الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ظل آخر للمدينة13

محمود شقير

2020 / 7 / 27
الادب والفن


كنت أراقبها والقنابل تنقض على أبنيتها الملمومة داخل السور، ثم لا تلبث أدخنة كثيرة أن تنعقد في سمائها. ولم أكن أعي دلالة الحرب آنذاك، غير أنني استطعت تلمس بعض شرورها.
كان جدي وأبي وأعمامي يتجمهرون بالقرب من ساحة بئر الماء، يتابعون بقلق، القذائف التي تسقط فوق البيوت وأماكن العبادة. يأتي أناس آخرون من أبناء عشيرتنا، يراقبون المشهد، ولا ينفضّون إلا بعد أن تغيب الشمس، وتصبح الرؤية متعذرة.
منحت سلطة الإنتداب البريطاني جدي لأبي، بوصفه مختاراً للعشيرة، مذياعاً مستطيل الشكل، له إطار من خشب صقيل. كانت مضافته في تلك الأيام، تغص بالرجال الذين يتوافدون لسماع الأخبار. ويأتي إلى المضافة رجال من البدو يخفون تحت عباءاتهم بنادق للبيع. كان جدي مغرماً باقتناء البنادق، تحسباً من الأخطار القادمة. ولم يكن أحد من الرجال الوافدين يلمح أثراً لأية امرأة من نساء العائلة. كن ينزوين تماماً عن الأنظار، كي لا يثرن غضب جدي المعروف بصرامته التي لا ترحم أياً منهن.
وفي تلك الأثناء، تطوع خالي الكبير للقتال دفاعاً عن القدس. كان يأتي بين الحين والآخر إلى بيتنا حاملاً سلاحاً سريع الطلقات من نوع (ستن). يسأله الناس في مضافة جدي عن أخبار القتال، فيمعن في سرد حكايات، يبدو بعضها كأنه من نسج الخيال، يؤكد لهم أن ثمة نسوة يهوديات يحملن السلاح ويقاتلن جنبا إلى جنب الرجال. كان هذا الأمر محيراً للكثيرين من أبناء عشيرتنا الذين يحجزون نساءهم في البيوت (ولعل هذا كان أحد مؤشرات نكبتنا القادمة). وكان هذا الخال يخصني بالكثير من الرعاية والاهتمام، فيحضر لي من المدينة دمى لطالما أدخلت المسرة إلى نفسي. وكانت له مشاكسات تثير حفيظة الكبار.
جاء مرة إلى بيتنا، وحينما أبصرته قادماً من بعيد، ركضت في اتجاهه. سرت إلى جواره حتى إذا أقبلنا على حمار يرعى العشب في حقل قريب، سدد (الستن) نحوه، وطلب مني أن أضغط على الزناد، تهيبت ولم أفعل، ربما خوفاً من استخدام السلاح أو شفقة على الحمار. فلما أخبرت أمي بالأمر، وجهت إليه لوماً، فأرسل ضحكة ممطوطة بغير اكتراث.
وجاء مرة أخرى، ومعه امرأة شابة ترتدي ملابس غير مألوفة في قريتنا، تكشف أجزاء من ساقيها وذراعيها، وينسدل شعرها على كتفيها بعفوية واسترخاء. سمعت خالي يقول لأحد السائلين قبل أن يصل إلى بيتنا، إنها خطيبته. وسمعتها تضحك وتقول، إنه خطيبها. تأملت المرأة ودققت النظر في ما انكشف من جسدها، ثم رأيت تجهماً على وجه أبي، وأمي تداري حرجها وتحاول لملمة الموقف على نحو ما. جلست المرأة في ركن الدار، وظل خالي في الخارج يحاول توضيح الأمر لأمي، وأنا أعود إلى المرأة بين الحين والآخر لكي أتأمل جسدها من جديد. سمعت أبي يقول هامساً: إنها واحدة من بنات "الحلال". ولم أدرك معنى هذه الكلمة آنذاك. لكن تحفظ أبي وأمي تجاه زيارتها لبيتنا جعلني أخشى الإقتراب منها، فبقيت تلك الليلة أراقبها بحذر حتى نمت (فيما بعد، سوف يتزوج أحد أقاربي من إحدى بنات العشيرة، فلا يستطيع الدخول عليها، يطبخ له أهله الفلفل بكميات كبيرة، يلتهمه لعل فحولته تستيقظ من سباتها، فلا تستيقظ، فيظل عاجزاً مسكوناً بالخجل أمام أبناء العشيرة. يأخذونه إلى الفتاحين وشيوخ الطرق الصوفية، يصنعون له الأحجبة ويصفون له الوصفات دون فائدة. أخيراً، يأخذه والده إلى المدينة، ولكن لأي هدف؟ تهمس النسوة في جلساتهن الخاصة: إلى إحدى بنات "الحلال" لاختبار فحولته. يعود من المدينة واثقاً من نفسه، يختلي بعروسه، ثم ينكفئ على وجهه غير قادر على فعل شيء. تتذكر أم العريس أنها أرضعت العروس من ثديها ذات مرة. إذن فهي أخته في الرضاعة، وفي هذه الحالة، فإن التفريق بينهما هو الحل الوحيد. أستمع إلى كل ذلك، وأتعرف إلى بعض الأسرار التي تنطوي عليها المدينة. وفي سنوات لاحقة تخبرني أمي أن العروس كانت كارهة لعريسها، وأنها أجبرت على الزواج منه دون رغبة منها، وهذا سبب كافٍ لانعدام التوافق بينه وبينها، ولكنه لم يطلقها إلا بعد عشر سنوات من علاقة زوجية بائسة).
في الصباح، فتحت عيني أبحث عن المرأة فلم أجد لها أثراً، لأنها غادرت بيتنا في الفجر مع خالي، الذي لم يطل اشتراكه في القتال، ولم يعد أحد يدري عنه شيئاً، إذ غاب عن الأنظار فترة طويلة حتى ظن جدي لأمي أنه مات. إلا أنه عاد ولم يمت إلا بعد ذلك بسنوات.
يتبع..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-