الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زمن موناليزا الحزينة: الفصل الأول/ 1

دلور ميقري

2020 / 8 / 16
الادب والفن


الأعوام الخمسة الأولى من حياتها، لا تتذكّر " بَيَان " منها سوى مشاهدَ غامضة، أشبه بصوَر الفانوس السحريّ، الذي كان يأتي به رجلٌ غريب عن الحارة وذلك في أيام العيد بوجه خاص. لكن ذاكرتها، فيما عدا تلك الأعوام، بقيت على قوتها ومضائها في خلال العقود الثمانية التالية، ما جعلها ذخيرة لابنها الأوسط حينَ شاء تسجيل وقائع السلالة فيما يُشبه العمل الروائيّ. ولو أن الأم ـ وكانت شبه أمّية في حقيقة الحال ـ علمت بنيّة الابن، فإنّ من المرجّح ألا تسمح لنفسها بلعب دَور الواشي للأسرار العائلية. مع ذلك، لم تكن محرومة من الثقافة بشكل عام؛ وهذا كان بفضل رجلٍ اقترنَ بها وهيَ في السادسة عشر من العُمر.
أسرة بيان، كانت تنتمي للطبقة الوسطى، أو الميسورة بتعبيرنا المحليّ. وكان في وسع والدها أن يكون من الأغنياء، لو لم يكن متهوّراً في تبديد المال بكرمٍ حاتميّ وكذلك بمشاريع استثمار خاسرة: " بافي أوسمان " هذا، كان من الممكن أن يُدعى عصامياً في حالةٍ مخالفة، وعلى الأقل في بيئته الشعبية المتواضعة. لقد بدأ حياته العملية بأن ورثَ عن أبيه مهنة حوذيّ العربة المشدودة بالخيل، وكان مجال خدمتها بين حيّه الكرديّ وحيّ الصالحية المجاور. ثم استبدلها الابنُ بسيارة فورد، لما دخلت هذه الوسيلة من الموصلات مع الغزاة الفرنسيين في مستهل عشرينات القرن المنصرم. لاحقاً، سيغدو سائقاً لمهندس المدن، " ايكوشار "، براتب قدره تسعمائة ليرة. قريبه، " معمو "، كان يقضي الليل بطوله يجوب طرقات دمشق القديمة ـ كحارس ليليّ ـ في مقابل خمس وستين ليرة شهرياً، ناهيك أنه كان يعيل أيضاً عائلة من عدة أفراد.
بيد أن والد بطلة سيرتنا عُرف باسم أمه، " ابن شملكي "؛ وبالأحرى أن يرثَ عنها بعضَ الخصال. لقد كانت الأم عليمة في أمور الطب العربيّ، ماهرة في استخدام المغليات والنقوع، التي أساسها الأعشاب والزهور وأوراق الشجر. كانت تمنح معرفتها مجاناً، سواءً للأقارب أو الجيران. باستثناء فترة قصيرة، أعقبت وفاة رجلها وكانت في حالٍ عَسِرة لناحية تدبير أمور المعيشة. على عكس زوجها الراحل، وابنها فيما بعد، كانت حريصة على المال لكن من غير تقتير وشُح. غير ذلك، لعبت هذه المرأة دوراً أساساً في حكايتنا، طالما أنها هيَ مَن شجعت ابنها على الاقتران برابع زوجاته؛ بمَن ستنجبُ له بطلة سيرتنا. برغم ذلك، لا تكاد بيان تتذكّر من جدتها لأبيها سوى جلوسها وهيَ شبه عاجزة في أرض الديار في خلال أيام الدفء، توزع الأوامر على نساء ابنها إن كان لجهة النظافة والترتيب أو المطبخ أو الحديقة وغيرها من الأمور اليومية.

***
" حاجي "، كان العم الوحيد لبيان ويكبر والدها ببضعة أعوام. أيضاً ذكرياتها عنه محدودة، تكاد تكون في مشهدٍ واحد في حياته. كانت في سنّ الرابعة أو نحوها، عندما طلبَ منها أن تذهب إلى دكان " جروس "، الكائن في أسفل الزقاق، كي تشتري له لبناً: " ضمّي النقود بيديك، وإياكِ أن تفرديها "، أوصاها بحرص. بعد مضي فترة قصيرة، انتبهت والدتها لعدم وجودها في البيت. هنا، أخبرها حاجي أينَ أرسلَ البنت. فهتفت الأم جزعةً: " أهيَ في عُمرٍ يسمح لها بهكذا مهمة؟ ". ثم استطردت بنبرة مهددة فيما كانت تلف الملاءة السوداء على رأسها وملابسها، استعداداً للخروج من المنزل: " الويل لك، أيها الأخرق، لو جرى للبنت مكروه،! ". ثمة عند مدخل الزقاق، كان يوجد سبيل ماء، وقد وقفت بيان في مقابله تتأمل النساءَ وهن يملأن الجرار الفخارية من المعين العذب. على تلك الحال وجدتها والدتها، وقالت في براءة بينما تفتح قبضة يدها: " أوصاني عمي ألا أضيّع النقود، لكنني لم أدرِ ماذا أفعل بها ". لم يكن اعتباطاً، أن يوصفَ العم بالأخرق. إنه نشأ على شيء من التخلف العقليّ، وبقيَ إلى آخر حياته يُنظر إليه كطفلٍ كبير الحجم مثلما أنه لم يتزوج. لقد أنجبته أمه بعد نصف دزينة من الأولاد، رحلوا عن العالم في سن مبكرة بسبب الأمراض. كان ذلك بمثابة مفارقة بيّنة، بالنسبة لامرأة خبيرة بالطب الشعبيّ وتقدم خبرتها للآخرين. لكنها في حالة حاجي، كانت تُحيل الأمر إلى لعنة ربانية: رجلها، سبقَ أن أقسمَ لو استمر هذا الابن بالعيش أن يحج لبيت الله الحرام. فلما تحقق له ذلك، عاد إلى شرب الخمر بالرغم من هالة لقب الحاج، المسبوغة عليه.
المشهد الآخر، المترسخ في ذاكرة بيان عن العم الوحيد، جدَّ إبّان رحيله عن الدنيا. بضعة أيام على أثر تشييعه إلى المقبرة، ثم قدمت شقيقته " سلطانة " من الريف؛ ثمة، أينَ كان رجلها يخدم كوكيل أعمال لأحد الاقطاعيين المعروفين. نساء الدار، أتفقن على ألا يفاجئن المرأة بخبر وفاة شقيقها وأن يؤجلن ذلك للغد. هكذا عدن إلى أشغالهن، بينما سلطانة جلست في الحديقة للرحلة على أريكة هناك. بيان، كانت تلعب بين الأشجار حينَ طلبت منها العمة أن تأتي إليها. أجلستها في حضنها، ثم راحت تمازحها بالقول: " أتحبين والدك أكثر أم والدتك؟ "
" أحبهما كلاهما، يا عمتاه "، ردت الصغيرة. هنا، عادت سلطانة لسؤال ابنة شقيقها: " وعمك حاجي، هل تحبينه مثلهما؟ ". قالت بيان، مشيرةً إلى ناحية في الطرف الجنوبيّ الغربيّ للحديقة: " لقد رأيتهم يغسلونه هناك، في مياه المصنع ". فما كان من العمة إلا مقاطعة الصغيرة بصرخة ثاقبة، ثم الهروع مولولة باتجاه أرض الديار لتهتف من ثم بنساء شقيقها: " ماذا جرى لحاجي؟ هل مات حقاً؟ ".

* الرواية الأخيرة من خماسية " أسكي شام "








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع