبراز الناصع من قيم البطولة والنبل، على الرغم من معرفته المسبقة انه ليس كل ما يلمع بالتجربة رائع وجميل، وأن للحروب قسوتها ومساوئها ومكايدها. أردنا القول ان قوة الذاكّرة ضرورة في الكتابة السيريّة، وإن الاستعانة بذاكّرة الآخرين يزيدها مصداقيّة، ولكن يؤخذ عليها في السرديّة الانصاريّة انها انشغلت بالذكّريات، وأتت في غالب الأحيان على حساب البحث العميق والتقييم الشخصيّ والموضوعيّ للتجربة واستخلاص الدروس منها. والمُتتبّع لكتابات الأنصار سيجد القلّة منهم ابتعدوا عن الكتابة التي تريحهم وتنصفهم، ولم يتعاملوا مع التجربة كذكّريات فقط، بل وضعوا كتاباتهم وتجربتهم في موقع الأفكار، لتكون في مستوى أعمق وأكثر شموليّة في حياة المجتمع.
إنّ من بين خصائص تجربة الانتصار الشيوعيّين التنوّع الدينيّ والقوميّ والعرقيّ لتركيبتهم، إلا انهم ليسوا مجموعة متخيّلة. فبالإضافة إلى الخط الفكري العام الذي ساد تشكيلاتهم السياسيّة/العسكريّة كانت لديهم مشتركات مرنة، واهداف معلنة، وعلاقات اجتماعيّة عميقة في المقرات الثابتة والمفارز المتحركة. وكانوا يروون اخبار بعضهم عن بُعد، وينسجمون فيما بينهم حتى لو كان اللقاء عابر ووحيد. ولكن اتفاقهم غير المعلن بالمنفى على ما أسموه، تجربة الأنصار الشيوعيّين، واحتكارهم لروايته ونقده، وتناوله بشكل سياسيّ منحاز، جلب مشكلاته معه، من بينها عزلة التجربة وغيابها عن الآخر. صار فيها محاورة كتابات الأنصار لا يمكن من خارج التجربة، من نقاد ومؤرخين وكتاب محايدين يكتبون في الشأن العام. الأنصار، كجماعة لها اعتقاد مشترك، تميل إلى رواية تجربتها. أحيانا يعترضون على رواية بعضهم البعض، ويعدلون بالعناصر الداخلية للحوادث، وأحيانا يختلفون على المواقف التي تقف خلف رواية الحادثة وتسوقها بهذا الاتجاه او ذاك، ولكن في كل الأحوال لا يرضيهم اعتراض غير الانصار عليها. الأنصار في تناولهم للحوادث ليس لديهم خطوط حمر، إن كان الراوي مقاتلا عاديا او قائدا سياسيّا ستجري مناقشته والرد عليه، ولكن لم يتركوا مساحة لمن هو خارج التجربة سوى المديح والاشادة بنضالاتهم وبطولاتهم؛ بمعنى ان من بين ما ينقص حركة الأنصار الشيوعيّين هو سماع وقراءة ما ينتجه الآخرون عنهم، أين نجحوا وأين أخفقوا. وهذا لا يقلل من أهمية رواية الانصار التي لها قراءها ومتابعيها، إذ لا يوجد أسلوب واحد في إيصال المعلومة، وينبغي السماح لسبل وأصوات جديدة في ذلك. فنحن أمام حادثات صنعها نشاط المجموعة المعزولة لعقد من السنين، وكانت رواية الحوادث ترتبط بوجود تلك المجموعة وخطابها الفكريّ والسياسيّ، ولكن بعد انتهاء التجربة وتفرق المقاتلين على ارض الله الواسعة صار كل مقاتل يروي حوادثه هو، بعيدا عن المجموعة التي كان ينتمي إليها ويروي معها. فكون الحادثة حقيقة واقعية، يرويها صنّاعها الاحياء، ينطوي على وهم كبير. فكمية الأعوام التي تفصل بين وقوع الامر وبين روايته، وهي أكثر من ثلاثة عقود، يجعل من النسيان هو الآخر حقيقة واقعة. بل حتى الرأي السائد بين الأنصار من ان "الكتابة الجيدة هي بنت الذاكرة الجيدة. ومن لا ذاكرة لديه لا حكاية لديه" هو الآخر وهم، وماذا نقول للسينمائيين والتشكيليين الذين تحولت ذاكرتهم إلى صور وتهويمات وخطوط تجريدية؟ وبالتالي فإن رواية حقيقة ما حدث ليس هو التحديد الوحيد للقيمة الإبداعية، فهذه الأخيرة قد تكون منفصلة عن حقيقة وقوع الامر، ولكل قارئ أولوياته ورؤيته في تحديد ذلك.
بالمنفى عاش الأنصار محكومين بالتذكّر، نلمسه في هيمنة الشفاهيّة على سرديتهم، قبل الانتقال للكتابة. جرى خلالها جمع وصقل وتصويب الكثير من المعلومات. عمْق هذه الشفاهيّة الكثير من الرسائل والصور والمطبوعات الحزبيّة الّتي كانت بحوزتهم. ونظن هذا النوع من الشفاهيّة، استذكار الشهداء وتكرار الحكايات، جزء من أرث الأنصار حملوه معهم من الجبل عندما عاشوا عقد من السنين وهم منقطعين عن الاعلام والتلفزة والصحافة. بالمنفى كان جميع الانصار يروون حكاياتهم، يختلفون على بعض التفاصيل، من دون الابتعاد كثيرا عن المضمون العام للحادثة. وعندما بدأت الكتابة الانصاريّة بالظهور جاءت معها أسماء الأفراد وأسلوب كل نصير منهم. بمعنى انه رغم الشفاهيّة إلا ان الحكايات غدت نصوصا لكل القرّاء، لا يمكن حصرها ومسائلتها، ولكن يبدو ان بعض الأنصار ما زالوا يحنون للشفاهيّة، يضعون علامات استفهام خلف النصوص المكتوبة، مدعين نقص المعلومات تارة والنسيان تارة أخرى. وإذا قرأ أحدهم لآخر تجده يحقق في النْص، في الأسماء والامكنة والتواريخ، لغرض التصويب والاعتراض. وإذا لم يجد اسمه في النْص سيضع علامة تعجب على الحادثة المروية. وبهذا الصدد نقول انه لا توجد رواية تامة للحادثة، بعد عقود على وقوعها، ولا يمكن الرجوع للماضي من دون إعادة تركيبه. بل حتى نقل الحادثة من الكلام الشفاهيّ إلى الورق هو الآخر يستدعي إعادة إنشاء النْص وبناء الحوادث لتتوافق مع احتياجات الحاضر. إنّ النقود التي ظهرت عن كتابات الأنصار كان أصحابها قد شاركوا بالقتال، هم أنفسهم صنّاع الحادثة ورواتها، بدو فيها منتجين ومستهلكين لأفكار سياسيّة أكثر منها نقديّة وثقافيّة مرتبطة بعموم المجتمع. بقيت فيها نقودهم تدور في مناخ التجربة الانصاريّة، يصححون اسما او يعدلون تاريخا، من دون التطرق للأدوات الفنية أو تحديد المساحة التي يتحركون عليها وإلى أين تصل الكتابة، هل هي مقالة واحدة أم سلسلة مقالات؟ وهل سيتم تجميعها في كتاب أم لا؟ وهل توجد مؤسسة او حزب يعنى بجمعها؟ تساوقا مع هذه الضبابية اُطلقت تسميات عامة على الكتابة من مثل (مقالة، خاطرة، شهادة، استذكار، بورتريه، وثيقة...) فيها رواية الحادثة بأمانة وصدق هو الهدف.
في الحقيقة لا يمكننا القول ان تجربة الأنصار الشيوعيّين، بعد عقود على انتهاء التجربة، لم تحظَ بشعبية وانتشار واسعين. وكذلك لا نتفق مع الرأي الذاهب إلى ان كتابات الأنصار تخص الأنصار فقط. ولكن يبدو ان ما قدمه الانصار حتى الآن ليس كافيا لإيصال التجربة إلى الآخرين، وأن الأمر ليس محصورا فقط بمسعاهم، فهناك صراعات وحروب لم تتوقف طوال نصف قرن من تاريخ العراق الحديث، ساهمت بدورها في خلط الأوراق وعزل الأنصار وظهور شرائح جديدة معادية للثقافة، تستمد قوتها من قيم القبيلة والطائفة. صحيح انه يوجد بعض الروائيين والسينمائيين الذين رووا عن تجربة الأنصار بأدواتهم ومخيلتهم، وساهموا كثيرا في إيصال المعلومة إلى أوسع فئة من القرّاء لم يصل إليها السياسيّ والعسكريّ، ظهرت عنها نقود لمثقفين محايدين، تناولتها فنيّا، ولكن فيما يخص كتابات الانصار التسجيليّة لا توجد إمكانية حقيقية بعد لمن هم خارج التجربة في رفدها، ما زال الأنصار يتعاملون مع تجربتهم من الداخل، متكئين إلى أسماءٍ وامكنة وتفصيلات لا يعرفها غيرهم. فهم صنّاع الحادثة وابطالها، وهذه هي المشكلة.
نختم بالقول ان عدم معارضة الأنصار المعلنة لأفكار واراء الآخرين بتجربتهم لا يعني عدم وجودها، وبنظرة سريعة على المطبوع والمنشور سنجد ان لا أحد من خارج دائرة الأنصار الشيوعيّين يحاور او يعترض او يعدل بالمرويات. هم فقط الأنصار الشيوعيّين مَن يفعل ذلك. وبالتالي علينا الانتظار لحين توقف الذكريات ورحيل أصحابها، حتى تبدأ عملية التأرخة، والتعامل مع تجربة الأنصار الشيوعيّين وكتاباتهم بعيدا عن الحزبيّات والانصاريّات والوجدانيّات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علم الحراك الشعبي في سوريا لعام 2011 شوهد وهو معلقا خارج الق


.. حماس تطلب من الفصائل الفلسطينية إعداد إحصاء دقيق للرهائن الإ




.. ساعة جمال عبدالناصر في مزاد علني بنيويورك


.. سوريا: مواطنون غاضبون يهاجمون سفارة إيران في دمشق




.. الكلمة التوجيهية لمحمد نبيل بنعبد الله في الجلسة الافتتاحية