الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تمرين صعب من اجل السلام

منهل السراج

2006 / 6 / 28
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


قراءة في "خزي"" ل ج. هـ كويتزي

"ـ كم هو مذل. كانت آمالاً شامخة وهاهي تنتهي إلى هذا.
ـ نعم أوافقك، هو مذل. ولكن لعلها تكون نقطة بداية جيدة. لعل هذا ماينبغي علي أن أتعلم قبوله: أن أبدأ من الصفر. بدون أي شيء. وليس بدون أي شيء إلا .. بدون أي شيء. بلاخيارات ولاأسلحة ولاملكية ولاحقوق ولاكرامة.
ـ ككلبة.
ـ نعم، ككلبة."
ربما ذلك الحوار بين ديفيد، الشخصية المحورية في رواية كويتزي "خزي"، ولوسي ابنته، هو خلاصة ماتقوله الرواية. تلك التحفة، كما وصفت في خلفية الرواية، هي بحد ذاتها خلاصة من الصدق، تترك قارئها في حيرة. يقف طويلاً أمام كل ما اعتاد، أن يحاكم أمور حياته وخياراته، من خلاله، ليتساءل إلى أي حد يمكن أن يتقبل تغيير الثوابت، التي كانت عنده كجبال راسخة. يتنازل عن كل ماكان يعتز به، وما يجعل منه أساس وجوده، ليخلق من نفسه إنساناً جديداً، ربما أكثر حياة وأكثر حرية.

" إن الإنسان يتعود على الأشياء التي تزداد صعوبة، ويكف عن الاندهاش من أن ما كان صعباً صعوبة قصوى، مازال يمكن أن يزداد صعوبة."
ديفيد الذي يعمل كبروفيسور في اللغات الحديثة بجامعة كيب تاون في مدينة ..... يواصل العمل في مهنة التدريس، لأنها تزوده بأسباب رزقه، وتعلمه التواضع. يقول إن من يأتي ليعلِّم، يتعلم أقسى الدروس، في حين أن الذين يأتون ليتعلموا، لا يتعلمون أي شيء.
رأيه الخاص، الذي لا يصرح به، هو أن أصل الكلام هو الغناء، وأصل الغناء يكمن في الحاجة لملء الروح الإنسانية الشاسعة والخاوية بالصوت.
حاجات ديفيد خفيفة وسريعة الزوال كحاجات فراشة. هذا المطلِّّق ابن الثانية والخمسين، وجد حلاً لمشكلة الجنس بزيارة أسبوعية يجريها كل خميس إلى ثريا، مقابل جلسة مدتها أربعين دقيقة يدفع لها 400 راندا، يذهب نصفها إلى وكالة "المرافقات السرية".. ثريا وهو ليس اسمها الحقيقي، لاتكشف عن حياتها خارج أسوار ويندرسون. فهي خلال الأيام الباقية تعيش حياة محترمة.
انقطعت تلك الفسحة الأسبوعية. انقطعت بسبب ذلك الصباح الذي رآها فيه، تنزه طفليها مثل أي أم. التقت عيونهما. أراد ان يقول لها "إن سرك مؤتمن عندي"، لكن شعورا بالغربة، ظل يخيم بينهما في لقاءاتهما التالية، إلى أن أخبرته أنها ستغيب بسبب مرض أمها، وفعلاً انقطعت عن عملها.
افتقد ديفيد ثريا وتلك المتعة الأسبوعية. حاول الاتصال بها، لكنها وبخته وأمرته أن لايعاود الأمر ثانية. كف عن ذلك وهو مملوء بشعور الحسد لزوج ثريا.

اعتاد ديفيد ان لايرى من المحيط إلا الفتيات الجميلات، لذلك عثر على ميلاني، طالبته في الشعر. كانت تتمشى مساء الجمعة بتنورة قصيرة وحزام مزود بحلية ذهبية رخيصة، تتلاءم مع حلقات قرطيها.
دعاها إلى بيته.
قال لها إن جمال المرأة لايخصها وحدها، إنه جزء من الهبة السخية التي تجلبها إلى العالم، ومن واجبها أن تتقاسمه. كان جوابها أنها للتو تقاسمته مع أحدهم. فقال: فلتتقاسميه على نطاق واسع، وأضاف: إننا نطلب المزيد دائماً، كي لا تذوي وردة الجمال.
لم يدع كويتزي ميلاني تتحدث، أو أنها تحدثت من خلال ما فعلت ومن خلال مجرى
الأحداث المتسارع. ظهر عشيق ميلاني الشاب المتهور، وراح يهدد ديفيد، ثم ظهر أبوها وحدثت الفضيحة الكبرى في الجامعة، فضيحة أدت بالبروفيسور إلى محكمة وقضية تحرش بطالبة واعتداء.

قدم استقالته ومضى ليختبئ في بيت لوسي ابنته.
لوسي كانت من جماعة الهيبيز. تنقلت كثيراً وجربت كثيراً، إلى أن اختارت المكوث في مزرعة نائية في أفريقيا الجنوبية، تزرع الذرة والقنب، وترعى عدداً من الكلاب.
ظل في مزرعتها مدة من الزمن، يراقبها باعتزاز، ويصفها ب امرأة وافرة. رآها تنغمس في حياة الفلاحة القاسية تاركة حياة الرفاهية التي كانت تنتظرها في بلد أمها في هولندا.
تعرض ديفيد وابنته لهجوم ضار من ثلاثة رجال سود، سرقة، وحرق، واغتصاب أسفر عن جنين في رحم لوسي.
تكابر لوسي وترفض، ربما من فرط الإحساس بالخجل، أن تبوح رغم محاولات أبيها المتكررة، كي تتقدم بهذه القضية للشرطة. كان تبريرها:
ـ ماحدث لي هو مسألة خاصة محض. ولو أنه وقع في وقت آخر وفي مكان آخر، لاعتبر الأمر شأناً عاماً، ولكن في هذا المكان وهذا الوقت هو شأني أنا، شأني وحدي.
هذا المكان هو أفريقيا الجنوبية.
"كان ديفيد يقتنع أن الإنكليزية غير صالحة لنقل صورة حقيقية لجنوب أفريقيا."

