الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المرحلة الوجدانية في أدب محمد عبد الحليم عبد الله

أسامة عبد الكريم عبد الرازق
كاتب

(Osama Abdelkarim Abdelrazek)

2020 / 8 / 16
الادب والفن


يقول الروائي الإيطالي ألبرتو مورافيا: "لو أردت أن أصف الواقع كما هو، فإن خيالي لا يلبث أن يتمرد ليخلق حوادث وشخصيات". هناك من الروائيين من يحاول تصوير الواقع وتقديم الشخصيات الروائية كنموذج للطبقات الاجتماعية أو لجيل من الأجيال ومن رواد هذا النوع من الروائيين الغربيين بلزاك في روايات "الناعقون" و"امرأة في الثلاثين". ويمثل هذا التيار في مصر نجيب محفوظ في روايات مثل "زقاق المدق" و"خان الخليلي" و"بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية". فشخصيات هذه الروايات ترتبط ارتباطا وثيقا بالعادات والتقاليد وتتأثر بالأحداث الاجتماعية والسياسية في الحقبة التي تؤرخ لها. فهي إذن تعد تأريخا لفترة ما من حياة المجتمع. وتتمثل صعوبة هذا النوع أنه يتطلب من الروائي معرفة دقيقة بتفاصيل الحياة والأحداث وتحليلها وأثرها علي شخصيات الرواية. وفي المقابل هناك روايات لا تهتم بتصوير الإنسان كممثل لطبقة ما أو حقبة ما، بل تسعي إلي سبر أغوار النفس ورائد هذا التيار هو الروائي الروسي ديستويفسكي وخاصة في رواية "الإخوة كارامازوف". وعلي خطي الروائي الروسي العظيم ديستويفسكي يسير المؤلف المصري محمد عبد الحليم عبد الله في الكثير من رواياته وخاصة في الأعمال الأولي التي تنتمي للمرحلة الوجدانية. وفي هذا المقال سوف نقوم برحلة نفسية مع ثلاث شخصيات في ثلاث روايات لعبد الحليم عبد الله وهي "شجرة اللبلاب"، و"بعد الغروب" و"شمس الخريف"وجميعها تنتمي لمرحلة التفجر الوجداني والتركيز علي أعماق الشخصية ولا يعني ذلك أنها تتجاهل الأفكار الاجتماعية والسياسية ولكن تمر به مرورا خفيفا لا يكاد يلحظ.
شجرة اللبلاب:
نشأ الطفل حسني نشأة ريفية في بيت أبيه وزوجة أبيه التي تصغره بأعوام كثيرة وكانت تسئ معاملته كثيرا هو وأخته هنية ولكن ما لبثت هنية أن تزوجت في قرية مجاورة وتركت أخيها الصغير يواجه الحياة البائسة وحده. يقول المؤلف علي لسان بطله: "كانت طفولتي من ذلك النوع الذي يتعذر على الإنسان أن ينساه فقد كانت واضحة الليالي والأحداث، كأن الزمن كان ينبهني أثناء مسيره إلى بعض ساعاته بحركة غير عادية يأتيها." يتعرض الطفل الصغير لبعض المشاهد التي تجعله يفقد الثقة في المرأة بصفة عامة كمشاهدته لزوجة أبيه في أحضان ابن عمها الشاب أثناء غياب أبيه وكذلك رؤيته لعم غانم الذي أقام عنده أثناء مرحلة دراسته الأولي في القاهرة مع امرأة أخري غير زوجته في إحدي الحدائق العامة. وهكذا نشأ في نفسه صراع بين صورة المرأة القديسة متمثلة في أمه التي يذكرها بصعوبة بالغة فقد فارقته في طفولته المبكرة وأخته هنية التي تعد صورة ما غير مكتملة من أمه وصورة المرأة الخائنة متمثلة في زوجة أبيه والمرأة التي شاهدها مع عم غانم وقد سأل نفسه وقتها: هل تخون زوجة عم غانم زوجها هي الأخري؟. ينتقل حسني إلي مرحلة الجامعة ويسكن أحد البيوت في المقطم ويتعرف علي زينب تلك الفتاة الرقيقة التي تحب القراءة ونشأت علاقة حب بين قلبيهما كما امتدت من قبل خيوط اللبلاب بين نافذتيهما. ولكن ما يلبث حسني أن يقع في حيرة من أمره، هل تكون زينب مثل الأخريات الخائنات أم أنها تختلف عنهن بوفائها وطهارتها كما تختلف بجمالها. وتكرر لقائهما خارج البيت وذات يوم تقابلا في غرفته وكانت مستعدة لمنح نفسها من أجله هو ولكنه كان نصف كريم علي حد تعبيره. أصابه الموقف بالمزيد من الشك. وقد صارحته في أحد اللقاءات "توقع كل شء يا حسني إلا شيئا واحدا، إلا أن أقول لك أني كنت مخدوعة فيك. لم يحدث ذلك قط وأقسم أني كنت مختارة في كل ما فعلت. كنت أعني كل ما أقول وكنت أقصد كل ما أعمل. لقد وقع بيني وبينك أشياء لعلك تنظر إليها علي أنها أخطاء .. آه .. ولكني مصرة عليها ومتعصبة لها". ولعل زينب لا ذنب لها في ما حدث ولكن سوء حظها أوقعها في هذا الشاب الذي انطلقت من داخله شكوك ربتها أم ربيع زوجة أبيه وتعهدها بالغذاء والسقيا نساء أخريات قابلهن في مراحل مختلفة من حياته. وعاد لقريته في الأجازة الصيفية وأرسلت له زينب العديد من الخطابات التي لم يرد عليها، قالت في إحداها "لن أطلب منك الصفح إن أعددتني مخطئة لأني متعصبة لأخطائي .. هل تفهم". توالت الرسائل ثم انقطعت فجأة فظن حسني أن اليأس استبد بها أو أن حبيبا جديدا لاح في الأفق ولكنه كان سرعان ما يعود لنفسه يمنعها عن التجني عليها فقد يكون حدث لها مكروه. عاد للقاهرة وإلي حجرته في قلعة الكبش. دخل الحجرة المليئة بالتراب وهاله ذبول شجرة اللبلاب وما لبث أن وجد الخادمة تقف علي عتبة حجرته بملامح مشحونة بالآلام والأخبار الحزينة قائلة: "ماتت سيدتي". فكاد يضربها بيديه وهو يسألها أي سيدتيها. فقالت: "سيدتي الصغري زينب."
إذا ما تناولنا المنظور النفسي في هذه الرواية نجد أن المؤلف يعتمد علي المنظور الذاتي حيث يبني الرواية من خلال وعي الشخصية الرئيسية لنفسها وتداعيات الذاكرة وحديث النفس مما يتيح للقارئ أن يدخل في عقل ونفس الشخصية الروائية ويتعايش معها ويتيح للمؤلف أن يرتدي ثوب الشخصية متخفيا داخلها ليعرض أفكاره ورؤيته بشكل محكم.

بعد الغروب:
تنتمي هذه الرواية لفترة الأربعينيات وهي من الروايات الوجدانية للمؤلف. أحداثها بسيطة ولكنها تتميز بالبناء الفني المحكم والأسلوب الفصيح وقد تذكرنا بأسلوب كاتب آخر تأثر به عبد الحليم عبد الله وهو المنفلوطي. الشخصية الرئيسية عبد العزيز شاب تخرج في كلية الزراعة وكان يتمني دراسة الأدب ليصبح أديبا مشهورا ولكن أباه ألح عليه في دراسة الزراعة ليستطيع رعاية الفدادين القليلة التي تمتلكها الأسرة ولكن ظروف الحياة تجعل الأب يفقد ما لديه من فدادين قليلة بسبب تجارة القطن وينحدر حال الأسرة إلي الفقر المدقع. يضطر عبد العزيز إلي البحث عن عمل. حيث يذكر المؤلف علي لسان عبد العزيز "وجري في جسدي تيار بارد، وأحسست فداحة المسؤلية. فكنت كالجندي الغر فرضت عليه ظروف القتال أن يصرف أمر موقعة، كنت علي وشك أن أقول: ليتكم تركتموني أختار لنفسي، إذن لاخترت كلية الآداب. لكنني استرجعت كلماتي هذه ونظرت إليهما قائلا: والآن لابد من الوظيفة." وبالفعل ينجح في الحصول علي وظيفة ناظر زراعة في عزبة الأستاذ فريد وهو أديب كبير يعيش مع بنتيه في القاهرة ويأتيان إلي العزبة في أيام الأجازات. ثم تنشأ علاقة حب بين عبد العزيز وابنة الأستاذ فريد الكبري أميرة كانت بداية لكثير من العذاب لهما معا. ففي البداية لم يستطع عبد العزيز التصريح بهذا الحب ولكن خادمته زينب والتي كانت تحبه هي الأخري حبا يائسا تضحي بنفسها وتقرب بين الحبيبين. ويضحي الأستاذ فريد بسعادة ابنته وكان قد استشعر العلاقة بينها وبين عبد العزيز ولكنه في نفس الوقت أراد أن تتزوج ابنته من ابن أخيه الفتي المدلل وفاء لذكري أخيه. وفي فراش المرض يصر الأستاذ فريد أن تعده ابنته أن تتزوج من ابن عمها ففعلت خوفا علي أبيها وبعد موته ضحت هي الأخري بسعادتها وفاء لذكري أبيها. وتنهي علاقتها بعبد العزيز عندما جاءها يعرض عليها الزواج بالقطيعة، "هبت قائمة وأدارت ظهرها إليه كما تستدير إعصارا ثم التفتت لفتة قصيرة وهي تغادر مكانها وألقت عليه عبارة خيل إليه أن أرجاء الغابة اهتزت لها .. – لن أستطيع .. غير ممكن أن أتزوج رجلا .... – فأكمل وهو ساهم مأخوذ.. رجلا فقيرا." بهذا المشهد الحزين انتهت العلاقة بين عبد العزيز وأميرة وظل هذا المشهد حاضرا في ذهن عبد العزيز فترة طويلة حتي بعد أن صار غنيا وأديبا مشهورا، وعلم في فترة لاحقة أن أميرة كانت تحبه ولكنها آثرت تنفيذ وصية أبيها.
يلجأ الروائي غالبا في الروايات الوجدانية إلي التحدث بصيغة المتكلم وهذا التكنيك الروائي يتيح للمؤلف أن يدخل إلي أعماق الشخصية مصورا انفعالاته وأحاسيسه ويتحدث أيضا علي لسانها بتأملاته وأفكاره الخاصة. يقول عبد الحليم عبد الله علي لسان عبد العزيز بطل روايته: "هذا أنت يا صديقي تري أن موكب الحياة قد يلفظ أناسا فيتخلفون عنه وهم في مقتبل العمر، فتجيش نفوسهم بآمال مختلطة يتحقق بعضها ولكن العظيم منها هو ما تبخل به علينا دنيانا. طلبت المال فوجدته، وطلبت الشهرة فنلت منها ما يرضيني، وأحببت الأسرة فأقمت دعائمها وأحطت وجودها. وكانت هذه كبريات أماني وتسألني اليوم بعد أن غربت شمسي ولم تبق لي من الحياة إلا آثار نور يرسلها الشفق وحده علي أفقي، تسألني: هل نلت كل ما تتمناه؟ فأقول لك: إلا شيئا واحدا أعده اليوم أعظم أماني جميعا .. الولد .. الولد. هل تتصور أنني أحسد حامدا وأتمني أن لو كان لي مثل حظه، حين أسمع تصايح أولاده بين الحقول وفي باحة الدار. معذرة يا صديقي كأننا لا نفهم حقائق الاماني إلا في أخريات العمر. بعد أن لا يبقي لنا من آثار الحياة إلا النور الذي يرسله الشفق وحده. أعني بعد الغروب."
شمس الخريف:
ونأتي إلي ختام الرحلة ورواية "شمس الخريف" وهي أيضا تنتمي كالروايات السابقة للمرحلة الوجدانية وتصور الشقاء المادي والعاطفي لبطلها مختار متتبعا حياته منذ الطفولة حينما كان تلميذا فاشلا في دراسته يعيش مع أمه في منزل بالإسكندرية ويتطلع لصورة أبيه المعلقة علي الحائط وكان يشبه لحد كبير الزعيم مصطفي كامل الذي حدثهم عنه مدرس التاريخ بالمدرسة، هذا الأب الذي فقد تجارته وتشرد في البلاد وعمل سمسارا وعاد لموطنه خائر القوي ناضب المال ولم يلبث أن مات بعد قليل تاركا مختار وأمه في حياة كلها بؤس وفقر وشقاء. في هذا الجو من الحزن والحرمان عاش مختار يعاني من فشله الدراسي وعلاقته الفاترة بأمه فكان يهرب عصر كل يوم بدراجته إلي عزبة قريبة من الإسكندرية تسمي عزبة خورشيد تاركا نفسه لأحضان الطبيعة والحب. وهنا تتجلي مقدرة عبد الحليم عبد الله الروائية ككاتب وجداني في تصوير حالات القهر العاطفي، يرسم ما يحتدم داخل النفس الإنسانية ككقدرته علي رسم الملامح الخارجية للشخصية مازجا كل ذلك بمظاهر الطبيعة فتبدو وكأنها بنيان واحد متكامل لا تنفصل أجزاؤه. يتعرف مختار علي أسرة ريفية بسيطة وهي أسرة عم خليل ويحب ابنته سكينة وأخيها البسطامي الصغير. يذهب مختار كل يوم لهذه العزبة فيغسل روحه من متاعبها في هذا الجو العاطفي الجميل ولكن قانون التغير الذي يجري علي الأشياء يفعل فعله .. فيتغير كل شئ .. تتزوج أمه من مدرس يدعي عباس أفندي ويهجر مختار أمه و يودع حبيبته في عزبة خورشيد ويحمل صورة أبيه ويذهب إلي القاهرة ليعيش مرحلة أخري من مراحل البؤس والشقاء، ينام في اللوكاندات الرخيصة والمساجد، يعمل كاتبا في لوكانده وعاملا في مصعد وساعي بريد، وعندما تستقر حياته شيئا ما وتروق لياليه يتعرف إلي السيدة ف المدرسة في إحدي إصلاحيات البنات ويعيش معها قصة غرام عنيف ولكن قانون التغيير يجري عليه مرة أخري فتخبره في إحدي رسائلها بقصتها .. وكيف كانت زوجة أوقعتها الظروف في طريق شاب مخادع خانت معه زوجها ولكنها هجرته وهجرت زوجها وختمت الرسالة قائلة: "يخيل إلي أن كل شئ بيننا قد انهار فترفق بي إذا اعترضت أفكارك .. إن الأقدار تناوئني بما لا تحتمله امرأة مثلي. فلماذا جعلتنا نلتقي." عاد مختار لحياة العذاب والقلق وتمني أن لو ماتت السيدة ف قبل أن تكتب له اعترافها ثم عاد إلي الإسكندرية وعزبة خورشيد. في عزبة خورشيد يعلم من الحاج عبد المجيد البدال أن عم خليل قد مات وتزوجت سكينة في مدينة أبو المطامير وانتقلت إليها مع أمها وأخيها البسطامي الصغير. أردف الحاج عبد المجيد البدال بعد أن نقل إليه هذه الأخبار: "سبحان من يغير ولا يتغير". وفي الإسكندرية وجد أن كل شئ تغير أيضا .. أصبح لأم مختار ابنا آخر هو عباس الصغير ولم يدخل مختار بيته في الإسكندرية وذهب لكفر الدوار وأقام بها بعض الوقت وكانت بمثابة فترة نقاهة روحية أحس فيها بالراحة. وعاد للقاهرة وقابل السيدة ف مرة أخري وغفر لها وتزوجها وأنجب منها ابنه الوحيد وحيد. وتستمر الحياة ويفعل قانون التغيير فعله فتمرض السيدة ف فيذهب بها إلي مصحة ويذهب بوحيد لكافلة له في الجيزة وتتوزع حياته بين زوجته وابنه وعمله وتسوء حالته النفسية والمالية ويذهب للمصحة فيجد زوجته تودع الحياة وعندئذ يلقي نظرة علي شمس الخريف المائلة للغروب ويسترجع بخياله صورة المريضة فتبدو هي الأخري كشمس مائلة للغروب. لم يكن هذا المشهد الحزين هو نهاية القصة ولكن يأخذنا المؤلف لمرحلة أخري حيث يكبر وحيد ويصبح طبيبا وينتقل مع أبيه لحي من أحياء القاهرة الراقية ويذكرنا أيضا حتي في لحظات السعادة بقانون التغيير الذي يجري علي الأشياء فيقول في نهاية الرواية: "كنت مستلقيا علي فراشي راقدا علي ظهري. أحلم وأنا يقظان بذكريات الخريف. وما أكثرها وما أقساها. وألقي نظرة مرة إلي اليسار ومرة إلي صورة أبي فأذكر ما قد لقينا معا وأنا في مقتبل العمر. ثم أذكر المتاعب وكيف أن مرارتها في الذكري تضحي في بعض الوقت حلاوة محبوبة. وجلت في مراحل العمر كلها فحمدت الله. ذلك أن صفقة واحدة هي صفقتي في ابني ربحت فعوضت الخسائر. إن ضحكة واحدة من شبابه المونق كفيلة بأن تجفف نهرا من دموعي .... ثم ثقل النوم وأحسست كأن أنامل ثقالا تضغط علي عيني وفتورا يسري في العظام فاستسلمت. وجعلت شريط الماضي يمر أمام عيني قطعة قطعة حتي ذكرت قانون التغير الذي يؤمن به عامة الناس، حتي الحاج عبد المجيد البدال الذي قال لي وأنا جالس في ضحي يوم من الأيام في دكانه بعزبة خورشيد "سبحان من يغير ولا يتغير" ، فهتفت بصوت لم يخرج من شفتي: "أجل .. أجل .. سبحان من يغير ولا يتغير".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه