الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الطحونة المسحورة-

عادل امليلح

2020 / 8 / 16
الادب والفن


ما إن يقبل زائر ما على مدشار العناثين حتى تترأى له حقول الزيتون الكثيفة تنتظم في دوائر راكبة سفوح الجبال والتلال على مد البصر، أشجار شاهقة معمرة لمئات السنوات، وأخرى صغيرة زرعت حديثا.. هكذا تمتزج أجيال الزيتون هنا، تحمل رواسب الزمن وعلاقة الإنسان العناثي بمجاله الجبلي، هذا الامتزاج ولّد مجموعة من الأحكام.. فالزيتون المعمر الذي يعكس حكمة الأجداد وإن قلت غلته، فزيتونه مكتنز وزيته وافر، لا يبخل على أحد.. عكس الزيتون الجديد "زيتون الدولة" الذي يكون عطائه من الزيت أقل، فهو شحيح.. وهذا الحكم لا يقتصر على الزيتون وحسب بل إنه يمتد إلى كل شيء هنا.. فالمعاصر مدان بنقص الجودة وقلة العطاء، وتهديد الإرث ومعاداة الأصول والدين، وكأنه بدعة.. عكس القديم الذي يشكل أساس العطاء وتمسكا بالصالح، هذا ما لاحظه الوافي عندما اكتشف أن العديد من أهل المدشار يدينون كل شيء جديد لسببين، اعتقادهم أن ذلك يتعارض مع الدين وتقاليديهم ويفوق فهمهم.. وثانيا، يؤدي لبروز نخبة منهم تتسلط عليهم مع عدم قدرتهم على توظيفها، لعوز في مواردهم ونذرتها..
عندما يقترب موعد جني الزيتون تتوجه لالة علالة راكبة حمارها إلى حقل القصب في الوادي.. لتقطع ما يلزمها من قصب تستخدمه في جني الزيتون، وفي ذهنها تحاول أن تحدد عدد القصب الذي يلزمها لتلك المهمة، أربع حزم وفي كل حزمة ثلاثين قصبة!! إذ تقيس ذلك على السنة الفارطة وما قيمته من كلام زوجها سي العربي حول غلة هذه السنة، لكنها أيضا تتوخى الحيطة والحذر، لأن القصب موطن الخنزير البري.. هذا الكائن الذي له حكايات عديدة مع أهل المدشار تقشعر لها الأبدان وتدنو لها الرقاب، فسي العربي ما يزال يذكر ذلك اليوم الذي اعترضه فيه خنزيرا بريا بالطريق عندما كان عائدا بغنمه من المرعى، وتسبب في كسر ساقه الأيمن، ولكنه ما ينفك يقول: إن ذلك أكثر ما يمكن لرجل شجاع أن يحققه مع خنزير بري، خاصة إذا كان "فرديا" أو كما يسمى هنا "الفردي" .. لكن من الناذر مواجهة خنزيا بريا هذه الأيام، نظرا لتقلص الغابة المحيطة بالمدشار بسبب الحرائق المتكررة وتوسيع الناس لأرضهم على حساب الغابة، ولم يعد يشاهد إلا ناذرا في موسم التين.. ورغم ذلك فقد وجد عدة مرات في حقل القصب بحسب ما حكى بعض الناس الذين عاينوه ليلا هناك، واستدلوا على وجوده من خلال الخدوش والأثار التي تركها فوق الرمل، حيث يسعى خلف البصليات المموجودة هناك، ولكثرت جحور النمل.. ولذات الغرض يتبع علالة ثلاثة كلاب "بلدية"، شرسة لها خبرة في التعاطي مع الخنزير البري.. وحمارها الأشهب ينذرها بشهيقه بمجرد ما يحس بوجود حيوان قريب حتى لو كان فأرا.. تسير علالة لنصف ساعة نازلة الجبل في اتجاه الوادي، حيث يمتد الطريق الوحيد والضيق، الذي يقطع أحراشا تمتد على كل أطرافه من قمة الجبل إلى قدمه.. إنه فصل الصيف وهذا شهر غشت بحرارته الصيفية الحارقة، ولكن علالة تقي نفسها الحر من خلال قبعتها الكبيرة، ومئزرها الصوفي الذي يعد واقيا من الشمس، إذ يقال هنا أن ما يقي البرد يقي الشمس..
لكن الحمار العجوز الذي لم يعد يقدر على السير كما كان.. إلا إذا انهالت عليه علالة بهراوة خشبية تحملها في يدها، وما تتوقف على سبه وقذفه بكل الشتائم والأوصاف.. ورغم ذلك فما إن تسهو عنه حتى تتباطأ حركته ويسير يقطف من عرائش الأشنات على الطريق، عندما تصل علالة وتقترب من المقصبية ينتابها خوف من شيء مجهول، ذكرياتها تستعيد كل ما يقال.. عن هذا المكان الشاسع الذي يحتضن قصبا كثيفا يشكل ملجأ للغربان وطيور المالك الحزين... وتسود فيه الأفاعي الكبيرة التي يقدرها البعض بالأمتار، وبسمك يثير الخوف والدهشة.. وتارة يبالغون في إضفاء نوع من الوحشية عليها، فعلاقة الناس بالأفاعي علاقة عداء مستمر، ويستشهد الناس هنا سواء كانوا رجالا أو نساء بحديث نبوي يقول: "اقتلوا السم ولو وجد على قبري" لطالما عارض الوافي هذا وأنكر صحة ذلك، وقال: بأن الأفاعي ضرورية للحياة البيئية، فهي تقلل من الفئران والضفادع، ولكن لا أحد صدقه، فالحديث يدعمه الفقيه.. وعلى الرغم من أنه لم يثبث يوما أن أفعى لذغت شخصا هنا في مدشار العناثين، فإن الناس تخاف الأفاعي بشدة وبمقت ويبالغون في الحديث عنها بنوع من الخطر غير الواقعي...
