الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حتى الهواء يا أمي

حامد تركي هيكل

2020 / 8 / 17
الادب والفن


انتظري أماه ، سأعود. لا تخذليني. أنت تعرفينني، لن أخذلك. سأجلبه اليك، فقط إنتظري. أتفقنا؟
خرج عباس من باب المستشفى مثل مجنون. كان لا يرى الأشياء من حوله، الناس والسيارات وكلّ شيء حوله لا يدخل في تكوين الصورة التي يراها. أماه انتظريني أرجوكِ! فقط انتظريني.
عَبَرَ الشارعَ مسرعاً. ألمُ فقرات الظهر الذي يعاني منه طيلةَ الأشهر السابقة تلاشى أيضا، لم يعد له وجود سوى وخزات قويّة كطعنِ رمح، مثل خنجر ينغرز في خاصرتي بين ساعةٍ وأخرى يا أمي، لا ألتفتُ إليه، غالباً ما أنساه. إلا أنه كان يضع يده على موضع الألم. آه نعم هنا، أسفل قليلا، نعم هنا بالضبط أماه. لا تقلق أبني، من يأتيني بأبو فاس الساعة؟ حتى هذا اختفى من السوق؟ سأدهن ظهرك بزيت زيتون يا حزام ظهري، تحرسك عيونُ السماء، بجاه أهل البيت أبني.
شاهدَهم، أولئك الرجال، فقد أبلغهم الممرضُ عندما كانوا واقفين هناك على باب الردهة ينتظرون بقلقٍ شديد. ما إن سمعوا حتى هبّوا مسرعين لا يلوون على شيء. وعباس معهم، يتبعهم، لابد أنهم يعرفون الطريق. الى أين نذهب؟ الى أين نتجه؟ الى السوق الكبير، هناك في السوق الكبير!
ركبوا سياراتهم وانطلقوا، وتركوه، تردد أن يطلب من أحدهم أن يقلّه معه. استحى. قصّرت والله ، الناس للناس، لماذا لم تأتِ معي؟ ما كنت أعرف والله، قال له أحدُهم بعدَ أسبوع من الآن! أماه! فقط انتظري سأعود. توقف تاكسي، الى أين تريد؟ السوق الكبير! لا والله، ازدحام، لا يمكنني، تعذرني. قال سائق التكسي. تكسي آخر، آخر، آخر. تأخر الوقتُ. أرجوك خذني الى السوق الكبير. قال لسائق التكسي الرابع. أصعد وأمرنا الى الله.
بسبب ازدحام الطريق، توقف السير بشكل تام تقريباً. الحرُّ لا يُطاق. تعذرني لا أستطيع تشغيل التبريد، فالمحرك لا يحتمل في هذا الحرّ. قال السائق. لا عليك. المهم أن نصل. أماه! قال لها، سأحملك اتفقنا؟ قالوا لابد أن تأتي بها شخصيا، حملتك تذكرين، ولكننا عندما وصلنا قالوا انتهى دوام اللجنة. تستطيع أن تأتي بها غدا. غدا؟ غدا جمعة!. آه! نعم، إذن الأحد من الأسبوع القادم. حملتُك مرة أخرى الى دائرة الرعاية الاجتماعية لكي يروك، لكي يتأكدوا أنك لازلت على قيد الحياة! أمي! لكي يعيدوا راتبك الذي قطعوه. تعبنا أماه. ولكنكِ انتظرتِ، لذلك انتظري الآن أيضاً، هذه ليست أول مرة، أليس كذلك؟
انتظريني أماه! سوف آتي بسرعة، تركها على الرصيف، واخترق الجموع، كان الجو خانقاً، كلُّ الناس كانوا يحملون بأيديهم أوراقاً، يضعونها بمغلف أصفر. وقف بالطابور ساعات، وعندما وصل الى الشباك، حيث كان الضابط يجلس داخل الغرفة التي يتدفق منها هواءٌ بارد جداً عبر فتحة الزجاج الصغيرة التي تفصلهما، كان يقف تحت الشمس، لابد أن تأتي بها، قال له الضابط. ولكن سيدي! لابد أن تأتي بها! هذه معاملة رسمية ألا تفهم؟ هذه بصمة يا بشر! لكن دوري سيضيع سيدي! خذ دوراً جديدا مرة أخرى. وعدتُ أليكِ أماه حيث كنتِ تنتظرين، وحملتُكِ، ووقفت بالطابور مرة أخرى. أين تقف؟ ألا تفهم؟ طالما معك امرأة قف بطابور النساء. كنت أحملك على كتفي أماه. أماه! لابد أن أحملك الى ذلك الطابور الخاص بالنساء. وحملتُكِ. ألا تستحي؟ كيف تقف بطابور النساء وأنت رجل؟ أذهب الى هناك. لا أعلم من أين تأتي هذه النماذج؟ قال أحدُهم متذمراً. كان ذلك منذ بضعِ سنين. وقتَها كان عباس يريدُ استخراجَ جوازٍ لها، لأنهم قالوا له أنها يمكن أن تُعالج في الهند!
وصل التاكسي بصعوبة الى منتصف الطريق ، شقَّ طريقَه عبر الشوارع المزدحمة. أماه تذكرين؟ تعذبنا من أجل استخراج الجواز. قبل أن تتعرقل المعاملة ونتركها تماما. لكنك انتظرتِ أماه، انتظري الآن أيضا. يا أبني اللهُ يعينُنا، قالت له بعد بضعة أشهر، حين عاد الى البيت متعباً، كان مبللاً من رأسه الى قدميه، كان يرتجفُ من البرد. فقد غمر ماءُ المطر الطريق، فنزع حذاءَه وحمله مع أوراق المعاملة، وخاض في الطين. ابني أترك المعاملة . نسيت أيَّ معاملة كانت تلك؟ الله لايعطيهم، سدّوا علينا كلَّ الأبواب. يا ولدي، اللهُ المستعان. لو أن الهواء بأيديهم. الحمد لله، فالهواء ليس بأيديهم، قالت له قبل سنوات. أماه الهواء! لابد أن أجلب لك الهواء من السوق. فقط انتظريني، سأجلب لك الماء الحلو، فقط احرصي على الّا تمتدَ يدُك الى ماء الحنفية، يقولون أن من يلمسه يمرض. كان ذلك منذ عامين، تذكرين أمي؟ وقد جلبتُ لك الماء. ومع هذا عندما عاد وهو يحمل وعاءَ الماء الحلو. وجدها تتمرغ في التراب مثل ذبيح. أبني! سكاكين! سكاكين في بطني! ابني! آه! لا استطيع احتمال الألم! أماه لماذا لم تنتظريني حتى أجلب لك الماء الحلو؟ ولكنكِ شفيتِ. حملتك الى المستشفى، حملتك الى قسم الطواريء، كان مكتظّا. وكان الجوُّ حاراً جداً، وكان الجميعُ هناك يتألمون. ولكنك انتظرتِ.
كان عباس في الخامسة. حملتْه أمُه على كتفها، وهربت به. كان لاهياً، إلا أن أصوات القصف أفزعته، وحفرتْ في ذاكرته ذكرى لن تُمحى. كانت القذائف تنهال، وكان الناس يهربون. أبوك أين أبوك؟ لو يأخذ إجازة ويأتي. لو أنهم يمنحوه اجازة. ولكنها كانت شابّة قوية ذلك اليوم. حملتْه على كتفها، وحملتْ بيدها حقيبة كبيرة، وجرَّت خلفها عربةً محملةً بأغراض. ونجونا أماه. هذه ليست امرأة ! قال أحدهم، هذه قاطرة! يا لها من أمرأة قوية!
انتظري سأجلب لك الهواء أماه أرجوك. هل تحتاجين هواءً أمي؟ حتى الهواء أمي؟ حتى الهواء! وصل التكسي الى السوق الكبير بعد ساعة بسبب الازدحام الخانق.
كان عمره تسع سنوات كان في الصف الثالث الابتدائي، عندما ألقتْ السماءُ بحممها علينا أماه اتذكرين؟ في ليلة ظلماء، لم تكن طائرة تلك التي ألقت جحيمها على منطقتنا، كانت شيئاً لا يُصدق، بي 52 أتذكر هكذا قالوا وقتها. ولكن عباس كان يظنُّ أنه رجل، مع هذا حملتِني أماه وهربت الى البساتين الخالية من البشر. مَنْ حمل الآخر تلك الليلة؟ اختلطت الذكرى برأسي أماه، أنا حملتُك أليس كذلك؟ أم اننا تبادلنا حمل بعضنا، سألها هذا السؤال قبل سنوات عندما تذكرا الحادثة، ضحكت، وأخفت أسنانها المتهدمة بطرف شالها. هنا أفضل، لن يلقوا قنابلهم هنا، قلتِ لي ساعتها، وبتنا الليل هناك. كان عمرها يناهز الثلاثين، امرأة عجيبة. ولكننا صمدنا. الآن أيضا سنصمد، ستصمدين أماه اليس كذلك؟ أين تريد في السوق الكبير؟ أوشكنا أن نصل؟ قال السائق. لا أعلم بالضبط ولكنني أريد أن أشتري لأمي هواءً. لم يعد هناك هواء في السوق، كان عليك أن تخبرني، الآن ضاع عليك الوقت دون فائدة! ما هذا الازدحام؟ لابد أن تذهب الى الحي الجنوبي، هناك يمكن أن تجده. ما العمل إذن ؟ خذني الى هناك. لا اله الا الله! لو انك فقط قلت لي من البداية! واستدار بالسيارة نحو الجنوب.
