الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عثمان أمين ( 1905 - 1978 ) و محمّد عده ( 1849 -1905 )

سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)

2020 / 8 / 17
الادب والفن


لم يرَ عثمان أمين محمّد عبده ، ولم يتّصل بينهما سبب ؛ فقد وُلد عثمان في السنة التي توفي فيها الشيخ ؛ لكنّه ، حين شبّ - وكان طُلَعةً نافذَ الذهن ، يريد أن يُحسن الإحاطة بما حوله – وانتظم في كليّة الآداب ، بقسم الفلسفة ؛ رأى أطيافاً من الأستاذ الإمام تخفق ، وسمع صدى من صوته يتردّد ، وأدركه ، بنحو ما ، في أستاذه الشيخ مصطفى عبد الرازق ؛ يقول مبتهجاً مسروراً : " وقد كان من حسن حظّي أن تتلمذتُ في الجامعة المصريّة على أستاذ مُلهِم نبيل – هو المرحوم الشيخ مصطفى عبد الرازق – وكان هو نفسه تلميذاً ذكيّاً وفيّاً للإمام محمّد عبده فاستطاع أن يشعل في نفسي وفي نفوس زملائي ذلك القبس الروحيّ الذي تلقّاه عن أستاذه من قبل ."
ولقد كان بين مصطفى عبد الرازق والشيخ محمّد عبده سبب متين ؛ كان الشيخ أستاذه ، وقدوته ، وكان موضع حبّه وإجلاله ، وكان من قبل صديق أبيه ؛ حسن عبد الرازق وصفيّه ، وصاحبه في حلْقة السيّد جمال الدين الأفغانيّ ؛ إذ كانا من أقرب الناس إليه ، وأشدّهم إعجاباً بشخصه وبفكره . وكلّهم كان في الجو العقلانيّ الذي أشاعه السيّد جمال الدين حين هبط مصر !
فلا غرو أن يعبق طيبُ الشيخ بأردان التلميذ ؛ حتّى إذا صار التلميذ أستاذاً ، واتّخذ مجلسه بين طلبته تفاوح الطيب القديم فرأى طلبته فيه ملامح من شيخه !
أحبّ الفتى عثمان أمين الشيخَ محمّد عبده وهو يراه في أستاذه مصطفى عبد الرازق ؛ فلمّا قُيّض له أن يُكمل دراسته العالية في باريس لم يكن له معدى عن اتّخاذ الإستاذ الإمام مداراً لها ، وأن يجعل عنوانها : ( رائد الفكر المصري الإمام محمّد عبده ) ؛ يقول في سياقة ذلك : كنتُ أصغي " لهاتف قويّ كان يلحّ عليّ ، الفينة بعد الفينة ، بأن أنهض لأداء واجبي الوطنيّ في غير ما توانٍ ، فأعكف على دراسة ذلك المفكّر العامل ، الذي قُدّر له أن يكون أصدق داعٍ للحريّة الفكريّة ، وأوّل رائد للحركة الإصلاحيّة ." وقد نهض بالأمر على أتمّ وجه ، ووضع كتاباً استوفى به حياة الأستاذ الإمام وفكره ؛ فيه علم وصدق وإخلاص ومحبّة !
قرأ آثار محمّد عبده قراءة المتأمّل المستوعب ، وقرأ ما كُتب عنه قراءة المتدبّر الناقد حتّى تكاملت عنده صورة قويّة واضحة للشيخ الإمام فأقام دراسته على أربعة أبواب تناول فيها سيرته ، وفلسفته ، ومذهبه في الإصلاح ، ثمّ اختتم الأبواب بأشعّة فكره ؛ وكلّ باب ينطوي على جملة فصول . وعنده أنّ الشيخ الإمام فيلسوف مصلح مجدّد ؛ نظر في الدين ، ونفى عنه ما علق به ممّا ليس من جوهره ، ودعا إلى أن يقوم المجتمع على أساس من متين الأخلاق ؛ وسبيله إلى ذلك ؛ التربيّة والتعليم . وهو رجل نظر وعمل معاً ؛ لا يستغني بأيّ منهما عن صاحبه ؛ فلا النظر وحده بكاف ، ولا العمل يستقيم من دون نظر قويم .