تصل علالة حقل القصب وتربط حمارها إلى جذع شجرة الدفلة، ثم تأخذ منجيلا وتشرع في قطع كل قصبة تراها مناسبة لتستعمل في جني الزيتون..
في هذه الأثناء يخرج سي العربي ليجول في حقول الزيتون ويرى ما إذا كانت هذه السنة حملت غلة جيدة أم لا!! فها هو يلبس جلبابه البني وعمامته الزرقاء ويضع عكازه على كتفيه ثم يسند عليه يديه.. ويطلق العنان لصفير ينبض بروح رجل مرتبط بالأرض، ولحسن حظه التقى بجاره "سي المدني" الذي بدوره كان متوجها للأمر ذاته.. فما إن يراه سي العربي حتى يحييه..
- السلام عليكم سي المدني..
- وعليكم السلام
- إلى أين أنت ذاهب؟
- إنني فقط أمتع ناظري وأملأ خاطري مستشفيا غلة هذه السنة.. فمع هذا الشرگي سقط كل الزيتون..




يثني عليه سي العربي:
- ليحفظ الله هذه السنة إنها صعبة، نتمنى من الله أن لا يدوم هذا الأمر.. ويغثنا بغيثه.
- بدون مطر ستكون كارثة..
سرعان ما يسيران جنبا إلى جنب متناسين غاياتهم، ويتشعب بهم الحديث، ولعل قضية قرار الشيخ وسي الراضي بإعادة بناء مسجد جديد هو ما طغى على حديثهم.. وإن كان الجميع يتفق على ضرورة بناء المسجد جديد للمدشار إلا أن الجميع أيضا يختلف حول موقعه، فسي الراضي وطبقته التي تظم الفقيه والمقدم.. وبعض رجال المدشار، يريدون مسجدا بالقرب من مكان المسجد الحالي حيث توجد دار سي المرضي ودار الشيخ ليست ببعيد عنه.. في حين هناك طبقة تريد المسجد قرب الشارع ليكون فرصة لخدمة المارين.. بينما سي العربي الذي داوم على مخالفة الراضي والاستقلال في رأييه.. يريد المسجد في "الكاعة" التي تشكل نقطة الملتقى بين العزابيين القاطنين الجدد والقاطنين القداما في المدشار.. ويدافع سي العربي عن قراره بشجاعة، لكنه ليس مثل الراضي فهو لا يثق بأحد، أما الراضي فلا ضير أنه يستطيع تعبئة الكثير من أهل المدشار لهذا الغرض.. وسرعان ما ينتقل الحديث إلى محاكمة أخلاقية للراضي ومن يقف في صفه..
تجمع علالة حزمتين من القصب بدل أربعة كما خططت، فقد أرجأت ذلك لفرصة أخرى، وبصعوبة تحزمها على الحمار وبينما تهم بالتحرك.. كادت تدهس أفعى بقدمها، ولكن للأقدار نجت، انتابتها موجة من الرعب والذعر الشديد وكاد قلبها يقفز من صدرها، وأخذت تبزق في سيلها وتردد "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم باسم الله الرحمان الرحيم" "بقوة جدنا سيدي زرواط بجاهه ورحمته.." وحركت الحمار بسرعة عائدة صوب المنزل.. ظلت علالة تردد واقعة الأفعى لأيام.. فما إن وصلت ورأت إبنها حتى قالت بعفوية:
لولا الأقدار لكانت أمك ميتة الآن.
- ماذا حدث؟ خير انشاء الله
- كنت سأدهس أفعى لم أرى مثلها في حياتي من قبل قط.. أفعى لا طول لها، قرناء باللحية..
- الحمد لله، إنهم لم يكذبوا حول أفاعي المقصبية..
إن هذا الخوف سرعان ما يمتزج بتصورات الناس، هنا ليضخم كل شيء لدرجة أن البعض يصل إلى حد تقديس تلك الأجيال..
أما سي العربي فلما عاد وحكت له علالة عن الواقعة، وسألته عن حال الزيتون قال:
- إذا استمر الوضع هكذا لن تكون هناك غلة، ((البركة)) وحسب، فالحيط وحده من جعلني امتص امتعاضي، أما فيما يخص باقي الحقول الأخرى كل الزيتون تقريبا سقط من شدة الحر..
لكن سي العربي ليس مثل الجميع، فهو يمتلك مخزونا من الزيت يكفيه لسنة أخرى مقبلة أو أكثر، ويخزنه في جرار من الفخار حفاظا على جودة الزيت، لكثرة ما يمتلك من أشجار الزيتون..
