الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أما آن لليل العراق أن ينجلي

داخل حسن جريو
أكاديمي

(Dakhil Hassan Jerew)

2020 / 8 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


يتداول الناس مثلا شعبيا مفاده أن : "الجمل لو شاف حدبته .. لأنكسرت رقبته" , بمعنى لو أن الناس نظروا لعيوبهم , لأنكسرت رقابهم من طول النظر لكثرة عيوبهم . لذا فالأجدى بهم معالجة عيوبهم أولا قبل النظر لعيوب الآخرين وقدحهم بما لا يليق . وهنا أستحضر مقولة السيد المسيح الشهيرة التي تروى عن قصة إمرأة متهمة بالفاحشة التي أراد الناس رجمها بالحجارة , وأرادوا منه مشاركتهم برجمها , فقال لهم مقولته الرائعة : "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر". فلما قالها لهم، رجعوا عن فعلتهم، فلم يرجمها أحد، حيث أنهم أدركوا أنه لا يوجد إنسان بلا خطيئة فالكمال لله وحده سبحانه وتعالى . أردت بهذه المقدمة البسيطة أن يراجع العراقيون بعامة , والمعنيون بالشأن السياسي بخاصة , مسيرة بلادهم السياسية وما آلت إليه أحوال العراق على مدى عقود من بؤس وفقر وشقاء وسفك دماء وإزهاق أرواح وهدر أموال ونهب ثروات وإستشراء فساد وتدهور أخلاق , باتت جميعها تهدد كيان العراق حاضرا ومستقبلا في بلاد حباها الله بالخير العميم , بدلا من تراشق التهم فيما بينهم دون جدوى, والكف عن تمجيد هذا أو قدح ذاك.
ومسيرة الإصلاح قد تبدأ بخطوة بسيطة لو خلصت النوايا وتضافرت الجهود المخلصة وتكرست المحبة للعراق وشعبه , وأن لا تأخذنا العزة بالإثم , وأن نسمو فوق كل الأحقاد والضغائن وصغائر الأمور, من منطلق أن لا شيئ يسمو فوق مصلحة العراق وشعبه , وعلينا أن نترك كل أحداث الماضي القريب منها أو البعيد ليقول فيها التاريخ كلمة الفصل . ولا يعني ذلك عدم محاسبة كل من أساء إلى الناس في الأمس أو اليوم كائنا من يكون , ويترك للقانون إعطاء كل ذي حق حقه من منطلق العدل والإنصاف , والكف عن كيل إتهامات بعضنا للبعض الآخر بالهمز تارة وباللمز تارة أخرى. ولعل تجربة المناضل الأفريقي الشهير نلسن مانديلا رئيس جمهورية جنوب افريقيا الإنسانية بالتعامل مع أعداء الأمس, خير تجربة يمكن الإقتداء بها في هذا المجال , بعدما أفرج عنه من سجنه الإنفرادي الذي قضى فيه سنيين طويلة , لمطالبته بالعدل والمساواة بين أبناء شعبه بعيدا عن كل أشكال التمييز والفصل العنصري التي كانت تمارس ضد مواطنيه السود سكان البلاد الأصليين من قبل حكومة البيض العنصرية , وذلك بعد توليه منصب رئيس الجمهورية في إنتخابات حرة , حيث صفح من موقع القوة والإقتدار عن جميع حكام جنوب أفريقيا وجلاديها العنصريين البيض الذين اذاقوه وشعبه الأفريقي شتى صنوف العذاب ,جراء سياستهم القائمة على التمييز والفصل العنصري التي تحتقر السود وتحط من كرامتهم الإنسانية ,على الرغم من أنهم أبناء البلاد الأصليين بينما جلاديهم أوربيين مهاجرين. كان الصفح مشروطا بإعتذار العنصريين علنا بوسائل الإعلام المختلفة عن جميع أفعالهم المشينة التي إرتكبوها بحق ضحاياهم ,في إطار ما عرف بصفحة المكاشفة والمصارحة , ليعيشوا بعدها مواطنين عاديين في جنوب أفريقيا شأنهم شأن مواطينها الآخرين من الأفارقة والهنود وغيرهم, ولم تمارس ضدهم أية أعمال عدائية أو إغتيالات او تصفية حسابات كما يجري في هكذا حالات في بلدان أخرى كثيرة . وبفضل هذه السياسة الحكيمة إكتسب الرئيس نلسن مانديلا حب وتقدير العالم أجمع ونال جائزة نوبل للسلام , وجنب بذلك بلاده بحور الدم ,وفتح أمامها كل أبواب التقدم والإزدهار والتنمية الشاملة المستدامة التي جعلت منها أحد أبرز الدول ذات الإقتصادات الناهضة في العالم.
نقول أن الدول لا تنهض ولا يمكنها أن تتجاوز محن الماضي , بالحقد والكراهية وإثارة الضغائن, وها هي تجربة اليابان التي ضربتها الولايات المتحدة الأمريكية بقنبلة نووية راح ضحيتها ملايين اليابانيين , لم تنهض من محنتها بالعزف على كراهية الولايات المتحدة الأمريكية وإن كان ذلك حقا مشروعا لها , بل لعقت جراحها وتجاوزت محنتها ونهضت بعد أن أدركت حدود قوتها, وتأقلمت مع واقعها الجديد بقبولها هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وقبول صداقتها التي وظفتها لمصلحة الشعب الياباني التي جعلت منها عملاقا إقتصاديا عالميا على الرغم من عدم إمتلاكها لأي من مصادر الطاقة او المواد الأولية اللازمة لبناء صناعة مزدهرة وتنمية إقتصادية مستدامة . وينطبق الحال نفسه على المانيا التي دمرتها دول الحلفاء المتمثلة يومذاك بالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وروسيا في الحرب العالمية الثانية , حيث نفضت عنها غبار الحرب لتصبح في غضون سنين قليلة عملاق أوربا الإقتصادي بفضل إنتهاجها سياسية البناء والإعمار , وليس النوح والعويل وإثارة الأحقاد والضغائن وتجيش المشاعر للثأر من اعداء الأمس , بل جعلت منهم اصدقاء اليوم في إطار سياسة عقلانية تأخذ في الإعتبار معطيات الحاضر ومتغيراته الدولية . وهناك أمثلة أخرى كثيرة مثل كوريا الجنوبية وفيتنام وغيرها لا نرى أن هناك حاجة للتطرق لتفصيلاتها .
إن ما أردنا قوله هنا أن اجترار الأحقاد والضغائن بين الأفراد والجماعات في الداخل, أو بين الدول على صعيد الخارج , لا يقدم بل يؤخر كثيرا , إذ لا يوجد عداء دائم أو صداقة دائمة بين الدول بل هناك مصالح دائمة , لذا فأن الحديث عن عداء تاريخي بين هذه الدولة أو تلك , إنما هو عبث لا معنى له أبدا , ذلك أن العلاقات بين الدول تمر بفترات صعود أو هبوط حسب قوة وضعف كل منها وقدرة حكامها على التعامل مع أحداثها وحماية مصالحها , ولا يمكن أن تبنى الدول بضجيج الحقد والكراهية, بل يؤدي ذلك إلى المزيد من تدهورها وإنحطاطها وربما القضاء عليها لتصبح أثرا بعد عين . وهذا يتطلب من جميع المفكرين والمثقفين والمصلحين التحلي بثقافة التسامح والحوار البناء وتقبل إختلاف الرأي , فالأراء تعرض ولا تفرض حيث أن هامش الخطأ والصواب وارد في كل رأي أو فكرة .وما يثير الأسى حقا تزمت بعض المتعلمين أو ممن نالوا قسطا من التعليم , بأرائهم الخاطئة وصم اذانهم عن سماع الأراء الآخرى , وكأنهم يرون في ذلك إنتقاصا من مكانتهم , أو نكوصا عن مبادئهم العتيدة . ترى بعضهم يوجه نيران الحقد الطائفي وهو لم يعرف عنه أية ممارسة تدين سابقا , لمن يختلف معه بوجهة نظر في قضية معينة لمجرد كونه من طائفة أخرى بصرف النظر ما إذا كان هذا الأخر متدينا أو لا . وتقوم الدنيا ولا تقعد لدى بعضهم إذا بينت بعض أخطاء نظام الحكم السابق وبعض ممارساته الإجرامية بحق الشعب , وكأنه يريد أن يقول أن هذا النظام الذي كان يحكم بالحديد والنار نظاما مقدسا لا يجوز المساس به , ويذهب بعضهم أبعد من ذلك بإتهامك بتزكية النظام الحالي والدفاع عنه , على طريقة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عندما شن حربه على العراق, حيث كان يردد من ليس معنا فهو ضدنا , وهويقصد بذلك الدول والجماعات التي أبدت رأيا مغايرا لرأي الإدارة الأمريكية المصممة على شن حربها العدوانية ضد العراق عام 2003 . وفي الطرف الآخر هناك من يرى أن النظام السياسي القائم حاليا نظاما ملائكيا , على الرغم من كل ما يعتريه من ضعف وتشوبه تهم فساد ونهب المال العام , ولا يطيق ذرعا إن تحدثت عن موضوعا ما في زمن ما قبل غزو العراق وإحتلاله عام 2003 ,حتى وإن لم يكن له مساسا بالسياسة لا من بعيد أو من قريب , يفسره إنحيازا للنظام السابق . وهؤلاء جميعا للأسف لا يرون الحياة إلاّ بلونين , أسود وأبيض ولا يرون ألوان الطيف الواسعة الجميلة الأخرى . وهنا أقول على الجميع التحلي برحابة الصدر والموضوعية والتروى وعدم إلقاء الكلام جزافا على عواهنه , والكف عن إثارة كل أشكال الحقد والضغائن والكراهية بين الناس والإبتعاد عن صغائر الأمور إذا أردنا بناء وطن آمن وسعيد لجميع العراقيين.
تؤكد معظم الأحزاب السياسية في العراق سابقا ولاحقا في أدبياتها على حق ممارسة النقد والنقد الذاتي على مستوى أفرادها أو إجتماعاتها أو مؤتمراتها . يعرف النقد الذاتي في الأدبيات السياسية بأنّه : "نشاط إنسانيّ يتمكَّن فيه الإنسان من النظر إلى ذاته بحِكمة وعقلانيّة، فيبحث عن العيوب الظاهرة، والخفيّة في سماته، وسلوكه، ومُعتقَداته، وعواطفه، وأفكاره، على أن يبقى مُرشِداً لنفسه، ومستمِرّاً في محاولات فَهم ذاته، واكتشاف عيوبه, لتصحيحها، واستثمار طاقاته كلِّها" . لم تمارس هذه الأحزاب عمليا , قيادة وأتباعا ممارسة النقد أو النقد الذاتي إلاّ في حالات نادرة عند صراع قياداتها على المناصب أو تحميل بعضهم البعض الآخر مسؤولية فشل سياستهم , دون إتخاذ إجراءات ملموسة لتصحيحها . ويكفي أن نشير هنا إلى
ممارسة قادة الأحزاب السياسية المتصدية للسلطة حاليا نوعا من النقد الذاتي , حيث أعلنوا بوسائل الإعلام المختلفة عن فشلهم بإدارة السلطة أثناء توليهم حكم العراق لفترة ليست بالقليلة , وقدموا إعتذارهم للشعب العراقي عن كل ما لحق به . كان الأجدر بهم تخليهم عن السلطة ومحاسبة المقصرين منهم , إذ لا جدوى من إعتذارات فارغة وهم ما زالوا متمسكين بقوة بالسلطة وجني منافع وثروات هائلة منها بدون وجه حق . فما قيمة النقد إن لم يكن مقترنا بفعل لتصحيح المسار ومعالجة مكامن الخلل. بين بعض كبار قادة الأحزاب السياسية ممن تقلدوا مناصب وزارية , في اكثر من لقاء تلفزيوني ومنها لقاءات في التلفزيون العراقي الرسمي , أن لا أحد في العراق يستطيع أن يضع حدا للفساد أو محاسبة الفاسدين , لسبب بسيط هو أن جميع قادة الأحزاب السياسية مشتركين بعمليات الفساد , فمن يستطيع وضع حدا لفسادهم وعبثهم إذا كانوا هم أنفسهم أعمدة الفساد ويتحكموا برقاب الناس , إذ يصح عليهم قول الشاعر :
إذا كان رب البيت بالدف ناقرا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
وفي الختام نقول لمن أغوته مباهج السلطة أن بقاء الحال من المحال , ولو أن السلطة دامت لغيرك لما آلت إليك , وهكذا هو حال الدنيا صعودا ونزولا , كما نؤكد أن تغيير الحال يتطلب تغيير النفوس أولا , تجسيدا للآية القرئانية الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم , صدق الله العظيم . نسأل الله السداد والتوفيق والهداية على طريق الخير وخدمة الصالح العام لما فيه خير العراق وحفظ أمنه وإستقراره, بعيدا عن الأهواء الشريرة والأطماع والأحقاد والضغائن.





.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تسعى إسرائيل لـ-محو- غزة عن الخريطة فعلا؟| مسائية


.. زيلينسكي: الغرب يخشى هزيمة روسية في الحرب ولا يريد لكييف أن




.. جيروزاليم بوست: نتنياهو المدرج الأول على قائمة مسؤولين ألحقو


.. تقارير بريطانية: هجوم بصاروخ على ناقلة نفط ترفع علم بنما جنو




.. مشاهد من وداع شهيد جنين إسلام خمايسة