الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقام خمر

فرج بيرقدار
(Faraj Bayrakdar)

2006 / 6 / 29
الادب والفن


"فصل من مخطوط: خيانات اللغة والصمت"

سجلوا ذاتياتنا في صيدنايا، ثم التقى بنا مدير السجن، ليشرح ما لنا وما علينا:
ـ عندي هنا ليس كتدمر.. هنا إن جعت أطعمناك، وإن مرضت عالجناك، وإن اتسخت حممناك، ولكن إذا قمت بأي حركة غلط أو مخالفة للأنظمة، أطلقنا عليك النار بحجة أنك تحاول الهرب.
محاضرة بسيطة، واضحة ومختصرة. غير أننا في الواقع لم نصدِّق وعودها ولا وعيدها، فنحن نعرف أن شروط صيدنايا أقل سوءاً من شروط تدمر بكثير.
كنا نراقب مداخل وأدراج هذا السجن، الذي يجمع ما بين الخرافة والحداثة:
دهاليز وأقبية وممرات لا تنتهي، وأدراج تفضي إلى الغيب، الذي يكتنف هذا المبنى العملاق، المصمَّم على شكل إشارة مرسيدس أسطورية. وفي المنتصف دوَّار مسدَّس الأضلاع وفي داخله درج لولبي، يتيح للحراس مراقبة مداخل الأجنحة عبر الطوابق الثلاثة.
أخذنا مساعد الانضباط إلى المهجع العاشر والأخير في أحد أضلاع الطابق الثالث، وقبل أن ينسحب قال:
ـ إسمكم الآن طابق ثالث، جناح ب يسار.. وسيبقى بابكم مغلقاً هذه الأيام، ريثما يتحدد الوضع النهائي لإقامتكم هنا أو في سجن آخر.
اختلجت العيون بشيء من الخوف أو القلق، وسأل أحدُنا عما إذا كان هناك احتمال لإعادتنا إلى تدمر.. فقال المساعد إنه حتى الآن، ليس هناك قرار نهائي.
لعنة الله على هذه الرحلة القرباطية، التي لا تعرف كيف تهدأ، ولا كيف تستقر.

في هذا السجن مئات من رفاقنا.. في الليل أرسلوا إلينا مجموعة صور.. ليس مهماً كيف وصلت الصور. المهم أنها وصلت، وبتنا واثقين أن الرفاق عرفوا بمجيئنا، ولا بد أنهم سيكتبون لنا في الغد شيئاً ما.
صباح اليوم التالي أخذت الإدارة خمسة منا، وحين عادوا ظهراً، قالوا إنهم كانوا في المحكمة، ثم انقطع الحديث، لأن الرقيب عاد مستعجلاً ليقول:
ـ على الخمسة أن يتبعوني.
سألناه:
ـ إلى أين؟
فقال:
ـ ليس شغلكم.
انتظرنا إلى الليل فلم يعودوا. حاولنا عبر دقِّ "المورس" على الجدران وعلى أرض المهجع، لعلنا نعرف شيئاً عنهم أو عن آخرين، فلم نفلح.
حاولنا عبر الهمس من خلال المناور، ثم عبر النحنحة والسعال. كنا حذرين كما عوَّدنا سجن تدمر، ولكن يبدو أن شكل وآلية الحراسة هنا مختلفة.
حوالي منتصف الليل عرفنا أن الرفاق الخمسة موجودون في المهجع الخامس من الجناح نفسه.
جرَّبنا أن نرسل إليهم خيطاً، ربطناه إلى تفاحة ثم إلى صابونة.. لكن باءت جميع محاولاتنا بالفشل. عندها غامرنا، وتحدثنا معهم بصوت مسموع.