لكن في ذهنه أن يمزج الزيت القديم بالزيت الجديد ويبيعه في السوق، فالجفاف أثر على إنتاج القمح والكيف.. وبالتالي فغلة الزيتون هي الفرصة الأخيرة لسي العربي لتعويض الخسارة، وإن كان الناس هنا منشغلين بالأرض والزيتون وغيرها، فإن "الحمري" إبن أخ سي العربي يعيش عالمه الخاص مع جارته سمية، فهي همه وهوسه، وهي مبتغاه أيضا، يفكر فيها صباح مساء، وهي تعقد عليه أمالا كبيرا في أن يتزوجها ويخلصها من مشقة ما تلقاه في منزل أهلها.. والإعتداء المتواصل الذي تتعرض له من لدن أبيها وأخيها، فمنذ أن منعوها من متابعة دراستها بعد نجاحها في نيل شهادة الابتدائي، وهي تنظر إليهم بنظرة حاقدة، فقد بكت كثيرا إثر ذلك، إذ كانت رغبتها أن تصبح رسامة بعد إنهاء دراستها.. وسرعان ما تزداد مقتا عندما تتصفح دفترها الخاص الذي يعج بلوحات ورسومات جميلة من إبداع أصابعها المبدعة على الرغم من أنها لم تتلقى درسا واحدا في الرسم في حياتها، وتنتمي إلى عائلة لا علاقة لها بالرسم والفن، فأخوها الوحيد الذي يدرس في الجامعة كان يعتبر ذلك تفاهة، تارة تعكس أحلامها المفعمة بالفتوة، وتارة معاناة الناس هنا في المدشار مع مشقة الحياة في سبيل لقمة العيش، خاصة النساء فهن أشد معاناة في كل مكان.. فلم يكن بمقدور أحد أن ينافسها في ذلك، وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة لأستاذ اللغة العربية الذي اقتنع بأنها مشروع فنانة وظاهرة صاعدة في إقناع أبيها بالعزوف عن قراره، وحتى مساعي أمها وجدتها لالة فاطنة باءت بالفشل، فقد أخبرها زوجها ناهرا إياها:
إما أن تتوقف عن ذلك أو احزمي حقائبك، فغيرك كثير..
وقد أقسم أبوها سي الزياني ألا تطأ قدمها المدرسة مدام هو على قيد الحياة.. وحتى لو مات ستحمل سخطه معها إلى الأبد، فهو يستحضر كلام الفقيه بدقته ونبرة صوته، إذ طالما يردد:
فالبنت يجب أن تلزم منزل أبيها حتى يأتيها الله برجل صالح يعقد قرانه عليها، فالطيبات للطيببن.. وأن المدرسة تفسد الفتيات فيخرجون عن جادة الصواب.. وهكذا يرفض سي الزياني أن تتابع ابنته الدراسة كما فعل مع اخواتها السابقات، خوفا من أن تتسبب في فضيحة، أو تلمسها يد شيطان، بل هي أكثرهن حظا إذ تابعت دراستها الابتدائية.. وحتى قراره هذا يتماشى مع قرار ابنه عبد الوحيد الذي يدرس في الجامعة، فهو يؤيد أباه في قراره هذا، لأنه يعتقد أنه يعرف مصير كل فتاة تتابع دراستها..
فقد قال:
- لم أرى فتاة تتابع دراستها لا تخالف شرع الله، ومن يرسل ابنته للدراسة فهو يرسلها للفضيحة واذلال شرفه!!
ولذلك حقدت عليه هو وأبيها، ولم تجد من يواسها غير حبيبها السري الحمري، الذي وعدها بالزواج، وزين لها رحلة الحياة لحلو لسانه وسيعة خاطره، فوثقت به، وأعطته نفسها، أغلى ما تملك، ورغم ترددها وخوفها المتكرر، فلم تعي كيف وجدت نفسها بين أضلاعه في الخندق الذي يفصل بين منزليهما.. كانت هي في سن الرابعة عشرة من عمرها، طفلة يافعة بجسدها الممتليء وشعرها الأسود الدهان، وعيناها الزرقاوتان ووجهها الذي تصلب من شدة الحقد على غوائل الحياة، وقلما تبتسم، لكن عندما تفعل يتورد وجهها وتكشف عن سحر مبهج يسلب الألباب، وحينما ذاقت مراتب النشوة سرعان ما انتزعت رداء الخوف وأصبح كليهما يتحين الفرص في كل لحظة وحين، يوما بعد يوم، حتى أتى ذلك اليوم الذي ستفقد فيه عذريتها، ظلت تطلب من الحمري أن يلتزم بوعده لها ويستر فضيحتها، وظل هو على عهده لها لبرهة، لكن ذات يوم أخبرها بالحقيقة عندما سألته:
- الحمري لشهور وأنت تقول ستخطبني.. متى ستفعل ذلك؟
نظر إليها نظرة متفحصة وكأنه يراها لأول مرة..
ثم أطلق العنان لقهقته قائلا:
- ماذا أتزوجك؟
من أنت؟ هل فقدت عقلك!!
ظنت أنه يمزح معها، وإن لم تعهد منه مزاحا مثل هذا من قبل قط. سألته:
- أتضحك بهذه الطريقة في أمور جادة مثل هذه؟ أنا أتحدث معك جادة، ربما تكتشف فضيحتنا وحينها لن يرحمني أبي سيقتلني
- يقتلك، أو يتركك فأنا لا شأن لي بذلك إنها فضيحتك أنت، وقصة الزواج مجرد هراء وتخريف، نحن لسنا في سن الزواج أنت ماتزالين في الرابعة عشرة من عمرك، وأنا في الواحد والعشرين..
- وأين العيب في ذلك نحن نحب بعضنا، قلت إنك تحبني وتريد أن تتزوجني.. لماذا تقول لي هذا الآن؟
- أنت غبية، هل تصدقين ذلك بكل هذه البساطة، هل تحسبين نفسك في مسلسل تتركي أو مكسيكي؟
هنا تتأكد أن الأمر ليس على مايرام، وتطلق العنان لدموعها الغزيرة، وترى نفسها تسقط في هاوية لا حد ولا نهاية لها، ها هو الحبيب الذي قدمت له قلبها وأمالها وأحلاما.. قدمت له روحها وشرفها.. ينقلب عليها هو الآخر، ها هو ينكر عليها كل هذه العطايا التي هي أغلى ما تملك في حياتها.. واثمن ما تملك..
تنظر إليه في شفقة وبالكاد تستطيع رؤيته، فكل شيء من حولها يدور ويلتف بلا توقف، ثم سارت تبكي وتضربه ملء قوتها على صدره.. لعلها تطفيء خيباتها وانكساراتها، لكنه سرعان ما يمسك بيدها ويصفعها وكأنه يمتلك سلطة عليها مرارا وتكرارا، حتى تظهر طفوحات على وجهها الرصاصي..
ثم يبزق في وجهها ويلعنها للشيطان، لم تتصور مقدار هذا الحقد المدفون في قلب من أحبته، كل هذا في قلب ذلك السبيل الذي اعتقد أنه مكمن الحياة وجوهرها، أما هو فتابع قائلا:
أنا بريء من كل هذا ولا علاقة لي بك، هل تعتقدين أنني سأتزوج بعاهرة، ما أدراني أنني الأول والوحيد؟؟
هنا أغمى عليها، وأما هو فتركها وسار في حال سبيله كأن شيئا لم يكن...

وبعد ثلاثة أيام بدون طعام وفي حزن شديد وأسى عميق يكوي قلبها الرقيق، اتخذت قرارها بأن تضع حدا لحياتها،
فلم تعد هذه الحياة غير مأساة كبرى لا طاقة لها عليها، وقبل ذلك خطت بيدها رسمتها الأخيرة.. فتاة تنبعث من وسط بستان زاهي الزهر، تتوسطه شجرة كبيرة ورافة الظلال، وهي تلح بيدها مسترسلة الوداع..
تحينت الفرصة في يوم الأربعاء إذ ذهب أباها إلى السوق وأمها لجلب الحطب وأخاها لرعي الغنم وظلت وحيدة في المنزل.. واتجهت صوب شجرة الزيتون بالقرب من الرحى، ثم وضعت حدا لحياتها.
وهنا تبدأ اللعانات والمواساة معا، فأن تموت في المدشار منتحرا معنى ذلك القنوط من رحمة الله، والفقيه منع صلاة الجنازة عليها وحتى أنه رفض غسل جثتها من طرف أحد ما.. وهكذا رفضها الجميع لأنها ببساطة لم تكن تنتمي إلى هنا، إلى هذا العالم الذي لا يفلح سوى في محاكمة قتلته وضحاياه باسم السماء.. فحتى في موتها تجادلوا حول مصيرها.
وفي النهاية بكت أمها ووبعض أخواتها، أما أباها الذي حزن للفضيحة، موت أحد أفراد العائلة منتحرا أكثر مما حزن على إبنته، فلن يفهم الأمر إلا بعد مرور سبع سنوات عندما وجد دفترها بالصدفة وسار يتصفحه، فهنا أدرك ظلمه لها.. وتذكر كل ما فعله معها ليركبه ندم شديد.. لكن سرعان ما إنتهى وتبخر في مشقة الحياة القروية.. وأما الحمري فليلة من المجون مع زملائه في مقهى الراضي كان كافيا ليقنعه بأنه كان على صواب، وأن الرجولة والشرف يفرضان عليه ذلك، وهكذا نساها ونسى ماكان له معها، بل إنه لم يفكر حتى في أن يكون جزءا من هذه الجريمة.
تحين اللحظة الحاسمة، بالنسبة لأهل المدشار، فها هو قد حل موسم جني الزيتون، فالأمطار الأخيرة ساعدت على انقاذ ما تبقى من غلة.. وجعلت الزيتون مكتنزا، وبالتالي فعلى الرغم من أن الوضع مختلف عن سابقه، إلا أن الأمر لابأس به بشروط هذه السنة، وفي مثل هذه الظروف يتوجه سي العربي نحو السوق فيشتري ما يلزم من لوازم وأكياس التي سيضع فيها الزيتون.. وهناك يلتقي مع أصدقائه وأحبابه من مداشير أخرى، ولا حديث للكبار في السوق غير الحديث عن الزيتون وغلة هذه االسنة، والكل يتحدث عن الضرر الذي ألحقه الشرگي بالزيتون وباقي المزروعات عموما.. فيقول المعطي:
- لا شيء هذه السنة، عليك أن تجمع غلة فدانٍ من الزيتون ولن تملأ كيسا واحدا حتى، فبعض أشجار الزيتون تكاد تكون خاوية على عروشها، فقط بعض الثمرات المتناثرة هنا وهناك عبر عرائشها المصفرة..
وكذلك يقول السمسار:
على الرغم من حرثي للزيتون واعماره واستخدام السماد له، إلا أن الشرگي تسبب في تلف فدادين بجملتها، بإستثناء بعض الشجيرات الممتدة في المروج..
يتواصل الحديث وكل يشكوا معتمدا في ذلك حقله كقاعدة للحكم على السنة والموسم، على الرغم من أن مناطق أخرى بعيدة فيها العكس. فأصحاب الفرمات يقمون بسقي محاصيلهم وهي تنتج عبر الدوام.. ليس الأمر شبيها بما يقع هنا، موسم يكون أقل من موسم أخر.. هذه الأخبار تدعم كلام سي العربي الذي يظل يردد ذلك على أسماع أهله وأصحابه في المنزل وفي المسجد وأينما صادف من يمكن أن يتحدث معه، لأن الحديث هنا استجابة عفوية لتوالي المواسم والاحداث، ويتم الحديث عن كل شيء منفصلا عن الآخر.
تتفاوض علالة مع زوجها العربي، من أين سيكون البدأ في جني الزيتون؟
- تقول له علالة: لنبدأ من المرجة، فهي بعيدة، بالاضافة إلى انها كبيرة، وبالتالي فجني زيتونها في البداية سيوفر لنا الكثير من الوقت والجهد،
يقول سي العربي: المرجة منطقة ظليلة وزيتونها مايزال أزرق لم ينضج بعد، لقد زرتها قبل أمس، لن ينضج زيتونها من هنا إلى الشهر القادم، الأجدر أن نبدأ من الكذية، وننهي تلك الأشجار التي تتدلى على المنحدر، فهي صعبة وغلتها قليلة، وبما أن علالة شاخت وسارت عجوزا لم يعد بمقدورها تحمل مشقة جني الزيتون فهي تقدم لسي العربي لالة شريفة كمساعدة لها في جني الزيتون..
ما إن يحل الصباح حتى يجهز سي العربي بغاله وخاصة الحراث بغله المفضل، ويحمل عليه ما يلزم من مستلزمات جني الزيتون من قصب وأفرشة وكذا من أكياس وطعام، وتستعد علالة، فتحضر لالة شريفة بحمارها، ويركب الجميع متجهون نحو الحقل، في الطريق لا يطيب لسي العربي خاطر إلا أن يحكي عن خواطره ويفتح الحديث، عن موسم جني الزيتون في السابق، وعن صعوبة ذلك خاصة مع الخنزير، فقد كان الإنتاج كثيفا وكان موسم جني الزيتون يتزامن مع تساقطات مطرية غزيرة، لكن رغم ذلك كان الخير وافرا، ويمتد النقاش للنهار بطوله الذي يمتد حتى ما بعد المغرب، تمضي الأيام ثم الأسابيع وتتحول إلى شهر ونيف وهنا تكون لالة علالة قد جمعت غلتها من الزيتون الذي يتراسى في أكياس وسط المنزل، وتحين الخطوة التالية وهي عصر الزيتون، فعلى الرغم من توفر معصرة حديثة بالمدشار تعود لملكية أحد المستثمرين من خارج المدشار وهو سهر سي الراضي.. إلا أن سي العربي كما علالة وكما الكثير هنا، فالمعصرة العصرية تفسد طبيعة الزيت وجودته، ويميز سي العربي "زيت الما" الذي يتم إنتاجه بطريقة تقليدية في الرحى أو الطحونة عن الزيت التي يتم إنتاجها في المعصرة الآلية لا من حيث مذاقها ولا من حيث جودتها.
قرب منزل سي ميمون تتراسى رحى حجرية قديمة ذات لون رصاصي، عجلة من الصخر تقف في وسط حوض دائري من الإسمنت تمتد من محورها قطعة حديدية في اتجاه الخارج، وبقربها توجد حفرة مسيجة تسمى السهريج، وبالقرب الرحى توجد شجرة زيتون ورافة الظلال الشجرة ذاتها التي إنتحرت فيها سمية منذ ثلاثة سنوات.
وبما أنها الرحى الوحيدة في المدشار فلابد من استعمال النوبة، فكل ينتظر يومه ليعصر زيتونه مقابل خمسة لترات من الزيت يحصل عليها صاحب الرحى، عندما يحين دور سي العربي يحمل هو وابنه أحمد أكياس االزيتون، ويتم صبها في الرحى تبعا، ثم يربط حماره، إلى الدراع الحديدي ويسير يأمر الحمار بالتقدم، ضاربه حينا وناعلا إياه حينا أخر.. ويتناوب عليه هو وإبنه، تلتحق بهم علالة عندما تحضر وجبة الغذاء.
