الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صوتك حلو ..ج الثاني

فرات المحسن

2020 / 8 / 10
الادب والفن


بعد السنة السادسة بدت الحرب مثل أحجية عصية على الحل. مضت السنوات ثقيلة مجللة بالسواد، دبّ معها اليأس في القلوب، وأغلقت منافذ أمل كان الجميع يظن أن الضوء سيرشح منها. يتذكر جيداً تلك اللحظات الأولى حين أزف يوم التحاقه بوحدته، يتذكر جيدا تلك الساعة، كيف وضعت أمه رأسه في حجرها وراحت تقرأ له الأدعية وتتمتم بالصلوات، وكيف وقفت بعدها عند عتبة الدار وبعيون تخضّبها الدموع، ودون أن تنطق بكلمة دلقت وراءه قدر الماء. ذاك اليوم اقترب من بيت الحبيبة دون أن يرى وجهها، كانت الستارة مسدلة، مغلقة بالكامل. أراد أن يراها ولو للحظة. لا شيء كان يراوده ساعتها غير تلك الرغبة. نظرة من عينيها تكفيه، زوّادة لوداع ربما يطول. ودّع النافذة دون أن يلمحها. في إجازته الثالثة ما عاد لها وجود، لم يعد يراها، وحين سأل عنها قيل له إنها رحلت إلى مدينة أخرى. هكذا وببساطة أنهوا القصة ببرودة يابسة مثل يباس روحه. تزوجت ثم رحلت وانتهى الأمر. ولكن هو، كيف سيكون أمره. ما الذي سيكون عليه مسير أيامه، كيف يتسنى له أن يطفئ ظمأ شبقه المشتعل. ظل يمشي ويمشي، قضى جميع أيام إجازته يخور مثل ذئب جريح، يسير بين الأزقة دون هداية. الشوارع خلت تماماً، يطوف فيها الليل بطوله يبحث عن وجهها، جسدها، وصوت جبار كرمش يلعلع ضاجاً. المدينة تغط بالنوم والشخير العالي يملأ السطوح. وحده كان يجول فيها مثل لصّ، عاشق يغتصب الأزقة ويقبل النوافذ. يتسلل إليها. يدبّ بين حواشي البيوت يتوقف أمام نافذتها المغلقة الستارة والمطفأة الأنوار. هنا كان يناجيها فتمنحه المتعة. وصوت جبار يأتي من بعيد مرحاً مغسولاً بضوء الفجر الطالع. وبعد أن ينسحب من أمام النافذة يجتاز سوق المدينة الكبير. يلتقيه جبار مترنح مطأطئ الرأس كأنه يعد خطوات ظله، يتوقف ثم يطالعه ويصرخ بملء حنجرته ويغني وجعاً.
ـ لون تنفع بالبواجي عليك ..أشكَ صدري أبدال الزيج وأدلع .
فجأة يصمت جبار ويروح يحدق به كمن يبحث عن شيء أضاعه في متاهات الذاكرة. يشعل سيجارة ويقدمها له بيد مرتعشة. يهرب من أمام جبار. يهرب كي لا يواسيه. يهرب كي لا ينادمه، يهرب كي لا يبوح بسره، كي لا يخاصمه على كذبة بريئة حصل منها على أحلى كلمات..صوتك حلو ...صوتك حلو
مضت السنون ثقيلة موحشة قاحلة ينتظر فيها يوم الإجازة ثم يوم العودة. تسارعت الأحداث. كان أبوه قد مات بعد أن أكل السلّ رئتيه، وضياء مات منتحراً، ووصفي قتله رجال الجيش الشعبي بعد مطاردة شرسة إثر هروبه من الخدمة العسكرية. كمنوا له ثم لاحقوه وقتلوه جوار بناية معمل الثلج. توّسلهم ولكن رصاصاتهم كانت أسرع من كلماته. تركوه جسداً منخوراً يسبح بدمه ومنعوا أهله من إقامة مجلس عزاء. جارتهم الوديعة رحاب لم يُقَمْ لها مجلس عزاء أيضاً، وقبل مقتلها لم يعنِ لأحد أن يسألها عن الذي حدث. غسل العار لا يحتاج ثرثرة.
أقحلت المدينة وتيبست نداوتها. الخوف فيها يسيل مع الدموع. خائفون، أرواحهم مسلوبة من شدة الرعب، عيونهم الهلعة تترصد بعضهم البعض. الجميع يهاب ويخاف الجميع. وكأن المدينة بأزقتها موبوءة بمرض معدٍ ينتشر في جسدها وينخر أحشاءها.
ما عادت تثيره أمسيات التجوال، حتى صوت جبار كرمش ما عاد يفرش أنغامه فوق جدران البيوت. قيل وقتذاك إن جبار مات لعلـّة مجهولة. اختفت الأغاني الملتاعة والضحكات الفجائية الوقحة، مات الشجن وما بقي من صوت جبار غير شبح يطوف الشوارع. يسير مترنحاً بجسده الناحل ووجهه الأسمر الشاحب يسكب ضحكة رضية يمنحها لمن يقابله.
كم من مرة فكر أن يجالس جبار. فقط يجالسه ويستمع، لا شيء غير ذلك. ولكن سرعان ما كان يعاف التفكير بمثل هذا الأمر، فمثل هذه المغامرة لها ثمن عند الجميع، فجبار كرمش هو زنديق المدينة وسكيرها وداعرها الأبدي. ولكن أين المفرّ الآن فصوت جبار ما زال عالقاً يلتصق بقوة في حجرات جمجمته. يرافقه في حلـّه وترحاله. عند تلك السواتر والملاجئ بين ضجيج القنابل المتساقطة ولعلعة الرصاص. الآخرون كانوا يطلون عليه من حين وآخر بملامح غائمة مشوشة.جسدها ووجهها وحدهما وصوت جبار كانوا يرافقونه دون فكاك. في آخر يوم من إجازته الأخيرة رافقه قيس حتى مرأب السيارات الذاهبة إلى البصرة.
ـ بدأت تشيخ يا صاحبي ..بعدك تكره الزواج...عقده مو.
ـ يمعود تريدها أرملة تتردد على المقبرة.
ـ حين تعود في المرة القادمة سوف تجد مقبرة المدينة قد ضاقت بالموتى، وكل يوم جديد يكون أشد عسراً من سابقه...لا تهتم لهذا الأمر يا صاحبي ربك كريم وينظر بحنو لعباده.
وبضحكة مرة أكمل قيس جملته.
ـ تره جبار كرمش كتله العرك ..لو...
ـ لا ...اللو هيه اللي كتلته ؟

ضلت تلك اللو محشورة في ذهنه، تنخره، تفترس خلايا روحه، وهو يقف الآن في الليل البهيم ورائحة الخريف مشبعة بالرمل، وليس هناك أمامه غير أفق مظلم مصفرّ، والريح تصفع وجهه بقسوة. بأسها لا يحتمل. تحسس جبهته ثم وجنتيه، بدت له بتغضناتها وبروز العظام وكأنها قناع طيني متيبس. أكيد أنها شاخت ومثله تغضّن وجهها وتسربل شعرها بالبياض. لا ليس في مخيلته مثل تلك الصورة. الحقيقة وحدها كانت قد توقفت في ذلك الليل البليل، عند تلك النافذة، وفي جوف تلك الغرفة والجسد البض يتحرك بعنفوان. حدّق أمامه فشاهد حركة شخص يتقدم نحوه.
ـ قف.
ـ هاي شبيك ..أني رحيم.
ـ سرّ الليل؟
ـ أهو مو دا أكَلك أني رحيم..ما أكَدرت أنام كَلت خل أجي أستلم منك الواجب.
ـ سر الليل؟
ـ دروح يمعود .. الجريدة.
ـ توصل.
ـ للفرقة.
ـ هلو رحيم همزين أجيت ...أني ميت أنعاس.

أصدر حذاؤه الثقيل صوتاً مسموعاً حين ضغط على أرض باب الملجأ اللزجة. وقف وسط الملجأ وجال بنظره خواء الجدران ثم مد جسده فوق سريره باسترخاء، وأحتضن بندقيته، وسحب الغطاء بعد أن شعر بشيء من البرودة الرطبة تتسلل لأطرافه رغم جو الملجأ الخانق. استكان جسده وشعر ببعض الدفء. حالما تسّرب النعاس إلى جفونه استحوذ عليه هدوء غريب وبدأت تتسرب إلى عقله الصور والأحداث. حلـّق معها منتشياً فوق مدينته. بنشوة لذيذة هدهدته الصور الملونة، وكانت شبابيك البيوت تقاربه، تلامس وجهه فيشم عطر طلاء أخشابها الرطب وألوان ستائرها.
كان انهيال الصور غزيراً، الوجوه كانت تأتيه عابسة ً متوترة ً هرمة ً. تقترب منه في العتمة الخفيفة، تتواتر مع ارتعاش ضوء الفانوس الشحيح. يحدّق في الجدران الطينية، فترتسم فوقها وجوه طالة بعيونها تطالعه بنظرات قاسية. كانوا هنا، حضروا جميعاً. ولكنه شعر بأنه يقف وسطهم غريباً وحيداً، لم يعره أحد منهم نظرة أو اهتمام. وكان نواح جبار كرمش يختلط بنواح كلاب وأنين ثكلى، ومن زاوية قصيّة راحت أمه تدندن بأدعيتها ويسيل الماء فوق عتبة الدار من إبريق يرتجّ في يدها المرتعشة. راح يخط بأصابعه فوق الطين اللزج ويدندن أغنيةً سمعها من جبار. رسم صورة جسد بنهد ناط وشعر مسدول. صور كثيرة تجلد ذاكرته. كل شيء يبدو الآن ذابلاً محطماً، ميتاً ينم عن الشقاء، وجوه طحنت وأذلت. وحده وجهها بقي مشرقاً مسربلاً بالفرح والنشوة يقترب منه، فتتصاعد في روحه إشراقات ليل طال فيه الشوق.
أطلق حسرة مكتومة، ومرر أصابعه يتلمس شعر اللحية. مازال يشتهي رؤية جسدها الطريّ حين يتلوى أمامه، يقترب ويبتعد منه. ترتمي فوق السرير ثم تنهض، فيجد تضاريس الجسد وقد استحوذت عليه كلياً. تسمح له أن يتلصص عليها من بين فتحة الستارة. لم يكن هناك غير جمر يتقد في روحه. تشتعل حواسه مثل ذئب جائع. تدلف عيناه عبر النافذة لتشد جسدها البض بقوة، يتألق الخال فوق كتفها الأيسر المكشوف، وحلمات الصدر تندفع من وراء الثوب الشفاف تريدان الوثوب خارجاً. يمسك خشب النافذة، يعصره، يشد جسدها بكل ما أوتي من قوة، يتصاعد في السماء هيجان الشهوة، يحس وكأنّ ناراً مجمرة تشتعل بين فخذيه. يضغط ثم يضغط، ثم يروح في الهلام المشتعل الذي ما أنطفئ أبداً.
أطبقت عيناه ممسكة بحلمها. صورة جيدها ونظرات عينيها المشتهاة، وشعرها الفاحم الهابط فوق ظهرها. تبتلعه رائحة الجسد وضوع شذا يلفه الآن وها هو صوتها يرن في فضاء الملجأ.
ـ صوتك حلو .... صوتك حلو ... صوتك حلو...
تنتصب أمامه، يشم رائحتها، يأتيه صوتها ناعماً كهمس النسائم، تحتد رائحة الجسد، فتنتشي روحه ويتأجج داخلها لهب حارق. تتقدم نحوه في هدوء وصمت. صدرها العاري المندفع إلى أمام شهياً مثيراً يقترب من فمه، فيشعر بحلمتيها وهما تولجان رحيقهما في جوفه. اقتربت بجسدها منه. دسّته تحت الغطاء وضغطت، لامست حرارتها صدره وفخذيه. شدّته إليها فشعر بحرارة قيظ تلفع صدره. اهتز جسده من قشعريرة لذيذة طاغية. ضغط على عضوه، هرسه بقوة. سمع دندنتها في أذنيه. قبّل جيدها وعضّ على شفتيها، أغمضت عينيها وتركت يديه تبحث متلذذةً بين ثنايا جسدها. مدّت يدها وفتحت أزرار سرواله وراحت تداعب وتداعب وروحه تفور مثل بركان. ألهب شفتيها بالقبل فأغمضت عينيها بخدر لذيذ. دار متلذذاً بين ثنايا جسدها ثم لف ساقيه حول ساقها البضّ الطري وضغط بكل ما منحته اللحظة من قوة شبق أضناها الظمأ. ضغط بشدة وكان جسده يتلوى بعنفوان.
بدأ صوت العاصفة الرملية يزمجر غضباً.غطت صفرتها كل شيء. صفير الريح يضرب بحدة باب الملجأ، جاعلاً قطعة القماش البالية المسدلة فوق فتحته تتلوى شمالاً وجنوباً.مع صخب الريح دوّى صوت مكتوم لرشقة بندقية رشاش. امتلأ الملجأ برائحة البارود وغطت جوفه سحابة بيضاء. كانت هناك ثمة خصلة شعر بيضاء خضّبها الدم تلتصق بالجدار الطيني للملجأ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس


.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني




.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/