وقد جاءت الدراسة متينة البناء ، مشرقة الأسلوب ، قويّة النسج . وحين اكتملت ، ونال بها صاحبها شهادة الدكتوراه فرح الشيخ مصطفى عبد الرازق ، وكتب إلى تلميذه القديم : " صديقي الأستاذ الدكتور عثمان أمين ... ولقد رأيتُك تتخذ من الأستاذ الإمام موضوع دراسة تحفز لها كلّ همّتك ، وتُقبل عليها بكلّ قلبك ، وشهدتُ بعض عنائك في تتبّع المراجع ، وتمحيص النصوص ، واستقراء الآثار ، وحسن الانتفاع بذلك كلّه في الاستنتاج والحكم . ثمّ قرأتُ رسالتك لمّا أتممتها ، وكنتُ حاضر مناقشتها حين تقدّمتَ بها لنيل الدكتوراه ؛ فكنتُ من أشدّ الناس سروراً بك ، وإعجاباً بمصنّفك الممتاز ... مضى أربعون عاماً إلّا قليلاً على وفاة الأستاذ الإمام ؛ فكتابك الطيّب تحيّة الجيل الجديد من العلماء لمعلّم الجيل القديم ، وهي تحيّة كريمة تتأرّج بالحبّ والوفاء ، وأيّ شيء في الدنيا أكرم من الحبّ والوفاء ؟ "
لكنّ الشيخ مصطفى عبد الرازق لم ير الكتاب مطبوعاً ؛ فقد تعجّله الموت ، وذهب به قبل أوانه ، ولعلّ تلك الكلمة كانت آخر ما كتب ! وحين يصدر الكتاب بُعيد وفاته يستهلّه المؤلّف بهذا الإهداء : " إلى روح أستاذي الفيلسوف الكامل الشيخ مصطفى عبد الرازق صاحب الفضل الأوّل في ظهور هذا الكتاب عن الأستاذ الإمام ."
إنّها صفحة مشرقة بالعلم والنبل والحبّ والوفاء ؛ لكنّها لم تُختتم ؛ فقد مضى زمن على الكتاب ، وبعد عهد الناس به ، وتُوفي صاحبه ، ثمّ أراد المجلس الأعلى للثقافة بمصر أن يُعيد طباعته ، وفي إعادة الطباعة لا بدّ من مقدّمة جديدة ، ولا بدّ من فاضل كريم يُحيي العهد ، ويُقيم الذكرى حتّى يتّصل الحبل بين الأجيال فلا ينسى اللاحقُ السابق ؛ فكان أن صدر الكتاب بمقدّمة كتبها عاطف العراقي ( 1935 – 2012 ) حيّا بها الأستاذ الإمام ونهجه العقلانيّ المستنير ، والشيخ مصطفى عبد الرازق ، وحيّا بها أستاذه عثمان أمين يقول : " إنّ الشيخ محمّد عبده يعدّ خالداً بحسّه النقدي ، باتجاهه التنويري ... نعم رحّبتُ بكتابة تصدير لهذا الكتاب الهام ؛ وذلك لأسباب عديدة من بينها أنّه عن واحد من مفكرينا الكبار ، عن الشيخ محمّد عبده ، ومؤلّفه يعدّ علماً ، وعلماً بارزاً في سماء حياتنا الفكريّة والفلسفيّة ؛ إنّه عثمان أمين الذي تمتّع طوال حياته بحسّ فلسفيّ من النادر أن نجد له مثيلاً بين أساتذة الفلسفة في مصر ."
وبمثل هذا يُبنى الفكر ، وتتكامل الثقافة ، وينتصر الإنسان على عوامل الضعف والرداءة !
ورحم الله أبا تمّام فقد ألمع إلى شيء من هذا إذ قال :
ولولا خلالٌ سنّها الشعرُ ما درى بناةُ العلى من أين تُؤتى المكارمُ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