في المساء وعندما يتأكد سي العربي أن الزيتون تم طحنه جيدا، يفك عقال الحمار الذي استبده التعب وتبلل جسده من شدة العرق..

وهنا ينطلق سي العربي بمساعدة ابنه أحمد في نقل الزيتون وصبه في السهريج المليء بالماء، وما إن ينتهوا تشمر علالة على ساقيها وتلج السهريج، وبواسطة خرقة صوفية تبدأ في جمع الزيت، فكلما حركت بقدمها الرواسب في السهريج صعدت بقع كبيرة من الزيت تطفو على السطح، وتبدأ في جمعها بواسطة الخرقة وعصرها في سطل بلاستيكي.. أما سي العربي فيلج أصبعه في السطل ثم يتذوق الزيت، إنه زيت حلو وطبيعي، هكذا يقول.. تستمر العملية رويدا رويدا..
ينهي سي العربي دوره وينتظر أن يحين الدور الثاني ربما بعد أسبوع من الأن أو أقل، وهنا يأتي دور العابدية، امرأة في عقدها الخامس، لا ينظر لها بعين الرضا في المدشار، فهي امرأة تسرق ما للأخرين، وبالتالي فحتى الزيتون الذي تطحنه يقال إنها تسرقه، على الرغم من أن زوجها يمتلك بعض حقول الزيتون، وعلى أي فالعابدية أيضا ترى كثيرا عند الفقهاء وضاربي الخط والمشعوذين والحليقية في السوق، فارتبط إسمها بالشعوذة والسحر، ويقال أنها تسببت بموت ثلاثة أبناء لها وجنون الرابع بفعل ذلك، وأن ابنتيها سائبات في المدينة.. وعلى الرغم من كل ذلك هي لا تكترث حيال ما يقال ولا تعتزل الناس في أفراحهم وأحزانهم، ولا تتوارى منهم في الطريق، غير أن الأطفال يخافونها، وكثيرا ما يتجنبون أكل خبزها وطعامها بسبب الوصايا والوعيد من ذويهم، بأن العابدية ساحرة، وسارقة أطفال.. عندما تطحن العابدية زيتونها، يحين بعدها مباشرة دور سي العربي، إذ يخبره سي ميمون بذلك، فيعد العدة ويجهز نفسه، عندما عصر سي العربي زيتونه لم يحصل سوى على نصف الزيت الذي حصل عليه في المرة السابقة.. وتحت حديث علالة المليء بالشك والريبة، إذ قالت لسي العربي:
- ما أشح زيت هذا اليوم لم أشهده في حياتي!!
يرد سي العربي:
- لعله زيتون الدولة، فهو دائما شحيح في زيته وإن كان يغري بعطائه..
- لا حتى لو كان زيتون الدولة أو "اللقمة" فهو لم يكن شحيح لهذا المستوى
- لنحمد الله
- يجب أن أعرف من عصر زيتونه هنا أمس.
- ولماذا؟ ما شأننا بذلك؟؟
- ربما أعابت زيتنا عيون الحسد والحقد..
تستفسر علالة عن ذلك وتدرك أنها العابدية.. وما إن تسمع اسمها، ودون تفكير يتباذر إلى ذهنها وبشكل مستعجل سيل من الذكريات حول هذا المخلوق..
إنها هي ولا ريب هكذا قالت.
وبدأت الشكوك تتسرب إلى سي العربي هو الآخر لما له من رصيد حول هذه المرأة.
- قالت علالة: لقد سحرت الطحونة وهذا بديهي، فأعابت عطائها علينا، يا لا عيون الحسد والحقد عند هذه المرأة!!
هذه الظاهرة يحكى عنها تقرييا في كل موسم جني الزيتون، وتحدث مع مجموعة من الناس في كل المداشير، وليس فقط فيما يتعلق بالطحونة بل أيضا بعطاء البقر من الحليب وجودته.. فغالبا ما يؤدي أي تغيير في طبيعة الحليب ومذاقه وكميته إلى الإعتقاد بظاهرة السحر، فهناك أناس مثل العابدية لن يهنأ لها خاطر حتى تتسبب في إفساد كل شيء.. وهنا تبدأ علالة في ابداء تخوفها أمام زوجها سي العزبي، تقرل له معلنة عن تخوفها: إذا لم نفك هذا السحر سيكون لذلك أثرا كبيرا على محصول الزيت لهذه السنة.
- كيف ذلك؟؟
- سمعت خدوج تقول أنه وقع لها الأمر ذاته عدة مرات، فهي كما تعلم جارة العابدية ولها خصومات دائمة معها، لكنها تمكنت من الحصول على تعويذة من فقيه شريف من قبيلة "البطاين" ، يقال إنه فائق البركة وواسع الحيلة ويعرف سبل فك كل سحر وعقد..
- ربما يبالغون في ذلك، يكفي قليلا من التراب من روضة سيدي زرواط وتفك العقدة باذن الله..
- لقد جربت لالة خدوج ذلك ولم يفلح، فسيدي زرواط يشفي السعاروالحكة والسحر المرتبط بالزواج.. فلا سبيل لنا غير هذا الفقيه، عليك أن تذهب إليه..
- حسنا بعد غذ إن شاء اللهُ سآخذ الحراث وأتجه إليه عله يأتي الفرج.
