الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


متلازمة سيفر والسياسة التركية

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 8 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


معلم من معالم سياسة الرئيس التركي أردوجان هو "الشعبوية الإسلامية" أي التي يُصدر فيها خطابا دينيا شعبيا للأمة التركية تتصادم أحيانا مع القانون العلماني المحلي، لكن هذا التصادم يذوب كُليا في ما يوصف ب "متلازمة سيفر" Sèvres Syndrome التي أعدها برأيي أهم عامل سيكولوجي يخدم إسلاميين تركيا ويعطيهم التفوق على خصومهم سياسيا إما في البرلمان أو جذب وإقناع الشرائح الشعبية المختلفة بمعزل تام عن قرارات الجيش.

ومتلازمة سيفر باختصار هي مرض نفسي اجتماعي خاص بالأمة التركية موروث منذ "معاهدة سيفر" عام 1920 بفرنسا أعقاب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وقتها احتل الحلفاء تركيا وبموجب معاهدة سيفر فرضت شروط الحلفاء على الدولة العثمانية بتقسيم آسيا الصغرى/ تركيا إلى مقاطعات وأقاليم بين عدة دول منها "بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليونان وأرمينيا" أي أن معاهدة سيفر – التي وصفت بمعاهدة الاستسلام العثماني – لم تكن دولة تركيا المعاصرة فيها واحدة بل قُسّمت 75% منها تقريبا بين المنتصرين في الحرب وبأبعاد دينية مسيحية أذكر منها "فكرة ميغالي" Megali Idea التي سيطرت على ملوك اليونان منذ استقلالهم عن تركيا في القرن 19م والذين يطالبون فيها بإرث الدولة البيزنطية ومنها عودة سيطرة اليونان على اسطنبول/ القسطنطينية القديمة..

أدت معاهدة سيفر لانتفاضة القوميين الترك وتشكيل عدة جيوش بقيادة "مصطفى كمال أتاتورك" خاضت معارك فيها مع الطرف الآخر من المعاهدة عرفت ب "حرب الاستقلال التركية" بين عاميّ 1920- 1923 م وانتهت بانتصار الجيش التركي على الحلفاء وإلغاء معاهدة سيفر واستبدالها بمعاهدة لوزان سنة 1923م التي أعترفت فيها أوروبا بجمهورية تركيا الحديثة كوريث للدولة العثمانية على جل أراضي الأناضول وآسيا الصغرى ، وبالتالي انتهت تماما فكرة ميغالي اليونانية وكافة بنود معاهدة سيفر التي أدت لاحقا لسياسة "استبدال الشعوب" أي هجرة المسيحيين لليونان وأرمينيا وهجرة المسلمين لتركيا..وهذا الذي أدى لنُدرة الأقليات الدينية في هذه الدول حيث يشكل المسلمون في تركيا 99% والمسيحيون في اليونان 98% وأرمينيا 93% وما كان هذا ليحدث لولا الهجرة المتبادلة أعقاب حرب الاستقلال التركية..

أما متلازمة سيفر هي التي أدت لكراهية الأتراك لأوروبا وخوف وتوجس نفسي تجاه مسيحيين الغرب بشكل عام، فهم يرون أن نصوص معاهدة سيفر المشئومة على الأمة التركية كانت (مؤامرة) لتدمير الشعب التركي وتهجيره ليعيش كعبيد في أرض الغير، وظلت هذه المتلازمة هي عنوان كل أوروبي في نفوس الأتراك خصوصا ممن ينتصرون للقومية التركية لغةً وعقيدة، فمن حيث اللغة تشكلت قومية الترك على أساس ثقافي كما هو معروف..أما من حيث الدين فالإنجاز التركي الوحيد حدث تاريخيا بالدولة العثمانية التي جمعت بين القوميتين – لغة وعقيدة – بتغليب جانب العقيدة لجذوره في تحقيق هذا الإنجاز، وهذا تفسير اجتماعي كيف أن الأحزاب الدينية التركية لها شعبية كبيرة حتى في ظل سطوة القانون العلماني وتربص الجيش ضد أي انتخابات ديمقراطية نزيهة تأتي بالإسلاميين، مما يعني أن الشعب الذي ينتخب كان يفكر بطريقة أخرى مختلفة عن التي يفكر بها الجنرالات.

أضيف أن متلازمة سيفر كان لها تأثيرا سلبيا على الأقليات العرقية الأخرى كالكورد، فالنظرة التركية للكورد لا زالت متأثرة بنصوص معاهدة سيفر..هنا الكوردي لا يتحدث ككوردي له جنسية تركية كما هو مفترض لكنه يتحدث كأجنبي وفقا لمرض المتلازمة في نفوس الأتراك المُشبّعين بنشاط القوميين الترك ضد الآخر، مما يعني أن الكوردي حينها يظهر كمتآمر لتقسيم تركيا واستبعاد الأتراك في ذهن الأغلبية، وهي النقطة التي خدمت – ولا زالت – متطرفين تركيا في حكم الدولة أغلب فترات تاريخها منذ حرب الاستقلال في العشرينات، لاسيما أن التطرف القومي هنا كانت له أشكال دينية نجح أردوجان في توظيفه لصالح معاركه الانتخابية المتعددة..

فكلما يقترب زمن الانتخابات يُصعّد الإسلاميين خطابهم العدائي ضد الغرب المسيحي شعبيا عن طريق تحميله مسئولية الانقلاب الفاشل سنة 2016 أو مظاهرات ميدان تقسيم سنة 2013م والحدثين يمثلان حضورا قويا لمتلازمة سيفر لدى الإسلاميين الذين لا يبذلون جهدا كبيرا في إقناع الترك بوجود مؤامرة دولية عليهم ، في المقابل يشن القادة الأتراك نشاطا عسكريا ضد الكورد سواء في تركيا أو بسوريا والعراق، مما يعني أن كورد سوريا والعراق هم جزء من المشروع الانتخابي للقوميين الترك والشعبويين الإسلاميين في الحقيقة، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض محليا بعدما يواجه ضغطا شعبيا عنيفا يُذكّره بمعاهدة سيفر التي أصبحت مبررا لقهر الآخرين في الثقافة التركية أو وصمهم بالخيانة والمؤامرة لتقسيم الدولة، هنا تكون المتلازمة هي مبرر وسبب وجيه لإقناع الجماهير بحُجّية الفعل وصوابيته من الناحية الأخلاقية لتعلقه بمصير الوطن.

وقد يسأل سائل: إذا كانت متلازمة سيفر حقيقة نفسية وتاريخية للأمة التركية، فكيف انضمت تركيا لحلف الناتو؟..وكيف نجح أردوجان في بناء الاقتصاد التركي بمساعدة أوروبا؟..والجواب: أن الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 م ونتائجها وصعود الولايات المتحدة لقيادة العالم كانت لها نتائج إيجابية في شعور الترك، فخصومهم في المعاهدة "بريطانيا وفرنسا وإيطاليا" أصبحوا ضعفاء، وقد استقلت عنهم مستعمراتهم التي انتزعت منهم بعد المعاهدة وتعديلاتها في لوزان، فالعثماني الذي يتألم لخسارة الشام وليبيا مثلا لم يعد يشعر بالقلق – مؤقتا – بعد استقلال هذه الدول أخيرا، لكن جذور وأساسات المعاهدة لا زالت راسخة في نفس التركي بحيث يمكن إحياؤها في أي وقت.

وبرأيي أن أردوجان الآن يعمل على إحيائها بخطاب عدائي شعبي للغرب المسيحي، خصوصا بعد تورط الولايات المتحدة – برأيه – في دعم انقلاب 2016 الفاشل عن طريق إيواء فتح الله كولن وأنصاره، هنا تعود متلازمة سيفر بحذافيرها لضمير الترك، علما بأن أردوجان في بداياته لم يوظف تلك المتلازمة لينجح شعبيا، فسياساته وقتها كانت شهيرة بعنوان "صفر مشكلات" مما يعني ترك أو نبذ كل ما يتعلق بالصراعات والحروب وميراث الكراهية المميز في تاريخ الترك، أما بعد الحرب السورية وتورط أردوجان فيها تغيرت الأوضاع وعاد طموح الإسلاميين الإمبريالي للواجهة مما يستدعي إحياء موروثات الكراهية الدينية والتاريخية في سبيل ضمان صعود من يسمون ب "العثمانيين الجدد" الذي سيعيدون إنجاز أسلافهم في بناء إمبراطوريتهم البائدة كما هي متخيلة في أذهان القوميين والإسلاميين.

أشير هنا إلى أن التعصب الأيدلوجي يعزل الفرد سيكولوجيا عن تاريخه وخصوصا تاريخ أيدلوجيته، فذاكرة جمهور الحركات الأيدلوجية الدينية بالخصوص (قصيرة) كذاكرة جمهور السياسيين في الانتخابات، لا تتذكر أخطاء وخطايا زعمائهم بأي شكل بل تركز على وضعهم الحالي بغرض التنافس وإثبات الذات، مما يعني أن الجمهور التركي المستهدف بمتلازمة سيفر لا يرى جرائم أسلافه في أرمينيا ولا أسلاف أسلافه في الدولة العثمانية، وهذا سر شعبية العثمانيين الجدد في تركيا أنهم يستندون على ماضي جيد للأمة التركية، ويمتلك الحجة الكافية أو المبرر المعقول لجرائم دولته ضد الأرمن، وهذا تفسير سيكولوجي آخر لكيف يتعامى الترك عن جرائمهم المليونية ضد الأرمن رغم ثبوتها تاريخيا بالصوت والصورة، فهم إما يبرروها على أنها حدثت في سياق الحرب..أو ينكرون معظم تفاصيلها.

وفي الحقيقة رأيت عدة تحليلات لمتلازمة سيفر التركية أغلبها تفسر هذه المتلازمة على أنها "اضطراب ما بعد الصدمة" والتركي المصدوم هنا متأثر بهزيمتين كبيرتين الأولى هزيمته في الحرب العالمية الأولى، والثانية خاصة بالإسلاميين الذي صُدِموا بسقوط الخلافة العثمانية، مما يعني أن الجمهور التركي الحالي المصدوم ربما يختلف نوعا ما عن الذي كان يعيش سنة 1920، ففي وقت انعقاد المعاهدة كانت الصدمة واحدة أعقبها انتصارا قوميا كبيرا في حرب الاستقلال ومن ثم أفراح قيام الجمهورية الأتاتوركية، لكن الآن فالجماهير التركية تعيش هذه الصدمة بمشاعرها إضافة لصدمة سقوط إنجازها التاريخي الوحيد ممثلا في سلطنة بني عثمان، وبالتالي فاضطراب ما بعد الصدمة قد يكون حقيقيا حيث تسيطر مشاعر "الرُهاب" النفسي من القائد التركي ضد أي مخالف له الآن سواء في داخل تركيا أو خارجها.

فتركيا الآن تعيد صراعها القرووسطي بشكل شبه كامل سواء مع الأرمن واليونان من خلفية دينية، أو بسلوك امبريالي توسعي ضد مصر وسوريا والخليج، فإذا مددنا الخط على استقامته فعودة الصراع الروسي التركي محتملا وكذلك صراعهم الطويل مع إيران هو أيضا قابل للعودة والحياة مرة أخرى في ظل سلطات طائفية تنظر للشيعة بنفس رؤيتهم – على الأرجح – لمتآمري معاهدة سيفر، فإذا كان أردوجان الآن لم يرقى لهذه المرتبة بعد لكنه معرض لاكتساب رؤية طائفية ضد الشيعة مستقبلا أو أحد من خلفائه مما سيدفع القائد التركي لإحياء غزوات أسلافه ضد الشيعة دفاعا عن الصحابة والسلف الصالح كما كانوا يزعمون وبواسطته يحشدون الجند في المعارك، لاسيما أن عقلية الأصولي واحدة في معاركه..فهو يجيد توظيف العقيدة كسلاح بغض النظر عن صدق هذا التوظيف أو جوازه من الناحيتين الشرعية والأخلاقية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تـــركى بــجم
هانى شاكر ( 2020 / 8 / 9 - 19:58 )

تـــركى بــجم
_______


حكمنا الاتراك العثمانيين 500 سنة فاذلونا ايما اذلال ... و عندى جولاتى للتدريس فى جامعات اوربا رايت الاتراك الغلابة فى قاع السلم الاجتماعى ... تحدثت معهم و درستهم لاجد اى مغزى لتسلط هؤلاء البسطاء على دولة بحجم مصر ... فلم اجد اى تعليل سوى القسوة المفرطة و الغباء الطبيعى الذى حباه المنان بهم ...

ستسألنى كيف ارتضينا بكل ذاك الهوان ؟

سؤال وجيه ... يطول شرحه !

خبرتنا معهم لخصها العبقرى صلاح جاهين


تـــركى بــجم سِــكِر إنـسجم
لاظ شــقلباظ اتــغاظ هـجم
أمــان أمــان تــركى بــجم

دبــور جــبان مـن غـير زبـان
زنـــان كبير يمـــضغ لبــان
يســـمع نفـــير يخـــاف يــبان
أمــان أمــان تــركى بــجم

سـوس بازفان اقطع لسان
عربــــى واقـــف لـك ديــدبان
ادخـــل تمــوت جـــنات مـكان
أمــان أمــان تــركى بــجم

سيكتير زمان سيكتير كمان
ادخــل ح نـضرب في المــلان
خـــليك تـــقول أنـــا جـلفـدان
ولا يــــــنفعوك الأمــــــريكان


لكن صلاح لم يرد على السؤال الكبير ... خرزانة عبد الناصر كانت اوجع من كرباج التركى ... البجم

تحياتى

...

اخر الافلام

.. القادة الأوروبيون يبحثون في بروكسل الهجوم الإيراني على إسرائ


.. حراك تركي في ملف الوساطة الهادفة الى وقف اطلاق النار في غزة




.. رغم الحرب.. شاطئ بحر غزة يكتظ بالمواطنين الهاربين من الحر


.. شهادات نازحين استهدفهم الاحتلال شرق مدينة رفح




.. متظاهرون يتهمون بايدن بالإبادة الجماعية في بنسلفانيا