بعد يومين ذهب خمسة آخرون، كنت من بينهم. أنزلونا ضمن سيارة "قفص" مكبلين بالجنازير والكلبشات إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، حيث قابلنا قاضي التحقيق، الذي حاول أن يثبِّت إفاداتنا، كما جاءته من فرع فلسطين. قلنا له إن هذه الإفادات منتزعة تحت التعذيب، وإذا افترضنا جدلاً، أنها قريبة من الحقيقة، فإنه لا يليق بكم كمحكمة، أن تعتمدوا عليها.
في السيارة وفي المحكمة استطعنا أن نسترق بضع كلمات مع رفاق وأصدقاء من أجنحة أخرى، ولكنها كانت كافية للاتفاق على آلية الاتصال فيما بين جناحنا وأجنحتهم، وحين عدنا إلى صيدنايا، ضمَّتنا الإدارة إلى رفاق الدفعة الأولى، تاركين بقية الرفاق للهواجس.
بعد إغلاق الأبواب في الأجنحة الأخرى مساء، سمعنا طرقاً على إحدى زوايا المهجع. تهيأ لنا أن هناك إصلاحات في الجناح الذي وراءنا، إذ لا يمكن للسجناء، أن يطرقوا على الجدران بهذه القوة.
في تدمر.. إذا وقع صحن في أحد المهاجع، وأحدث جلبة أو صوتاً مسموعاً، يحضر الحارس على الفور، ليسأل من شرَّاقة السقف عن مصدر الصوت وسببه.
الطرق يشتد ويقترب. ابتعدنا قليلاً عن الزاوية لإحساسنا بأن ثغرة ما ستنفتح. فجأة انبثق من زاوية المهجع، وعلى ارتفاع أكثر من مترين، سيخ لامع. بعد قليل بدأ السيخ يتحرك ذهاباً وإياباً، وكأنه ينظِّف المجرى المفتوح، ثم غاب للحظات، وعاد وفي رأسه قطعة صغيرة من أنبوب سيروم، وفي داخل القطعة ورقة صغيرة:
" أهلا بكم أيها الرفاق.. سنكتب إليكم وتكتبون إلينا كثيراً.. أعيدوا قطعة السيروم إلى السيخ، وانتظروا أن نرسل من خلالها لُبَّ قلم ناشف وأوراقاً شفافة، وذلك على دفعات متتالية".
كان الثقب عالياً، وكان على أحدنا أن يصعد على كتفي آخر، كي يتناول قطعة الأنبوب.
آخر الليل أبلغناهم أن قاماتنا نصف مهدَّمة، فكتبوا لنا أنهم سيفتحون غداً ثقباً آخر أقل ارتفاعاً، ولكن علينا أن نغلق الثقب الأول بالصابون، وأن نكون حذرين نهاراً، فنغلق الثقب الجديد، كلما سمعنا وقع خطوات العساكر عند مدخل الجناح.
ـ ولكن كيف تدقون بكل هذه الشدة يا رفاق، ولا يأتي الحارس؟!
ـ لا عليكم.. بعض الحراس مضمونون، ونحن ندق خلال نوباتهم.

قبل ظهر اليوم التالي كان الثقب على ارتفاع نصف متر فقط، وهكذا أمضينا يوماً مريحاً ومليئاً برسائل متبادلة مع الرفاق، ومع أصدقاء من أحزاب أخرى: أخبار واستفسارات وقصائد. وفي المساء جلسنا، وجلس الرفاق واحداً بعد آخر في النقاط الملائمة للنظر من الثقب بعد توسيعه، وبالتالي استطاع أن يرى بعضُنا وجوهَ بعض.

خلال السهرة سألَنا الرفاقُ عن آخر مرة، شربنا فيها نبيذاً.
ـ هل تمزحون يا رفاق؟!
ـ حسناً .. حسناً.. منذ زمن طويل ونحن نخبئ لكم حصة من الخمر الذي نصنعه، فجهزوا كؤوسكم أو صحونكم.
أوصلوا إلينا أنبوب سيروم طويل، وبعد لحظات انبجس النبيذ، وكأنه قادم من أقصى القداسات.
لم يعد لطيفاً أن أكمل الحديث عن باقي التفاصيل.. ألا ترون أن المقام الآن مقام خمر؟
الصحون تمتلئ واحداً بعد الآخر، وبودي أن أقول لكم وللحياة وللحرية:
في صحتكم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي


.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من




.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري


.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب




.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس