الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رجال الدين ومسيرة العِلم

جميل النجار
كاتب وباحث وشاعر

(Gamil Alnaggar)

2020 / 8 / 4
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


إن العمل بالعلم والمعرفة لأنبل وأعظم عمل اشتغل وانشغل به الإنسان على مر العصور. فمنذ القدم أطلق فلاسفة اليونان العنان للعقل، يتتبع دروب البراهين دون قيد يكبله، فأجادوا قياس الأمور المجهولة على المعارف المعلومة وبحثوا فيما بينهما من تشابه أو تضاد؛ فإذا اتفقا؛ كان حكمهما واحدا؛ وإن اختلفا؛ اختلف الحكم بمقدار ما بينهما من اختلاف. فأناروا لنا ضوءً بنهاية نفق المعرفة الذي أدخلتنا فيه الأديان، وحرصوا رجال الدين على أن يجعلوها (المعرفة) حكراً عليهم.
فمعرفة الله وخلق الكون والبشر وبقية الكائنات وتصريف أمور الناس، كلها أمور اعتبروها وقفاً عليهم؛ فصكوا صكوك الغفران ومراسيم الحرمان، وأحاطوا كتبهم بهالة من القداسة التي لا تلين أو تهين، ولا يجرؤ على تفسيرها سوى أهل الذكر، وهم بالطبع أهله من دون البشر.
فأصبحت شعائرهم ومعارفهم من العادات والتقاليد الغامضة الموروثة التي استشرت وطغت على عقول الأكثرية. حتى استعصت على أي ثورة فكرية وثقافية، أو أي إصلاح اجتماعي يمكن أن ينشده العقلاء المصلحين، مع العلم بأن الكثرة أو القلة ليست مقياساً موضوعياً دقيقاً للخطأ أو الصواب؛ بدليل وجود مجتمعات تنعم بالرفاهية المتحضرة المشروطة، وأخرى ترزح في غياهب الجهل والتخلف الحضاري المُهين، والفارق يتمثل في العقلانية، كسبيل يأخذ بأيادي الشعوب إلى الأمام نحو التقدم والازدهار.
وتاريخياً؛ دأب رجال الدين على مناهضة العلم والعلماء منذ أن حكمت محكمة أثينا في العام 399 ق.م على سقراط بتجرع السم؛ لأنه لم يؤمن بآلهة اليونان القديمة ساكني الأكروبوليس، ومنذ أن نادى البولندي "نيكولاس كوبرنيكوس" مفجر الثورة الفلكية الحديثة سنة 1543 بأن الأرض تدور وأنها ليست مركز الكون، ضاربا بذلك بنظرية بطليموس - أرسطو عرض الحائط والتي دعمتها الكنيسة لمدة 12 قرناً، وجعلت مجرد التشكيك في هذه النظرية كفراً.
إذن الأرض تتحرك والكنيسة كانت كل هذه السنين الماضية ساكنة/ساكتة على خطأها، وعندما بدأ "جاليليو" في التأكيد على أن الأرض في الواقع تدور حول الشمس، وجد نفسه قد طعن في المؤسسة الكنسية، وحكمت عليه المحكمة عام 1633 م بالهرطقة وبأنه يعترض على ما جاء في الإنجيل؛ عندما أيد نظرية كوبرنيكوس ومنعوه من الكتابة وفرضوا عليه الإقامة الجبرية.
وراح المحققون يسعون للبحث حتى عن أولئك الذين لديهم معتقدات زندقة خفية، وكذلك أي شخص يشتبه فيه بأنه يقرأ الكتب المحظورة أو تعليم المعتقدات الأخرى غير الكاثوليكية.
اكتشف الطبيب الإسباني "مايكل سيرفيتوس" في عام 1545 الدورة الدموية الرئوية. ولأنه كتب كتاباً تضمن فيه بعض الملاحظات حول إصلاح المسيحية، اعتبر الكتاب هرطقة. فهرب من إسبانيا ومحاكم التفتيش الكاثوليكية، ولكن في سويسرا، وبأمر من جون كالفين، والتواطؤ مع محاكم التفتيش البروتستانتية. تم القبض على سيرفيتوس وتعذيبه وحرقه على شواطئ بحيرة جنيف مع نسخ من كتابه.
أما قصة الكاهن العقلاني "جيوردانو برونو"، فيندى لها الجبين؛ ذلك الفيلسوف الذي قادته استفساراته العلمية إلى القول بأن الكون لا نهائي، وأن التدريس الكاثوليكي غير عقلاني، ورفض التراجع لإنقاذ حياته. فتم حرقه على المحك لبدعة في العام 1600 م (منذ 420 عاما). فكان رمز التحدي العنيد في مجتمع معروف بتوافقه.
والويل كل الويل لمن يختلف مع فكرهم، فلم يكتفوا بإنكار الحقائق العلمية الصادمة التي تعارضت مع نصوصهم، بل قاموا بالنفي والحبس والتعذيب والقتل، وقاموا بتجييش وحشد التابعين وخاضوا بهم حروبا مقدسة؛ لم تنل البشرية من ورائها سوى الويلات؛ حتى رسخوا في أذهان العامة وبعض الخاصة أنهم الأكثرية، والأكثرية لا تُخطئُ أبدا، فلديهم وحدهم الحقيقة اليقينية المطلقة؛
وروعت محاكم التفتيش كل من يخرج على تعاليم الكنيسة، وكان رجال الدين حتى بداية القرن التاسع عشر يكنون في صدورهم كراهية بغيضة لعلم الجيولوجيا الجديد آنذاك ويرون الجيولوجيين مجرد حفنة تستخدم الصخور لنشر هرطقاتهم القاضية بقدم عمر الأرض الذي يقاس بملايين السنين، وهم- أي رجال الدين- الذين قالوا بأن العالم قد خلق عام 4004 ق.م؛ الأمر الذي أصاب مثل هذه العلوم الطبيعية بالجمود حتى وقت قريب.
وقام ديوان الزنادقة في صدر الدولة الإسلامية بنفس أعمال محاكم التفتيش في إسبانيا، ولكن بصورة أكثر راديكالية وقالوا: "من تمنطق فقد تزندق"، ويعلم الجميع عن نهاية جاد بن درهم وابن أبي العوجاء والوراق والحلاج وعبد الله بن المقفع وبشار بن برد وغيرهم الكثير، والتنكيل الذي لحق ببعض أفراد فرقة المعتزلة لإعمالهم العقل (مع التحفظ على بعض أراءهم)؛ وذلك بعدما أصدر المتوكل 847 م أوامره بعقاب كل من يقول بخلق القرآن وأباح القادر بالله هدر دمائهم 1018 م.
ويركز رجال الدين في كل وقت من خلال تبني أيديولوجية الإيمان الرواقي على بث روح التواكل، والقاضية بأنه طالما أن القدير قد قدَّر بقضائه وقدره كل شيء في الحياة مسبقاً؛ فما جدوى أي مسعى في الحياة؟ فكان في ذلك القضاء المبرم على كل مسعى علمي وعملي يبحث في طبيعة الأشياء.
وأغرب ما جاء في هذا الصدد؛ ما أكده القديس "أوجستين" (354 - 430 م) حينما قال: " ليس من الضروري أن نتقصى في طبيعة الأشياء، كما فعل من يدعونهم الإغريق باسم الطبيعيين، كما يجب ألا ننزعج خشية أن يكون المسيحي جاهلا بقوة وعدد العناصر، حركة ونظام وكسوفات الأجرام السماوية، شكل السموات، أنواع وطبيعة الحيوانات، والنباتات، والصخور، والينابيع والأنهار، والجبال، جاهلا بعلم الزمن والمسافات، بعلامات العواصف القادمة، وبألف شيء آخر، إما اكتشفها هؤلاء الفلاسفة وإما يعتقدون أنهم اكتشفوها ... يكفي المسيحي أن يؤمن بأن السبب الأوحد لكل الأشياء المخلوقة سماوية كانت أم أرضية ... هو طيبة الخالق، الإله الواحد الحق".
