الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحضارة لا تتجزّأ!!

سليمان جبران

2020 / 7 / 25
مواضيع وابحاث سياسية



في كلّ مجتمع، أو في كلّ فكر توفيقي، تجد أحيانا مَن يحاولون إمساك الحبل مِن الطرفين، طوال حياتهم: يريدون الحضارة بكلّ مظاهرها المادّيّة، لكنّهم يرفضون رفضا قاطعا كلّ توابعها السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة! هذا غير ممكن طبعا. لا يمكنك أن تكون "عربيّا" في بلادك؛ تلبس الجلباب التقليدي، والعباءة الضافية من فوقه، وعلى رأسك حطّة وعقال فوقها. . وفي الوقت ذاته، تسوق سيّارة مرسيدس متطوّرة، لا يقتنيها إلا كبار الرأسماليّين في الغرب!
بعض رجال السياسة يحاولون ذلك. أعرف. في بلادهم يرتدون القمباز الضافي، وعباءة طويلة فوقه، والحطّة والعقال طبعا.. وفي رحلاتهم خارج بلدهم: بدلة من أفضل القماش والتفصيل، شَعر مفروق مرتّب أحسن ترتيب، روائح من أرقى الألوان وأغلاها . . باختصار: عرب أقحاح بين أهلهم، وغربيّون أكثر من الغربيّين في رحلاتهم إلى الخارج. في الحياة حولنا لا نعدم مثل هذه الظواهر طبعا. أحد الأصدقاء كان يردّد على مسامعي دائما: في الواقع لا يمكن نصف حَبَل، إمّا فتاة عذراء أو امرأة حامل!
على فطنة: محمّد مهدي الجواهري، الشاعر العراقي المعروف، جرّبها مثلا في أوّل شبابه، يوم كان موظّفا في قصر فيصل الأوّل. في القصر ارتدى الجبّة والعمامة . . وفي آخرالليل بدلة عصريّة، يدوربها في شوارع بغداد "على حلّ شعره":
.. قال لي صاحبي الظريف وفي الكفّ ارتعاش وفي اللسان انحباسَهْ:
أينَ غادرتَ "عمّة" واحتفاظا / قلتُ: إنّي طرختُها في الكناسَهْ
لكنّ تجربة الجواهري تلك لم تصمد سوى فترة قصيرة! بعد تلك الفترة خلع الجواهري الجبّة، والفكر التقليدي في معظمه.
هذا ما يحاوله الأصوليون أيضا، في كلّ البلدان ومن كلّ الأديان: تبنّي المُنجزات الغربيّة الماديّة كلّها من ناحية، ورفض قاطع لكلّ توابعها من قيم سياسيّة وفكريّة واجتماعيّة من ناحية أخرى!
هذا هو أساس الفلسفة الأصوليّة عندنا أيضا، منذ الأفغاني وعبده حتّى اليوم. يرى هؤلاء الأوائل أنّ الشرق تخلّى عن الفكر الأصولي، وتبنّى الحضارة الغربيّة، بكلّ توابعها، فقاده ذلك إلى الانحسار والضعف. بينما تخلّى الغرب عن الفكر المسيحي المسالم - " مَن ضربك على خدّك الأيمن فحوّل له الأيسر" - وتبنّى قِيم الحضارة الرومانيّة القديمة؛ قيم القوّة!
هذا هو المأزق الحقيقي في البلاد العربيّة غالبا: تبنّي الحضارة المادّيّة الغربيّة ورفض قاطع لجميع توابعها الفكريّة والثقافيّة!
هذا أيضا هو المأزق الفكري في إسرائيل: لا يمكن لدولة عصريّة أنْ تعيش إلى الأبد "يهوديّة ديمقراطيّة" ! لذا لم يكنْ مفاجئا في الواقع سيطرة "اليهوديّة"، التيّار الديني، على الحياة في البلاد مؤخّرا.
يعجب كثيرون حولنا كيف يخلص التيّار الديني لزعامة غربيّة، عَلمانيّة نظريّا، هذا الإخلاص الكامل. يُخلصون لها لأنّها في سبيل البقاء على الكرسي تستسلم لهم دون قيد أو شرط. هذا هو مردّ الإخلاص الذي يحيّر كثيرين: يتنازلون عن القيادة السياسيّة، إذا كانت الطريق تذهب بالبلاد في آخر المطاف إلى حيث يخطّطون!!
مرّة أخرى: الحضارة لا تتجزأّ.الحضارة رزمة واحدة، تقبلها كلّها أو ترفضها كلّها. الخيار الانتقائي لا يمكن !!









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رئيس وزراء بريطانيا يعلن عن أكبر حزمة مساعدات عسكرية لأوكران


.. متظاهرون يحتشدون أمام جامعة نيويورك دعما لاعتصام طلابي يتضام




.. الجناح العسكري لحركة حماس يواصل التصعيد ضد الأردن


.. وزير الدفاع الروسي يتوعد بضرب إمدادات الأسلحة الغربية في أوك




.. انتشال جثث 35 شهيدا من المقبرة الجماعية بمستشفى ناصر في خان