الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزء الثاني: مزامير الجندي المنسية

باسل محمد عبد الكريم

2020 / 7 / 25
سيرة ذاتية


من حرب الثمانينات 1980 – 1988

"حياتي ابتدأت يوم عرفتكِ، وجدتني مثل حصاةٍ على الرصيف، كنت كالمسافر بلا هدف..
أرنو نحو المجهول" آراغون.

(1)

إنه السكون الذي يشي بالحركة، وعافية الكلمة انها تأتي بعد مخاض يجلو عنها ما هو غريب وعالق، تأتي منحونةً بتناغم رهيب، تهتز لها كسعفة تتلاعبها الريح، وأخرى تجعلك محلقاً فوق قمة كونية لا يطالها أحد، من يدري فقد تلمسها ليسري فيك خيط من الكهرباء، أو تضعها جنب أخريات فتعلق بها ممغنطةً. "الكلمة هي حج، هي انتقال من الذات نحو الاخر، إنها دعوة شخصية حادة، دعوة ترمي إلى إخراجنا من ذاتنا، من بلدنا، من أهلنا، دعوة إلى تجاوز كل شيء نحو الحب.." لويس ماسنيون – مستشرق فرنسي.

(2)

أي خجل يعتري اللحظة العارية، وأي الأصوات تختنق فيها، وأي حزن لا يتحدد، يمتد فيك ويأخذك صوب أحبة يتفرقون دوماً كحبات المطر على أرض العراق، هيهات أن يبقى للعمر محطات، كلها أقفرت، وأهلها رحلوا وما قالوا وداعاً، وأنت هنا، تحسب ساعات العمر، أين الدقائق فيها والثواني وهل تصير أياماً وسنيناً، تعيد حسابها ثم تشطب، ثم تعيد حسابها لتشطب، ويظل العمر حساب الشطب أو شطب الحساب!
لماذا معادلة الحياة والموت في هذا الوطن تحل دوماً بالموت؟

(3)

أبحث عنكِ مراراً، أبحث عنك وأنتِ بأجنحتك المحلقة، في أي الاشكال تكونين، وعند أي الأمكنة تحطين، في وجوه المارة الذين يتخمون شوارع بغداد، بحثت عنكِ، لك قسمات هذه المرأة، وابتسامة تلك، وعناية هذه المرأة في اقتناء ما تقرأ، أي شغف يمتلكني أحياناً لأن أمد أصابعي لألمسك، تكونين قريبة مني وبعيدة، في لمسة نفنوف أو كتاب، في تحديقة عميقة كبئر، في رشاقة غزال مطارد، في ضحكة مليئة بالوعيد، أي آهة تلك التي أسمعها وفيها منها الكثير، عبر وجوه المارة الغرباء الذين امتهنوا شوارع بغداد وأزقتها تلوحين لي مرة ومرات، أكاد اجمع تلك الأجزاء الصغيرة لأكمل صورة ولكن هيهات، بين سطور الكتب التي قرأت ألمح ظلك عميقاً كقلب، وفي بارات ما آوت إلا أجلاف وهموماً، أجتر صوراً أعيد تركيبها ثم أبعثرها لأعيد تركيبها حالماً، تأخذني (البيرة) بعيداً، فأجدني مرمياً مرة أخرى بين غرباء اقتحموا مدينتنا عنوةً، هل تكونين قريبة مني وبعيدة ويكاد الاصبع مني يلامس هواء أنفاسك التعبى، هل تكونين كبريائي المضاع وسنين العمر السخية، يكاد يهجرني حنيني، ويلبسني جفاف الصحارى، مثلما نورسةً غادرت شطها وما عادت...
عند آخر الليل قلت مع نفسي: إذاً أنتِ... امرأتي، عبر ليلٍ يتكرر، يطول وينتشر على أرضٍ يغزوها الجراد، يقف جندي الحراسة مرعوباً، يستذكر حالاته...

(4)