كان لدى ديفيد شكوك، بأن ابن المنطقة بتروس ، جار لوسي والعامل عندها، كان وراء هذا الاعتداء. ذلك لأن لوسي ماتزال تمثل بالنسبة لبتروس وأهل المنطقة نقوداً تافهة، هاوية لحياة المزارع أكثر منها مزارعة حقة.
هذا الاعتداء الفظيع بعث عند ديفيد لأول مرة شعوراً بمعنى ان يكون الرجل عجوزاً، بلا رغبات ولا آمال، منهكاً حتى العظام، ولا مبالياً بالمستقبل.
قام ديفيد بمحاولات عديدة، كي تترك ابنته الوحيدة هذه المزرعة وهؤلاء الناس، ولكن عبثاً. أصرت على البقاء ومحاولة التأقلم.
بعد أن يئس ديفيد من إقناع ابنته لوسي ترك هذا المكان الموحش، قرَّر أن يعود إلى بيته وحده.
في طريق عودته، خطر في باله أن يمر في مدينة ميلاني، الطالبة التي سببت فضيحته وبالتالي هزيمته من الجامعة. قرر أن يزور أهلها ويبوح بما في قلبه.
في نهاية زيارتهم رأى، لفرط إحساسه بالخزي، كأنه يتمدد على طاولة عمليات. يميل فوقه طبيب جراح عابسا يدمدم: ما كل هذه الأشياء؟
يقتطع كل جزء من جسمه ويرميه. المرارة والقلب و..
والد الفتاة الذي لم يوفر طريقة لإشعاره بالخزي، ذكره بالرب.
أجابه ديفيد وهو يدفع عنه حالة الرؤيا القاسية:
ـ أحاول أن أقبل الخزي بوصفه حالة وجودي. هل تعتقد أن الله يكتفي بأن أعيش الخزي إلى ما لا نهاية؟

ربما أراد كويتزي أن يقول، إن خزي ديفيد، الذي أبى أن يعلن توبته في البداية علناً، دفعه إلى أن يركع واضعاً جبينه على الأرض عند قدمي أم ميلاني وأختها، وإلى أن يضع يده بيد أبيها مذعناً لطقس العبادة على مائدة العشاء، كما قَبِلَ حكم مجلس الجامعة معترفاً بذنبه دون أن يفوه بذلك. أما بتروس، الذي ربما هو من أرسل الثلاثة ليغتصبوا لوسي ويسرقوها، ويسكبوا الكحول على أبيها ديفيد و يشعلوه، فلا ينتابه أي إحساس بالخزي ، بل يطلب لوسي للزواج، كي تؤول إليه ملكية أرضها. فيما لوسي تصر على الاحتفاظ بابن ذلك الاغتصاب قائلة: لايمكننا الاستمرار هكذا. يجب أن يسود السلام من حولي. أنا مستعدة أن أفعل أي شيء، أن أقدم أي تضحية، مقابل أن أحصل على السكينة.
هكذا آثرت الشابة أن تخوض صراعها، أو لنقل أن تتجنب الصراع من أجل آمالها، التي ربما لم تعد شامخة لكنها حقيقية. مضت وراء حلمها متفهمة، بعمق أدهش أباها، ظروف الأرض وشعب جنوب أفريقيا، وذلك من اجل أن تحيا السلام، تزرع وتعمل وتسهم في خلق الحياة.

انصرف ديفيد إلى إعداد كتاب عن بايرون كلمات وموسيقى، شخصيات تتكلم وتغني. شيء أشبه بمسرحية الغرفة. تدور عن الحب والموت. تضم امرأة شابة ورجلا عجوزا. ربما تيريزا تلك هي المرأة التي بحث عنها طوال الوقت، وأراد لميلاني أن تكونها. تقف تيريزا عند نافذة غرفة نومها، تغني بعينين مغمضتين، ويكاد صوتها لايرتفع فوق مستوى الهمس.
ـ تعال إلي أتوسل إليك يا بايرون.
تفتح ذراعيها وتعانق الظلام.

انتهى ديفيد البروفيسور في جامعة كيب تاون عاملاً في جمعية الرفق بالحيوان في جنوب أفريقيا. عاد إلى منطقة ابنته ولم يسكن عندها، صار ينقل الكلاب المريضة: العجوز والأعرج والأعمى والمعاق والمبتور. يعتني بها ريثما يأتي دورها في القتل. يقرأ أو يكتب وسط هذه الكلاب.
من بين تلك الكلاب كلب أحبه حباً خاصاً. كان جرواً ذكراً ذا قائمة خلفية يسرى ذاوية يجرها خلفه. فكر أن يضمه إلى المقطوعة التي يؤلفها، ويسمح له أن يحرر نحيبه نحو السماء بين المقطوعات الشعرية التي تلقيها تيريزا.
لكن مافعله أنه حمله كالحمل بين ذراعيه. أدخله غرفة العمليات التي تنهي حياة الحيوانات المعاقة قائلاً:
ـ نعم إني أتخلى عنه.

ترى إلى أي مدى يمكننا أن نتخلى عن قناعاتنا، وما نسميه مبادئنا أمام امتحان كهذا؟ ربما كل منا يحتاج ان يقرأ هذه الرواية، بكثير من التسامح، وقليل من العناد، تاركاً جانباً ثوابته وثوابت أهله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة