الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السور

ماجد رشيد العويد

2006 / 7 / 2
الادب والفن


القسم الثاني من "طيبة"
لم أدرك لحظة عمق علاقته بالسور.. لم أكن بالأهلية الكافية لأرى تلك الوشائج الخفية التي تربطه بسور تآكل جُلّه. وكنت أرى هدمه والاستفادة من حجارته أمراً لازماً وضرورياً. لم أملك القدرة على سبر غور تلك الرجفة سنين عديدة، تلك الرجفة التي دفعتني إلى لون من الرؤية الجلية.. الرؤية الشفافة فسطع أمام عيني ما غاب عنهما طويلاً. أبصرته يدّخر أنفاسه لوقعة متعبة أخذ يحس صليلها في رئتيه، ومع كل شهيق كان يجر إلى زمنه المثلوم والملآن بالجراح إصراراً بالتحصن، ويستمد من الدثار القديم غطاء لزلزلة ضعف محتملة. ولما كنت أريد أن أخرجه من شروده سألته:
ـ أو لا يُحتمل أن تكون جنية؟
توقفت قليلاً ثم أردفت:
ـ لابد أنها جنية وليست إنسية..
ـ لا. لقد شممت رائحتها. شممت فيها رائحة الطين وعبرتني ريحُ العمار. هي إنسية استقامت أمامي في غلالة من حرير وقالت لي أنا بين يديك فكوّني من جديد على نحو جديد. هي مقدودة من الحجر، من بين صلب السور وترائبه. ركضنا وجبنا الأرجاء معاً، ومعاً سمعنا صوتاً عذباً شجياً. لما اختفت لبيت نداءها. قالت إن لي مولوداً وانطلقتُ أبحث عنهما معاً.
ـ وهل وجدتها؟
ـ ما زال في السور بقية من رمق.
ـ وماذا ستفعل؟
ـ لا شيء سوى إقامة أوَدِ السور بالترميم وبهذا لا أموت.
كنت أريد له أن يتابع رحلته فلا يقرب رجس انمساخ الحجارة إلى بيوتات شوهاء ترطن جدرانها بذوق عاجل ومتضائل. وحتى أؤكد رغبتي هذه قلت له:
ـ استمر في رحلتك.
ـ ومن قال لك إني لن أفعل. كل ما الأمر أني أتدبر إنشاء نفسي قبل إتمام الرحلة، نفسي المغشي عليها. إني أبحث عن أدم الريق كي لا أعطش، فإذا وجدته تخلصت من غَلَلِ الفَقْدِ وملكت ناصية التوازن.
رحت أراقبه عن كثب، أتملى وجهه وصمته، محاولاً الوصول إلى كنه ما يخفي.
قلت له:
ـ لم لا تحدثني عن بداية رحلتك؟
اتخذت مجلساً قريباً منه. تهيأت لأسمع حديثه. قال
ـ عبرت النهر على سفينة دكّها الزمان ثم رممها الذي يقتات بها. السفّان صامت وأنا كذلك، غير أني كنت أجيش بالأسئلة. الأفق أمامي تكسوه حمرة آخر النهار، شفق يطويه غسق. حاولت الحديث إلى السفّان. لم يرد، ربما لا يحب الحديث أو لا يستطيعه، أو لعله لم ير ما رأيت من فنون الرقص ومن التمرغ الدافئ فوق التراب. كانت تمور بشهوة الكشف عنها فأعلنت من بين غلالتها الحريرية الشفيفة عن مفاتن هالني جمالها وبعدُ تناسقها. استقرت قدماي على الضفة الأخرى، بدأت أمشي مشي وجلٍ. كنت كلما ازددت بعداً عن الماء دخلت أكثر في الرمال وتبدأ هذه تشدني إليها. طلع نهار ودخل ليل. مضى على مسيري عشرة أيام نفد خلالها زادي من الطعام والشراب. خارت قواي، شعرت أن جوفي ينكمش من الجوع والعطش، كنت في الرمق الأخير ألفظ أنفاسي فتهاويت على الأرض يحرق قيظها ظهري، عيناي تحدقان في الشمس اللاهبة حتى شعرت أنهما تقرحتا إلى الحد المقزز، قلت أليس من غَلُولٍ يقيني الغائلة؟ كدت أدخل في غيبوبة لولا أن اخترقني نداؤها: اقس على نفسك وانهض حتى تأتي القصر وتدخله عندها ستراني افتح الذراعين يفوح مني أريج الطلل. اركض نحوي، عانقني.. ضمّني كما لو أنك لم ترني منذ آماد، خذني إليك أو سآخذك إلي وأدخلك في غلالتي. فلا يفصل عندها بينك وبين رحيقي شيء. إذ ذاك سأمنحك، وأنت تقبلني إكسير مجد يستقر بين ضلوعك رغبة متعالية بالحياة فتطحن أمانيك ثم تذروها فوق ما ترى من ركام الحجر حتى يستقيم واقفاً على هيئته الأولى، انهض وتابع مسيرك فإن عندي سر الطين الذي تريد لإعادة بناء الحجارة.
كنت متلهفاً إلى سماع المزيد وإلى النتيجة فقاطعته:
ـ وماذا بعد؟
ـ تبدد إحساسي بالخوف والجوع، وتابعت سيري. بعد حوالي ساعة واجهت باباً أفضى بي إلى خرائب مدينة تألقت أول الزمان، مدينة هشة، مبعثرة الروح، هامدة، خامدة بلا بريق، هكذا كان إحساسي في انطلاقته الأولى. دخلت المدينة مضطرباً، قدماي تطأان أثراً بعد أثر. انتهى بي مسيري إلى بقايا قصر، عبرت إلى داخله أطأ أرضه مصحوباً بانفعال غريب، وبصوت تناهى إلى أذني موقعاً على أنغام حملتها ريحُ المكان وقد أقْفَرَ. جاش في جنباني الانفعال، وتراكمت الأصوات حتى أحسست أني أدلف إلى قاعة رحيبة. عبرت الممرات محاطاً بالرسوم والزخارف وقد علاها غبار تراكم الأزمان. كان حالها يشبه حال الحجارة النائمة جنباً إلى جنب يحتُّ منها الزمان جزءاً مع الريح وكذا يدُ المنون البشرية. حددت هدفي، وسط اختلاط مشاعري في الوصول إلى تلك القاعة. وهنا قاطعته بنفس اللهفة.
ـ أية قاعة؟
وأجابني وفي ملامحه بعض التعب:
ـ كانت تلك هي القاعة التي حددتهَا لي قالت: ترى القاعة، ادخلها مصحوباً بالبركات.. ستبصرني باسمة الثغر، يطفح بالبشر محياي، عندها اركض نحوي، إلى حضني مكثفاً رغبتك بي، وعانقني فأنا الخلود في إهاب أنثى، أدلّك على نفسي وأدلّك على نفسك.
لقد قطعت ما قطعت لأجل الوصول إلى تلك القاعة التي فيها سرّ حكايتي، وعلى جدرانها دُوّنَ عشقي للتراب. صوّرت لنفسي وأنا أسير أني سأراها في منحوتة قدّت من صلصال مقاوِم، صلصال لا يعرف التفتت ولا التفسخ ولا التبدل مجرد التبدل. تصوّرت أيضاً أشياء هالتني روعتها وربما أيضاً هالتني دقة صنعها، وكنت وأنا أتصور هذه الأشياء أعيش خلوداً لم يكن لغيري، بل لقد أيقنت من أنني صائر إلى خلود شفيف أرى من خلاله حركتك وحركة الجميع، وأرى من خلاله عُمر السور وما قُدّرَ له.
توقف. كان التعب بادياً عليه. الرحلة شاقة ابتدأها أول شبابه يرمّم السور ويقصّ حكايته. عشرون عاماً وهو يرافق السور ويقيم أوده بما تيسر له من الطين. لما رأيته وقد هدّه الإرهاق قلت له:
ـ لم لا نكمل غداً؟
ولم يرد.
كان يأسرني إيمانه بالسور، حتى آمنت به مثله رغم أني كنت أرى فيه حجارة لبناء الدور لا أكثر. لم أستطع زمناً طويلاً الولوج إلى أعماقه ولا إدراك كنه أفكاره، ورغم أني رأيت فتاته وهماً أو شيئاً من هذا القبيل إلا أني آمنت على الأقل بجاذبية ما يروي، وآمنت أني سأفهم بانتهاء القصة كيف أفنى عمره عند السور يرممه ويحادث طيف فتاة متخيلة.
كان الليل قد حلّ وسقط فوق الأنحاء مُعتماً بهيماً. نظرتُ ناحيته فرأيته افترش الأرض وغط في نوم عميق. بإمعان رحت أنظر إليه محدقاً بوجهه علّني ألمس في التقاطيع دليلاً أو علامة تدلني عليه، وتخلصني من شعور مضن بأنه مجنون شريد البراري وطريد الأوهام. كان نائماً بهدوء، مسترخياً مطمئناً غير وجلٍ، تمددت قريباً منه أحدق في الفضاء مشتت الفكر ثم غفوت.
في الصباح وقد انبسط الضوء ، جهزت إفطاراً متواضعاً. أكلنا ثم بادرته بالسؤال:
ـ ما رأيك لو تابعنا الحكاية؟
أجاب بعد أن تمطى وتثاءب:
ـ سأفعل، سأفعل.
وراح يحدق في المقبرة الجاثمة أمامه. نظر إلي وقال:
ـ كما قلت فيما مضى هم ليسوا موتى، إنهم في رحلة نوم قد تطول. صمت ثم تابع بعد قليل:
ـ رسمت صورة للقاعة قبل أن أراها. تخيلتها رحيبة واسعة مزخرفة من الداخل على نحو خارق يوحي إليك أن طاقة ظلت حيناً في كمون ثم تفجرت عن تكاوين من النقوش والزخرف، طاقة حُرِمت من تبديد ملكاتها في التصوير فنشطت الأنامل على قاعدة من الحسّ المتأجج تبدع أجمل النقوش محمولاً على حجر الفسيفساء الناطق روعة وجمالاً وفتنة.
لما صرت عند الباب ـ باب القاعة ـ وَجِلَتْ نفسي وارتاعت واقشعر بدني. وطأت العتبة فازدادت قشعريرتي. ولمّا كنت مصراً على رؤيتها ومعانقتها وتقبيلها غامرت مستجمعاً قوتي وداخلاً. صار الباب خلفي، أمامي ظلمة تامة شرختها للحظات حزمة من الضوء عبرتْ إلى الداخل قبل انغلاق الباب خلفي ودون إرادة مني. كان يحيط بي ظلام دامس. لا شيء يُرى ولا شيء يُسمع خلا ذلك الهمس الكتيم الذي ينبعث من أرجاء المكان معفراً برائحة الهجر. أحست تلك الرائحة قامت من مرقدها تنشر عبيرها فيفوح في الأرجاء أملٌ متحفّز.
لدقائق وقفت مغموراً بالظلمة لا ألوي على شيء، مشلول الفكر والجسد، واهن الروح. ماذا أفعل؟ أية بلوى بانتظاري وأية حماقة دفعتني إلى هذا الوضع؟ أمطرني الرعب أسئلة كثيرة فككت توازني. هدأت وصابرت عساي أتلمس دربي إلى ما يبدد الظلام المسيطر، وفجأة تناهى إلي الصوت ذاته عذباً رائقاً وشجيّاً فياضاً بالرغبات.. تناهت إلي الكلمات: أنا سرّك الضائع فالقني وأنت تقرأ الحكاية، حكاية نفسك المغشي عليها، ابحث عن أَدَمِ الريق كي لا تعطش فإذا وجدته تخلّصت من غَلَلِ الفقد وملكت ناصية التوازن. تناهت إلي متدفقة نوراً ورونقاً. تبدد الظلام فإذا ملكوت باهر من النقوش قستْ لأجله الأنامل فتجلى يثير عبر الزمان الأسئلة تلو الأسئلة. كنت أقلب النظر في الجدران من حولي، أردت للحكاية أن تكتمل فأخذت أمعن النظر في توزّع حجر الفسيفساء ودقة توضّعه على الجدران. وقلت في غمرة اندهاشي سأسمع الآن صوتها وأرى صورتها تنبثق من الحجر كما أول مرة، فتاة عبلة، ناهدة الصدر، ريانة يستقر كفلها على رخامتين مدورتين.
توقف رافعاً رأسه إلى السماء، عيناه مصوبتان باتجاه الشمس، وما يلبث حتى ينحدر بهما صوب المقبرة. كنت بحاجة إلى توقفه هذا لأتمثل بعيني قبل أذني إحساسه وقد انغمس في حكايته.
قلت وكأني أريد فقط أن أبدأ حواراً:
ـ تحدّق في الشمس كثيراً ستؤذي عينيك.
ـ لا لن تؤذي عيني. على العكس، سيدلني وهجها على الكيفية التي كان يُشوى بها الآجر.
حاولت أن أغير الحديث فسألته:
ـ وماذا بعد ذلك؟
ولم يجبني، بل راح يتابع تحديقه في الشمس اللاهبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابر الرباعي يكشف كواليس ألبومه الجديد ورؤيته لسوق الغناء ال


.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة الخميس




.. مغني الراب الأمريكي ماكليمور يساند غزة بأغنية -قاعة هند-


.. مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت




.. عاجل.. وفاة والدة الفنان كريم عبد العزيز وتشييع الجنازة غداً