"قد تَسَرَّبْتِ في مَساماتِ جِلدِي
مِثْلَما قَطْرَةِ النّدى.. تَتَسَرَّبْ.
اعتيادي على غيابِكِ صَعْبٌ
واعتيادي على حضورِكِ أصعبْ." نزار قباني.
خجلي وكبريائي غير مبررين، وجدتني منجذباً بلا فواصل ولا هوامش منكشفاً كشمس وأخضراً كربيع، أمدُّ يدي فيسبقني قلبي وأفتضحُ.
أتعرفين اللهفة؟ فنطلقها من أسارها هائمةً كنسمةٍ مرت يوماً علينا، وددنا لو تحملنا بعيداً، طريةً وحارةً كخبز الصباح، هكذا أريدك يا آلهة التمنع والاعتذار، مواعيدك أغزلها غزلاً، وتبخلين، أصابعك تبخل اللمسة، وعيونكِ النظرة وفمك الجليل الكلمة أهي النقمة أم النعمة؟
يقتضي لرؤيتك، أيتها المرأة، عمراً تجاوز منتصفه، وها أني أضع سنيني المتعبات بين يديك اعترافاً، تجاوز شرط الزمن، وامتلك تصريح الدخول إلى أعز قلب، فكان الذي يكون دوماً وليس الذي كان. عذراً ملامحك واضحةً وابتسامتك تعادل عمراً وتقولين "لو أني استعدت سنوات من حياتي وبدأتها مع زمني الحاضر لما ضاعت هذه الحقبة من حياتي سدىً".
هل تعرفين بنفسجةً أمرَضَتْ صاحِبَها ولهاً؟ هل تعرفين بنفسجةً تفوحُ بعطرِها صامتةً رائعةً كنغمٍ شجيْ يُسكِرُ مَنْ يسمَعْ ويشِمْ ويلْمَسْ، هل تعرفين أني أكاد أفقد مفرداتي تباعاً، ورائحتنا التي تذكرنا ببعض، إنه الخريف، الشوق المشدود أبداً، أنه كبرياء الحنان وتواضعه، وهو شغف الروح للامتلاء، وذاك الحزن الشفيف عند مغيب الشمس في خريف العراق.
حرارة الحياة بعد توهجها، انسيابها وعلانيتها الموقرة، صفاءها وعافيتها، عطاءها الصامت وضحكتها التي تشيع بهجة مطلوبة، أي شوق يزرعني عندك...؟

(5)

هذا موسم للموت وللحب، يختفي الاحبة تباعاً، تختفي صورهم وتتلاشى يخطفهم موت سخيف، تختفي ملامحهم الاليفة، تلك المواعيد التي لم تتحقق وتلك اللحظات المترعة بإنسانيتها والتي تشعرك بالدفيء، ابتسامات وقبلات، كلمات عن الحال وما آلت إليه الأمور، أيادٍ مضمومة بقوة كمن يشعر بأنها لن تضم بعضها غداً أو بعد لحظة، خيبات واضحة في العيون، أمنيات بسيطة وعظيمة في آن واحد، متابعات متباعدة سريعة مقطوعة خجلة مفعمة بالحب والانتظار و.. همسات عن أشياء تحدث أو ستحدث وربما حدثت، عن أشياء تخص حياتك وسنين العمر الضائع، حيث يضيع العمر بالترقب والانتظار، والرعب الذي يداعبك في جميع الأشياء، أحياناً تحس في أقرب تلك الأشياء رعباً غير معهود، كمّن يرتعش برداً في عز القيض...

(6)

إنه كابوس ثقيل، لا أدري جثَّةُ مَنْ، تلك التي كان يسحبها (أبي) عند ذلك المساء، إنه يسحبها خارج سياج البيت، أي رعبٍ ينتشر في الوجوه عند تلك الساعة المريبة بعد منتصف الليل، هل هي جثتي؟!

(7)

أجهدني ألم أن تمتد يدي فلأتلمس إلا الفراغ، هذا الفراغ الموحش يوحشني، توحشني هذه الوحشة، هذه الوحشة تحرق زنابق الروح، هل زرتني، هل تزورني الليلة، لا شك أن رصيفين من الزنبق تنتظركَ وحبات المطر...

(8)

تكاد الروح تشتهي حبيبها، في كل حين، هل نكون قريبين، كقبرتين في ظل نبات بري. أوَ تضْحكين ثم تتساءلين أي مجنون هذا، تصمتين طويلاً، ثم تضحكين... رائحتك التي لا يعرفها غيري، وعرقك الذي لا يعرف ملوحته سواي، انتِ المشتهى والمنتهى والموعد الندي... "هل تنتظريني كمنزل وحيد أوجعته نوافذه" بابلو نيرودا.

(9)

أي العصافير تلك التي تعشعش فرحة بين خصلات شعرك، وأي الازاهير تلك التي تتدلى على صدرك الملآن بالحنين، أيا شهقتي الأخيرة، الكلمات تذكارات لا تمحى، وتذكاراتك في قلبي، أراكِ مجنونةً بي، وبعض العشق جنون، وجهك الشاحب القمحي خبزي الدائم، وابتسامتك الرصينة، تحتوي فوضويتي وضجيجي، أي عاشق متكبر يستبد العشق فيه، فيلتهب جنونه ويضيع هدوئه ورصانته فتصبح الكلمات تذكارات للحبيبة التي هبطت ملاكاً بلا أجنحة، أضاع سبيله فتوسد البحر الهائج والغروب الشاحب والفجر الندي والفرح المجلجل والأمل المفتوح، فكان بيته بيتي وفراشه فراشي، واصابعه العذراء ما ارتعشت الا بين اصابعي، ولم يكشف دموعه لغيري، ماؤه العذب الملآن بالخصب لم يسكبه إلا لي ولي وحدي، الخصوبة في عينيه وفي أفياءه الظليلة، فهو أخضر دوماً وما جف يوماً، ينبوعه الثر ما سقى غيري، فكان ارتوائي من نبعه القدسي صلاةً لا تنتهي وبكاءً رحيماً يبدد احتباسات الشوق والاشتهاء المؤجل، إن ملاكاً أضاع سبيله فأصبح بيته وفراشه فراشي يحتويني وأحتويه ويشتهيني وأشتهيه يكون دائم الحضور دائم التجلي دائم النمو والشموخ... هو أنتِ.

(10)

يا قَمراً يصحو، يا قمراً يسهَرْ، في عُتمة الليل الحالكة، تعبت، وطال اغترابي، هل تمر على حبيبي، سَلِّم، وبلغه التياعي.

(11)

إنه آذار، الربيع بكل بهاءه، وتفتح الروح والخضرة، إنه التألق الذي يعتري الروح فتشتهي (روحها) وأنتِ روح روحي، فيه اكتشفنا بعضنا، فيه أولى اللمسات المرتجفة العذبة المشتهاة، فيه أولى الهمهمات وأولى الارتعاشات، فيه شغف اللحظة لأن تذوب في هواها البكر، لأن تعتلي سماوات الدهشة، الضحكات الصادقة، فيه رجفة تشتهي رجفة، فيه أولى القبلات وتلك التي تشتبك فيها الأصابع حد الاشتباك، إنه آذار...

(12)
لو أن غيمةً تسرقني ثم تمطر بين يديكِ، فأكون مشرقاً، متوهج القلب ومرتعش الأهداب، ولأني في حضرة الأم الدافئة، تلك التي تحتضن دموعي حين تهطل، والتي أرى العالم من خلال عيونها.
أوَ تنتظرينْ، وتنتظرين، ويطول الانتظار وتتساءلين، أين صوته الهامس يأتيكِ عبر المسافات محملاً بالمواعيد، بالبهجة، بالحب، بالأسئلة، بالحنين، بالأشواق، منثورة على ظلال الغروب الربيعي، وتتساءلين، إنه بعيد.. "أن الحياة لا تطاق لمن ليس له في كل لحظة حماس يهزه" همنغواي.
سيجيئ الربيع، وتعتري القلب رجفة العشق والتوق للمسة المشتهاة وذاك الذوبان الغريب، حب المحبين، وحلم المشتهى والمنتهى.
سيجيئ حبيبي غداً، قُمصانُهُ مَغسولةً، مُعطّرَةً برائِحَتِهِ، مصفوفة بعناية، أحذيته لامعةً وجواريبهُ نظيفةً، قنينة عطره (الأرامس) تحن لأصابِعِهِ الخشنة الحنونةُ، والغرفة التي تجمعنا، تبدو وكأنها في احتفال..

(13)

في غيابِكِ، أدفن رأسي في كتاب، لأني اعتدتُ أن أدفن رأسي في صدرك، ترى ما الذي أخَّرَ طلوعَ القَمَرْ، وهل أنّ غيومَ الامس ستبرح عندنا طويلا، لكنّ رياح المواسم القلقة آخذةً في الوصول، وهيهات أن تحُطّ حولنا غربان الزرع، إن خصب الروح يفيض من قلبينا وقطار العمر أخضر

(14)

رغم المسافات، يجتاحني بهاؤكِ، ساعةَ أُغيب عنكِ، أو أكون في حضرتِكِ، إنّي اعيد اكتشاف نفسك معي، انسانيتي وملامحي المحددة.
رغم المسافات تبدين مرهقةً، هذا الإرهاق الحائر، وتلك الشهقة التي تبوح بلوعتها، وذاك الانتظار الذي أصبح عذاباً، والعيون التي غادرتها الضحكة، وسكنها الشوق الرهيب، وتلك الدموع التي تبحث عن مجراها، فهي مختنقة دوماً ويغص بها الحنين.
رغم المسافات، يبقى وجهُكِ الجدّيّ الصارم المتعب الحنون سائراً معي عبر صحارى الملح وهواءها المغبر الخانق، تلك الصحارى التي نكتوي بشمسها اللاهبة الحرون، رغم المسافات، يتراءى وجهك مهموماً مثقلاً بالأماني والاحلام القديمة، فأحمله معي تميمةً، تزيل الغبار وتبرد الشمس اللاهبة، فتقصر عندها المسافات نحوك، وأغدو قريباً منكِ لأمُدَّ أصابعي مرتجفةً، لتلامس وجهكِ الحنون...

انتهى...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كأس الاتحاد الإفريقي - -أزمة القمصان-.. -الفاف- يتقدم بشكوى


.. نيكاراغوا تحاكم ألمانيا على خلفية تزويد إسرائيل بأسلحة استخد




.. سيارة -تيسلا- الكهربائية تحصل على ضوء أخضر في الصين


.. بمشاركة دولية.. انطلاق مهرجان ياسمين الحمامات في تونس • فران




.. زيلينسكي يدعو الغرب إلى تسريع إمدادات أوكرانيا بالأسلحة لصد