الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في الأسدية!

مصطفى الدروبي

2020 / 7 / 25
مواضيع وابحاث سياسية


في الأسديّة!
ما زال خطاب البعض ينحو باتجاه الوصف الخاطئ عند تقييمه لطبيعة الصراع في سوريا ...فيرى أن المشكلة تكمن بالتآمر على السنّة كطائفة وأن ما جرى ويجري في سوريا منذ نيّف وتسع سنين ما هو سوى حرب أهلية ذات أبعاد طائفية! وهذا تحريف للحقيقة وتوصيف غير واقعي البتّة لأن جوهر هذا الصراع يتجلى بين الأسديّة كنهج سياسي استبدادي من جهة و سوريا وشعبها ومقدراتها ومستقبل أجيالها من جهة أخرى حيث بدأت إرهاصاته الأولى بسطو الجنرال الانقلابي حافظ الأسد على السلطة عام 1970 بعد صراعه مع رفاقه الشباطيين وانقلابه عليهم كون مشروعه كان على الضد من رؤيتهم لسوريا المستقبل فوضع جُلَهم في ظلام السجون ثم رحّلهم إلى المقابر مطارداً من تبقى منهم خارج الوطن ليقوم بتصفيتهم لاحقاً ثم جسّر العلاقة فور انقلابه مع رجال الدين الدمشقيين وبرجوازية المحافظات الكبرى لتسويق مشروعه وشرعنة حكمه مما حولهم لمطيّة سياسية واقتصادية من خلال حزمة من الوعود التي أطلقها والمتمثلة بالانفتاح الاقتصادي وتوفير فرص الاستثمار لهم وهذا مهد له الطريق لتأبيد سلطتة وسلطة آله من بعده في الحكم مستنداً لقاعدة "تمسكن حتى تمكّن!" فانطلق بمشروعه وبشكل ممنهج لتكريس عبادة الفرد في أوساط الشبيبة وقواعد حزبه الحاكم والذي رمّد عقيدته وحولها لطقوس من التسبيح بفكر القائد الاستثنائي وأضحت مقاره أوكاراً أمنية حيث أغلب المتبعثين تحولوا لوشاة وكتبة تقارير بحق أبناء الوطن وبناته بعد تعميم ثقافة الخوف والتّوجس والتغوّل الأمني المهول.
وحين اصطدم مع الإخوان المسلمين إثر تمردهم المسلح أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن المنصرم وجدها فرصة ليضرب كل القوى الحيّة الأخرى في المجتمع السوري بيد من حديد وأضحت فروع ومفارز أمنه تنتشر كالفطر على امتداد الوطن تحصي أنفاس الناس وتفتش بنواياهم معتمداً سياسة العصا والجزرة ومستفيداً من مكيافيلية خبيثة عاملاً على شراء الذمم وتعميم الفساد وإفساد من لم يفسد بعد مما ألحق هذا شديد الأذى بالوحدة الوطنية للسوريين وبنسيجهم الاجتماعي القائم على التنوّع في إطار الوحدة وكذلك بمنظومة القيم الوطنية الأصيلة المتوارثة عبر الأجيال فأصبحت ثقافة "دبّر رأسك وإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب وارشي تمشي هي الثقافة السائدة والمعممة على السوريين الذين ما أن يخرجوا من أزمة حتى يدخلوا أزمة أخرى من بعدها أشدّ وطأة وأقسى معاناة.
أما من عارض هذا النهج فكان مصيره المطاردة والسجن والموت وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكثير من أبناء الطائفة العلوية يكرهون النظام حتى ما قبل اندلاع الثور ة السورية في عام 2011 ويتحدثون في مجالسهم الخاصة عن فساده وطغيانه لا بل دخلوا سجونه منذ السنيّ الأولى لسطّوته على السلطة وقضى الكثير منهم سنوات شبابه في معتقلاته المخيفة وما الدكتور عبد العزيز الخيّر ابن القرداحة سوى مثالاً واحداً لرجال عقدوا العزم على أن لا يهدأ لهم بال إلا بعد الإطاحة بهذا النظام المافيوي وعصابته الآخذة سوريا نحو المجهول.
صحيح أن حافظ الأسد كان ينفذ سياسة طائفية غير معلنة من خلال تعيين قادة عسكريين وأمنيين في مفاصل نظامه من الطائفة لتوريطها معه في نهجه الاستبدادي إلا أنه اعتمد بنفس الوقت على البرجوازية السنيّة في استقرار نظام حكمه رابطاً مصير الكثير منهم بمصيره بعد أن دفع الاقتصاد السوري نحو النشاط الريعي على حساب القطاعات المنتجة الحيويّة مع تردي القطاع العام المثقل بالبيروقراطية والفساد وسوء نوعية منتجاته ومن ثم رفع الدعم عن القطاع الزراعي في عهد وريثه وتركه فريسة للحلقات الطفيلية الوسيطة فدخل المجتمع السوري في عنق الزجاجة حيث البطالة الواسعة وانسداد الآفاق أمام الأجيال القادمة إلى سوق العمل وارتفاع تكاليف المعيشة مع تبخر الوعود بالإصلاح الحقيقي من قبل بشار الأسد وحماته من رموز الحرس القديم المنتفعين طيلة عقود ثلاثة من عهد الديكتاتور الأب ...كل هذا جعل من سوريا بركاناً يثور مع اندلاع شرارة الربيع العربي انطلاقاً من تونس وامتدادها نحو المشرق إلى مصر فليبيا فسوريا.. حيث رفع ثوّارها شعاراتهم النقيّة بعيداً عن كل خطاب طائفي وشاركت في الثورة وتظاهراتها واعتصاماتها كل القوى الحيّة والشريفة الطامحة لغد الحرية والعدالة والكرامة حيث معاناة السوريين واحدة عدا الشرائح المرتبطة بالنظام وفساده المنتشر بطول البلاد وعرضها بعد أن انتظر السوريون أحد عشر عاماً وهم يصومون ويفطرون على وعود الإصلاح الكاذبة بينما كانت سوريا تُدمّر بالمفرق والجملة والشعب يفقد الأمل أكثر فأكثر بأي بارقة بإصلاح جِدي وعندما ثار محطماً جدار الخوف أخذ بشار الأسد سوريا نحو الخيارات الهمجية خيارات القتل والسحل والتدمير والتهجير والأسلمة وهو الذي كان قادراً على انقاذ سوريا وأهلها لو أنه ذهب نحو الدعوة لعقد مؤتمر وطني عام وجامع تحضره كافة الشخصيات الوطنية وقوى المجتمع المدني وكافة الأحزاب السياسية لإقرار دستور جديد يؤسس للتعدديّة الحزبية وإطلاق العمل السياسي الفعلي في سوريا المتصحّرة سياسياً منذ عقود ويؤسس لسوريا الجديدة كدولة للمؤسسات وللمواطنة الحقيقية وسيادة القانون والمساءلة وهذا مالم يتحقق بسبب غياب رجال دولة حقيقيين في حكم استمرأ الفساد والاستبداد باسطاً سطوة مهولة للمافيا العائلية المتحكمة بالبلاد بأذرع أخطبوطيه وبمجسات تنصّت تشيع ثقافة الخوف المعمم وتعزز نزعة الخلاص الفردي وبأي ثمن.
لقد ذهب النظام إلى خياره الأمني والعسكري وهذا ما كان متوقعاً لكل متابع ودارس لبنيات النظام وشكل إدارته وتشكّله التاريخي حيث كان يمتلك ترسانة مخيفة من حرّاس الظلام والمخبرين والذين بلغ عددهم عشيّة الثورة ما يقرب من الـ 400 ألف عدا أجهزته الأمنية ومؤسسته العسكرية العقائدية والتي تحولت في عهد الأب إلى مؤسسة طائفية بل وعائلية لاحقاً.
لقد انكر النظام المظاهرات بداية وبدأت ماكينته الإعلامية تروّج خطابها المعروف والقائم على التّخوين ونظرية المؤامرة (وهذا ما اعتاد على سماعه السوريين دائماً) عاملة على تشويه مسيرة الثورة والثوّار.
لقد اعتمدت الأسدية وعلى مدى عقود على أجندة التفتيت والتفرقة وهتك النسيج الاجتماعي للحؤول دون وحدة السوريين وعزّزها لاحقاً إرث من العنف الدموي المهول وترسانة هائلة من الخبرة الأمنية المتراكمة والقائمة على البطش والقتل والقدرة على تغيير سرديّة إي صراع ينشأ والمهارة في حرف البوصلات عن اتجاهاتها الصحيحة والجهوزية العالية لكل السيناريوهات المتوقعة والمُعَدة سلفاً وقبل قيام الثورة بثلاثة عقود.
لقد انقسم المجتمع السوري بعد تفجّر الثورة وعلى مستوى العائلة الواحدة لأسباب كثيرة يطول شرحها وأضحى السوريون بين خانتين خانة طلاب الحرية من كل الطوائف الدينية في سورية وهم يشكّلون الأكثرية إن أضفنا إليهم الصامتين وخانة الطائفة الأسدية المشتملة على كل القوى المستفيدة من فساد النظام ومن كل الطوائف الدينية أيضاً ولذا لا يمكن وسم الثورة السورية بالطائفية لا بل من عمل على تطيّفها وإخافة الطوائف الأخرى منها واتهامها بالإرهاب هو النظام الإرهابي بامتياز !! وهو نظام يُعرف تاريخياً بأنه مدرسة في صناعة الإرهاب وتفكيكه عند اللزوم.
في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ سوريا وبعد الاتفاق الأخير لأردوغان - بوتين حول إدلب فإن الأسدية يبدو وكأنها اقتربت من نهاياتها خصوصاً بعد أن عيّن بوتين سفيراً روسياً فوق العادة في دمشق يمثله شخصياً ويؤدي دوراً وصائياً كمندوب سامٍ وبصلاحايات واسعة وكذلك التّصدّع الذي بدأ يعصف بمغارة علي بابا والأربعين حرامي إثر فيديوهات خازندار الأموال الأسدية رامي مخلوف حيث أضحت رقبة النظام تحت سيف ديموقليس سيف قانون قيصر والذي دخل حيّز التنفيذ منذ السابع عشر من حزيران الجاري وما سيتركه من تداعيات واسعة على ما تبقى من قدرات النظام الواهنة وفشله وحلفائه بإعادة إعمار سوريا المدمرة ووحل أزمات شعبها المحاصر بها في الداخل من كل حدب وصوب وكذلك غربته في أماكن لجوئه وشتاته في جهات الأرض الأربعة بينما الحل السياسي ينتظر نوايا فعلية من قبل القوى الوازنة عالمياً على انطلاقته علماً أن لا أحد بقادر أن يتوقع شكل النظام السياسي القادم لسوريا الغد فالسوريون متوجسون من سيناريو قد يكون مُعداً لبلدهم شبيهاً بسيناريو بريمر للعراق وفق صيغته الطائفية البغيضة والتي إن تحققت فستنتج وتعيد إنتاج النزيف السوري لعقود طويلة قادمة.

كاتب صحفي سوري مقيم في فرنسا
25.07.2020








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل - حماس: أبرز نقاط الخلاف التي تحول دون التوصل لاتفاق


.. فرنسا: لا هواتف قبل سن الـ11 ولا أجهزة ذكية قبل الـ13.. ما ر




.. مقترح فرنسي لإيجاد تسوية بين إسرائيل ولبنان لتهدئة التوتر


.. بلينكن اقترح على إسرائيل «حلولاً أفضل» لتجنب هجوم رفح.. ما ا




.. تصاعد مخاوف سكان قطاع غزة من عملية اجتياح رفح قبل أي هدنة