يصل السي العربي راكبا بغله الحراث إلى قبيلة البطاين ويشرع في السؤال عن مدشار أولاد عباس، وسرعان ما ينعت له الناس مكان المدشار، ومن بعده يتعرف على منزل الفقيه الشريف، إنه المنزل الوحيد الذي بني من الإسمنت في هذا المدشار، ويتكون من دورين اثنين، يقع على قمة تل في وسط المدشار إلى جانب بعض المنازل التي بنيت من الطين، وبجواره توجد قبة ضريح من القش أو السقف كما يسمى هنا، يصل سي العربي ويجد مجموعة من الحمير والبغال مربوطة في جذوع أشجار الكاليبتوس المحيطة بالمنزل، يفعل الأمر ذاته إذ يربط بغله إلى أحد الجذوع، ويحمل عكازه في يده تحسبا لوجود كلاب شرسة، ثم يطرق الباب بقوة..
تفتح له فتاة شابة ما تزال في ربيعها الخامس عشر أو السادس عشر هكذا قيمها سي العربي، ليست جميلة تماما ولكنها مفعمة بالأنوثة، فوجهها الباسم وصدرها البارز ينمان عن نضج وبلوغ سبق أوانه، على الرغم من أن ذلك لا يثير عند سي العربي الرجل الورع قيد أنملة، فهي في نظره مجرد طفلة لا أقل ولا أكثر..
تفتح الباب، وتستفسر منتظرة سي العربي أن ينبس بكلمة!!
- هل هذا هو منزل الفقيه الشيخ با علي؟؟
- نعم هذا منزله وأنا ابنته الزوهرة.
- أخبره أن رجلا من دوار العناثين يريد رؤيته.
- ادخل وانتظره في الداخل، فهو مشغول قليلا..
ما إن يلج سي العربي المنزل حتى يجد في الردهة قرابة ثمانية أشخاص، ستة نساء ورجلين، كل ينتظر دوره.
يقطعون حديثهم عندما يرون سي العربي الوافد الجديد.
يسلم عليهم سي العربي، وتقدم له الفتاة مقعدا ويجالسهم، ثم يعود الحوار إلى سابق عهده،
رويدا رويدا ينخرط سي العربي في النقاش ويكتشف أن هناك امرأتين أتين للغرض ذاته، بينما البعض تكتم حيال وجوده هنا!! ربما لهم غايات مختلفة، فالفقيه هنا ذو وجهين.. وتتحدد ادواره بغايات كل واحد أو كل زائر يقصده، فيمكن أن يضرب الخط لمنع الزيت، ويمكن أن يضربه لفك ذلك.. لعل تعاويذ العابدية تخرج من هنا، ولعلها جلست على المقعد ذاته الذي يجلس عليه سي العربي الأن، ولكن لا يدور ذلك بخلده..
يأتي الدور على سي العربي ويلج غرفة، مفروشة بأرائك عصرية مختلفة الألوان، وفي الحائط توجد عدة لوحات زجاجية تحمل آيات وصور قرأنية.. وأحاديث نبوية شريفة.. ثم أخرى للحرم المكي وبيت المقدس.. هنا في الطرف الأعلى من الغرفة يجلس الفقيه على الأريكة، رجل شيخ بلحيته البيضاء، وجلبابه الوزاني الأبيض، وشعره المصفف إلى الخلف الذي ينطلق من وسط رأسه النصف أصلع، يمسك في يده سبحة، وتنبعث في الغرفة رائحة المسك مختلطة قليلا بالكافور، وأمامه طاولة، كل ما يوجد عليها مصحف وبعض الأوراق والحبر الذي يستخدمه في الكتابة، ليس لأمر بتلك النمطية التي اعتقدها سي العربي.. أحس سي العربي بالرهبة في حضرة هذا الرجل الذي تدل هيئته على النعمة.. ويبرق وجهه البياض والداهن.. فوجهه يكفي لقطع الشك باليقين.. فقد اعترف السي العربي أمام زوجه علالة أنه لم يحس بالرهبة من أحد مثلما احس بها أمام ذلك الشيخ، فحتى المخزن لا يثير فيه تلك الرهبة، لابد أنه ولي من أولياء الله الصالحين..
يسلم عليه سي العربي:
-سلام الله على شيخنا.
يرد عليه في ابتسامة تبعث على الطمأنينة والسرور.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلا بك في منزلنا.
- جزاك الله عنا كل خير
- ماذا تطلب سيدي الكريم؟؟
- جئتك من مدشار العناثين.
- مدشار أبناء سيدنا زرواط "الحراث على الثور والسبع" ببركته وبركة كل الأولياء والأنبياء والمرسلين..
- جئتك قاصدا لما سمعت عنك وعن بركتك، لقد قمنا بعصر الزيتون في معصرة تقليدية، واتضح أنه كان شحيح الزيت، واستغربنا أنا وزوجتي، فلم يكن حظنا من الزيت في كل يوم طحين أقل من ضعفين مما حصلنا عليه، وعندما استفسرنا قيل إنها عين حسود، وقلب حاقد وفعل شرير.. ولذلك سألنا أهل التجربة وأخبرونا بمقامكم..
- جئت عند المقصد الشريف.. وخير ما جئت.. فجنود الشيطان في كل مكان بعضهم جنيون وآخرين أخطر انسيون، يتربصون بالناس ليفسدوا عنهم الخيرات وهناء الحياة، ولكن مهما طال الشر سينتصر الخير..
- نعم يا شيخنا وفقيهنا، فالله يبارك الخير..
وهنا يقوم الفقيه ويتناول ورقة، ويحرك الدواية في قنينة الحبر ويبدأ في الكتابة بسرعة مبهرة، وهو يتمتم في كلمات غير مفهومة، وطوى تلك الورقة ثم لفها في قطعة جلدية وسار يخيطها.. وما هي إلا دقائق حتى إنتهى، وتفرس في وجه سي العربي، وقال له:
ستأخذ هذا الحجاب وتعلقه في عنقك قبل سبعة أيام من عملية الطحن القادمة، وسبعة أيام من بعدها.. وفي كل يوم تقرأ في الصباح والمساء بعض القرآن وهذا الدعاء "اشار له به"..
ولما إنتهى الفقيه من ارشاداته، وأحس سي العربي بانقضاء غرضه، أخرج سي العربي ورقة نقدية من فئة مائتين درهم وقدمها للفقيه الذي أمسك بها وادخلها تحت غطاء على الطاولة التي أمامه دون أن يتفحصها.
نهض سي العربي وعاد، وطبق الإرشادات بحذافرها، وهكذا عاد الأمر على ما كان عليه في السابق، في هذه المرة حصل السي العربي على زيت وافر، مما لم يعد يضع له شكا في بركة الفقيه، وهنا تاه خيال علالة، فليست قضية الزيت، بل هناك قضايا كثيرة كانت قد استعصت عليها، وعلى بعض الفقهاء، رأت أن حلها اصبح ممكننا مع هذا الفقيه الذي كانت لالة خدوج سبابا في معرفتها له.
وتحت شجرة الزيتون تدور ذكريات كل من سي العربي وزوجه علالة، حتى تنساب الذكريات إلى حادثة سمية، التي وضعت حدا لحياتها في هذه الشجرة.. يرفع سي العربي رأسه إلى أعلى شجرة الزيتون وينطلق:
- آه!! هنا وجدناها، كانت معلقة في ذلك الجذع، كان رأسها عاريا، وشعرها منسدلا على صدرها أسودا لامعا..
- المسكينة، تقول علالة
- لا مبرر لمن يقدم على مثل هذه الأفعال، فالمنتحر جزائه النار وبئس المصير، يؤكد سي العربي.
- نعم، لقد كانت فتاة حدقة، وكان اباها يرعاها ويوفر لها كل ما تريده...
- ولكن للأسف فضلت الطريق الخطأ.
يقول الوافي إن الناس هنا لا يميزون بين عيوب الجسد وأمراض النفس، لذلك فكل ما يهتمون به هو الجسد، وكل سلوكاتهم وتعابيرهم قاسية على النفس، فالعنف الرمزي يعد أمرا عاديا، وإن كان قوة هدامة، فلا أحد يعي تأثيراتها، فيتعرض الطفل لاشنع القدح والتجريح وغيرها..
لكن حكم الإنتحار هنا بسيط وواضح، فالمآل معروف، والسبب ذاتي إرادي، ورغم التخويف والترهيب المستمد من الشرع والعرف فهنا ينتحر الناس بكثرة، ولما سئل الفقيه حيال الأمر قال إنه الإبتعاد عن الله وطريقه المستقيم، وهذا ما يستغرب منه الوافي أيضا، قدرة الفقيه على تأويل كل شيء، وتفسير كل شيء، فهو المرجع الذي لا يخطئ، والسند الذي لا يشكك في مصداقيته، فيستمد ذاك من الرأسمال الرمزي الذي راكمه بتزاوج بين الزاويا والقبيلة، لكن الفقيه هكذا، قال الوافي.. إن المدشار هو حلبة يلتقي عندها سلطة الفقيه بالمقدم أو الشيخ في الحاضر، والضريح والعرف والشرع في الماضي، أما المستقبل فهو غير موجود، إنه ببساطة الموسم القادم الذي يختزن كل تطلعات الناس بأن يكون أفضل من الموسم الذي سبقه.. فماذا يريد إنسان المدشار غير ذلك؟ ماذ يريد الإنسان القروي من الحياة؟ تساءل الوافي..
إنه لا يريد منها شيئا كبيرا، إن الحياة يعيشها بشكل منفصل في كل سنة وفي كل موسم.. وهكذا فالسنة هي ما تشكل تصوره للحياة، إنه يريد "الصابة" الجيدة، والزيت الوافر.. كل ما يكفيه ليجعله يقضي سنة جيدة.. وغير ذلك لا يهم، النتائج هي الحكم لا تهم الأسباب، ويتمنى ألا يتصادم مع المخزن في رجالاته ومؤسساته، أو أن يكون موضع عين حسود، أو تسخط عليه السماء فتحبس عنه الرزق.. فهو يريد أن يترك لحاله وسبيله، في معترك هذه الحياة التي يحياها بكثافتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي


.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا




.. ياحلاوة شعرها تسلم عيون اللي خطب?? يا أبو اللبايش ياقصب من ف