أماه انتظريني، سأجلب لك الهواء. عندما كان عمري عشرين سنة، انقلبت الدنيا اتذكرين أماه؟ كان عمرك أربعين سنة على ما أظنّ، أليس كذلك؟ تذكر عباس وهو يمسك بظهره عند موضع الألم. قلت لك انتظريني سأجلب لك الدواء، كان رأسك يؤلمك. ربما من أصوات الانفجارات. ولكنك قلت ان ذلك الصداع كان بسبب أبيك يا ابني، تركنا وذهب أبوك! لم يسأل عنّا أبوك يا عباس! ألم يسأل نفسه الى مَنْ تركنا أبوك يا عباس؟ ألم يفكر بنا؟ أما عرف قبل أن يذهب أننا سنعاني بعده؟ ولكنه رحل. أبا عباس الى أين ذهبتَ يا حبيبي؟ وبكيتِ عليه يا أمي طويلا. لماذا تبكين يا أمي؟ أنت بمائة رجل، لماذا تبكين؟ منذ أن جلبوه ملفوفا بالعلم ذلك اليوم وأنت تبكين. ما الذي جلب لك البكاء أمي غير الأمراض. ها أنت الآن تستوطنك الأمراض وأنت لازلت بالخمسين من عمرك. منذ عشرين سنة وأنت تبدين وكأنك عجوز. انتظري سأجلب لك الهواء يا أمي.
اشتدت آلام الظهر على عباس. عندما وصلت سيارة التاكسي الى الحي الجنوبي، مرت ساعتان عليه تقريبا وهو جالس بجانب السائق، أين يبيعون الهواء ؟ لا يوجد هواء. الهواء نفذ.
عاد عباس الى المستشفى خال الوفاض فلم يجد الهواء، ولكنه اكتشف أنه لم يكن يحمل في جيبه نقوداً تكفي لشراء قنينة أوكسجين، وليس معه نقود أيضا لدفع أجرة التاكسي الذي جاب به نصف المدينة، والذي أعاده الى باب المستشفى، ها قد مرتْ ثلاث ساعات. لم يكن يعلم أنه لا يحمل في جيبه نقوداً. كان مشدوهاً الى درجة جعلته لا يفكر بشيءٍ سوى بالحصول على القنينة اللعينة. لو أنه كان يعلم أنه لا يملك النقود، لجلس هناك تحت شجرة الكالبتوس التي تقف عند طرف الحديقة الجافة أمام ردهات الوباء، ولبحث في عقله، ترى مَنْ يمكن أن يقرضه المال في هذا الظرف الصعب؟
كان يجرُّ قدميه بتثاقل وهو يجتاز باب المستشفى، أين ؟ صرخ به الشرطي، هوي أنت! ولكنه مرَّ ببطء شديد متجاهلاً تحذيرات الشرطي، كان الرجال يجتازونه مسرعين. كانوا يحملون على أكتافهم قناني الأوكسجين. هل هي ثقيلة الى هذا الحدّ؟ لم أكن أعلم أنها بهذا الطول! هل كان ألمُ الفقرات سيسمح لي بحملها لو أنني حصلت على واحدة؟ عشرات من الرجال المسرعين اجتازوه. أماه! كيف كانت ساعاتك الثلاث عندما كنت أنا في التكسي أجوب شوارع المدينة المكتظّة؟ ماذا سأقول لك هذه المرة؟ أماه! لم أجد الهواء! ولكنك ستقولين لي: "ولكن هؤلاء حصلوا عليه يا ولدي، لماذا لم تحصل عليه أنت؟" ماذا سأجيبك هذه المرة؟ أو ربما ستبتسمين لي، وتقولين، "فدوة يمّه، الهوا شنو؟ يروح فدوة الهوا لطولك يمّه، المهم أنت سالم يا وليدي".
عندما وصل الى باب الردهة. كان يشعر بالهوان، كان يودُّ لو أن الأرض تنشق وتبتلعه. البقاء في حياتك ! عظم الله أجرك. الوالدة توفيت!
أماه! كيف كانت الساعات الأخيرة؟ بدون هواء؟ ألم يكن بمقدورك أن تنتظريني يا أمي؟ وأجهش ببكاء مرير، بكاء طفل في الخامسة، تحت شجرة الكالبتوس الجافة في الحديقة الكئيبة العطشة التي تقع أمام ردهات الوباء. أماه حتى الهواء يا أماه!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الكويت.. فيلم -شهر زي العسل- يتسبب بجدل واسع • فرانس 24


.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً




.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05