هكذا بكل بساطة حظر القديس علوما بأكملها كالفيزياء والجغرافيا والجيولوجيا والفلك والطقس وغيرها من علومٍ عدَّها أيضا شيوخنا علوما وضعيّة تفضُلها العلوم الشرعية، وذلك من قبيل "مَنْ يُرِدِ اللَّه بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ".
وحارب رجال الدين ومعهم المتدينين كل مُستحدث؛ فكل محدثة بدعة في أعرافهم. ولازالوا يعترضون على نظرية التطور الثورية التي أكدت بالأدلة والبراهين البيولوجية والجيولوجية، أن الإنسان مثله مثل أي كائن حي، يمكن أن يكون قد تطور عن أجناس أو أنواع أخرى من الكائنات الحية الرئيسية وحولته إلى مجرد حلقة في سلسلة التطور الأحيائي، ووجه الاعتراض في أن نظرية التطور قد أفقدت الإنسان مركزيته وقدسيته الساذجة والتي كانت تضعه في مرتبة تالية للملائكة.
كرّس رحيس (860-932 م) معظم جهوده كطبيب لممارسة الجراحة وللتدريس في كلية الطب في بغداد. وقدم أعمال "أبقراط وجالينوس" إلى العالم العربي. فجلبت تعاليمه "الغربية" وتفكيره العقلاني وشهرته ككاتب طبي وطبيب ممارس له العديد من المضايقات والصراعات المحلية. ففقد منصبه التدريسي أولاً، واعتقل وحظرت كتبه ثانياً. وضربه جلاده على رأسه بكتبه حتى أصبح أعمى. وأخيراً مات في فقر مدقع.
كما وحَرَّم رجال الدين عندنا نقل وزرع الأعضاء، وعطَّلوا عملياتها ردحا من الزمان، وحرّموا تحديد النسل في مواجهة جهود الدولة الرامية إلى تخفيف الضغط على اقتصادنا الضعيف والهش، وحجتهم في ذلك حديث الرسول "تناكحوا، تكاثروا، تناسلوا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة"!
وتجد في المقابل فكرا غربياً مستنيرا؛ حذّر فيه الاقتصادي الإنجليزي "توماس روبرت مالتوس" في أواخر القرن الثامن عشر(1766-1834) من أن زيادة عدد السكان تلتهم أي زيادة في موارد الطعام، حيث أن عدد سكان العالم يتزايد بمتوالية هندسية (8×8 = 64)، بينما تتزايد موارد الطعام بمتوالية حسابية (8+8 = 16) والنتيجة هي : أن على البشرية أن تواجه خطر الموت جوعاً مالم تحدد نسلها.
كما قالت سيمون دي بوفوار(1908- 1986) قولتها الشهيرة "كل طفل جديد هو كمٌ عبثي يضاف إلى الوجود". وأُضيفُ أنا على فقرتها: "خاصة؛ إذا كان في الأوساط الأمية المتخلفة". فثمة أفكار واقعية عظيمة تصنع الفارق بين الشعوب.
وفي البلدان الإسلامية اليوم، يُعتبر الإلحاد جريمة كما في إيران والمملكة العربية السعودية وإندونيسيا، وبعض الدول الإسلامية الأخرى. وقد يتعرض الملحدين أو المتشككين الدينيين للإعدام في أربعة عشر دولة على الأقل وهي : أفغانستان، إيران، ماليزيا، وجزر المالديف، وموريتانيا، ونيجيريا، وباكستان، وقطر، والمملكة العربية السعودية، والصومال، والسودان، وليبيا، والإمارات العربية المتحدة واليمن.
وأغلب العلماء الحقيقين والمفكرين الحقيقين المعاصرين في هذه المنطقة ممن ينتمون للتيارات المدنية والحداثة كالعلمانيين الليبراليين واليسارين الماركسيين وغيرهم يصنفون من الملاحدة أو الزنادقة. وإذا كان الملحدون الأوائل يتفاخرون بتعريف أنفسهم باستخدام كلمة "ملحد" في القرن الثامن عشر في عصر التنوير؛ عقب انتشار الفكر الحر والشكوكيّة العلميّة وتنامي نشاط التيارات الفكرية في نقد الأديان؛ وإذا كانت الغالبية العظمى من العلماء والعباقرة حول العالم ملحدون؛ حسب دراسة نُشرت في مجلة الطبيعة (Nature) ، فالوضع عندنا في هذه المناطق (الطاهرة المباركة) لا يعد جريمة وفقط؛ بل وصمة عار ومصائب سوداء تلاحق أبعد الأقارب وأقربهم طيلة حياتهم.
وأغلب الظن أن الفرض العلمي الأقرب إلى الصحة؛ يجعلنا نستنتج –ونحن مستريحو الضمير- بأنه لولا محاربة رجال الدين للعلم والعلماء، بدءً من كهنة الأكروبوليس المؤمنين بآلهة اليونان القديمة وحتى شيوخنا (الذين تركوا "علم كلامهم" اللاعلميّ؛ ومنحوا أنفسهم- في الهواء الطلق- أعلى الدرجات العلمية في الفيزياء والفلك والكيمياء والبيولوجيا والجيولوجيا والأنثروبولوجيا... الخ) من أمثال "بن باز وبن عثيمين" وغيرهم الكثير ممن شككوا – بالحق الذي منحوه لأنفسهم وبتوكيلٍ من عامة الدهماء الجهلاء- في دوران الأرض.
وقضية دوران الأرض منتهية منذ نظرية "كوبرنيكوس"، ما بين عامي 1507 و 1515، والتي أكدتها تقنيات الفضاء وعلومه الحديثة، ويأتي على رأسها الأقمار الصناعية. كما شككوا في أمور علمية غيرها لا يفهموها كأصل المادة؛ التي دفعت بكافة العلوم إلى الأمام، وغيرها الكثير والكثير. لولا كل هذا الاضطهاد والعنت المتسلط؛ لكانت قد وصلت البشرية اليوم إلى الأقرب القنطوري أو الأقرب السنتوري، والذي يبعد عنا بمقدار 4.2 سنة ضوئية وبنينا حضارتنا الكوكبية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نفق المعرفة والجهل
طاهر المصرى ( 2020 / 8 / 4 - 19:06 )
الأستاذ/ جميل النجار
مع احترامى لجدية موضوع المقال لكن خشيتك للتعرض الشجاع لرجال الأديان البشرية، أوقعك فى أخطاء لا يمكن أن يتفق معها أحد مثل عبارة نفق المعرفة حيث تقول -أن فلاسفة اليونان أناروا لنا ضوء بنهاية نفق المعرفة الذى أدخلتنا فيه الأديان ..-.
كيف تعطى رجال الأديان شرف أن المعرفة هى التى أخترعتها؟؟ المعرفة هى نتاج العقل الإنسانى ولا علاقة لها بالعلوم الغيبية التى تعتقد فيها رجال الأديان والمؤمنين بها، وكان أحرى بك أن لا تكرر أحاديث لمحمد تدل على جهل المسلمين اليوم الذين يؤمنون بتلك الأحاديث التى تدعو للتخلف دون أن يرفضوها ويستخدموا عقولهم دراسة العلم والمعرفة وهم الفقراء ويتناسلوا مثل الحيوانات، وهذا ما يصدقونه لأنهم وصلوا لمرحلة تقديس محمد ورفض الشك فى كلام الجاهلى.
وأكرر نفق المعرفة لا علاقة له برجال الأديان الذين لا يملكون معرفة إلا تراث التخلف الذى يتسلطون به على المؤمنين البلهاء الذين لا يستخدمون عقولهم.
شكراً

اخر الافلام

.. ماذا يحدث عند معبر رفح الآن؟


.. غزة اليوم (7 مايو 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غزة




.. غزة: تركيا في بحث عن دور أكبر خلال وما بعد الحرب؟


.. الانتخابات الرئاسية في تشاد: عهد جديد أم تمديد لحكم عائلة دي




.. كيف ستبدو معركة رفح.. وهل تختلف عن المعارك السابقة؟