الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آمر اللواء ٥٩

حسن عزيز الياسري

2020 / 8 / 19
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


                    

■ ليست مصادفة تلك التي جمعتني بإبن جيرتي وصديق طفولتي وزميل ُ بعض ٍ من سِنِي مراحلنا الدراسية ، بعد سماعي خبر اصابته بلحظة غادرة اثناء اداء واجباته العسكرية ، برصاصتين ظلت احداهما في ساقه اليسرى وغادرته الاخرى بعد ان عبثت بجزء كبير من ساقه اليمنى .

ولم يكن ذلك العبث الجسدي الاول ولا الثاني فقد اخترقت من قبلُ ، جسدهِ الذي يمثل خارطة الوطن الجريح ، الذي طالما يتعافى بعد اصابة غادرة من قِبَلِ غربان الارهاب المتوحش ، ليعود الى الهزال والاعياء بعد اصابة اخرى .

■ هناك صور عالقة لبعض الوجوه التي تختزن في الذاكرة لبعض المراتب العسكرية صغيرة كانت ام كبيرة ، اكثرها لشخصيات يعتورها زخم الحماس المفرط ، ونمط الكبرياء على الناس وتصعير الخد نحوهم ، من إمالة الوجه او الإعراض والتعامي والتجاهل او الازدراء لهم ، فتظهر امارات النرجسية والتعالي فيها الى ابعد مستوى ، والقليل من تلك الشخصيات من تتمتع بدماثة الخلق وطلق المحيا ، والتخاطب مع الاخرين بسماحة وعفوية بالغة .
ولعل ما يميز الكثير من مقاتلينا الابطال الميدانيين قادة وضباطا وجنودا هم من الصنف الثاني الذين رأيناهم وهم يسطرون ابهى صور الشجاعة والتضحية والايثار في التصدي للهجمة الدموية الشرسة التي رعتها دول عدة واجهزة للظل عديدة ، ضد عراقنا الحبيب .

أفرزت هذه الفترة التاريخية المتوحشة الشرسة والتي عاش العراق ظروفها التاريخية في ازمان عدة سابقة ، افرزت لنا رجالا ليس ككل الرجال ، يتيمزون بأعلى صفات الرجولة والايمان بقضيتهم ويملكون من الارادة والاصرار والتحدي  حدا ً ، أرغم المعتدين الاوغاد الى أخذ ِ جانب الغدر والغيلة او من خلال تفجير اجسادهم القذرة ، دون المواجهة مع رجال العراق الشجعان .
■ اسماء كثيرة لشهداء ٍ قادة وضباطا وجنودا بواسل في الميدان ، ستظل اسماؤهم محفورة في ذاكرة الاجيال ، من شتى صنوف قواتنا العسكرية والامنية جيشا وحشدا شعبيا وشرطة اتحادية ، سارت اسماؤهم بصفات وطنية وشعبية شهيرة كأبو الغيرة ، واهل العقيدة ، وحماة الارض والعرض وأصحاب الحميّة ، وغيرها من الصفات التي لا تنسجم الا مع امثالهم .
ولعل صديقنا العزيز الذي تأصلت فيه صفات النفوس الوطنية الاصيلة  وتجذرت في روحه كل سمات الانسانية البعيدة عن كل توجه ودافع .
انه آمر اللواء ٥٩ الفرقة السادسة في الجيش العراقي ١* ، فما رأيته يوما ( عَبَسَ وَبَسَرَ )٢* ولا ( أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ )٣* ، وكان قريبا من المحيط العسكري والاجتماعي حوله ، معطاء اليد ، كريم النفس ، متحرَّرا مِن كل اشكال الزهو والتكبر ، راضيا بمنزلةٍ  هي دون ما يستحقُّه ُ فضله ُ ومنزلته ، دون ضِعّة ٍ او كِبَر .

■ لا ادري ما الذي جعل الكثير من صور الصبا والشباب تدور في رأسي ، قصص الطفولة وهفوات العمر واحاديثٌ عابرةٌ وامنيات تُصّدُ على صخرة الواقع المرير ، ولعل بعضها تلك التي رافقت حديثنا سوية قبل ٢٠ يوما من اخر موعد رأيته فيه ، اثناء تقديم العزاء له بوفاة اخيه الاكبر والذي كان بنفس رتبته العسكرية ، فقد بدت على ملامحه آثار الالم والحزن في ابلغ صورة ، ولعل امنيته تلك التي اكدها لي وهي التقديم للتقاعد بسبب المعاناة التي يعيشها جراء الظروف الغير طبيعية في بلدنا ، العراق اليوم ونظامه السياسي الذي قتل الفساد فيه ، كل شيء جميل ، وسحق كل  فرص الأمل في استعادة وهجاً من نور الحياة الحرة الكريمة ، فلم يجدي امام طوفان الفساد الهادر نفعا ً من حديث عقل ٍ ومنطق ْ ونقد وتظاهرات سلمية وطنية خالصة وصلت الى حد وأدها برصاص غادر ، يشبه غدر رصاص الدواعش الاوغاد .
فتَغلغُلْ فساد السلطة الحاكمة في مفاصل الدولة (( الا ما رحم ربي )) بسبب المحاصصة وفساد المسؤولين فيها ، إنعكس بصورة سلبية للغاية على جميع مرافق الحياة ، التي احالها السراق والشذاذ الى ، جحيمٍ مقيم .

■ تَطرّقنا بالحديث سوية عن الظروف المحيطة بعمله الخطير الذي يُحَتِم ْ عليه الحذر والانتباه الدائم في مناطق لا زال الكثير منها ، يحتضن الارهاب والفكر المتطرف !! ،  ولم لا ينتقل الى مكان يكون اكثر امانا واقل خطورة ؟؟ خوفا من خسارة العراق لرجاله الاوفياء الاحرار !!
فاجابني بأبتسامة تخفي وراءها كل آلام العراق وشعبه المظلوم ، قائلا : لعله قدري الذي يجعلني باماكن الخطر تلك ، فهذه الاماكن المليئة بحواضن الارهاب والعنف والتطرف والكراهية لن يرغب فيها احد من القريبين للسلطة والاحزاب ، او حتى المكلفين بهذه المهام في تلك المناطق ، فهم على استعداد لدفع اموال السحت الحرام لمجموعة من المسؤولين الفاسدين المتاجرين بدماء الوطن وشعبه الجريح ، للابتعاد عن تلك المناطق الجغرافية الموبوءة بمرض الارهاب ، كوباء كورونا ، وإنني بعد وفاة اَخَوّي مهند ٤* ، قبل عام من الآن ومن ثم لحقه اخي الاخر سرمد ٥*  ، اليوم ، أصبحت ملزما بالتقديم الى التقاعد ، واضاف : صدقني لعله قراري الاخير فيما يخص حياتي المهنية ، او هي امنيتي الاخيرة التي لا التمس غيرها اليوم ابدا  .
وأكمل حديثه قائلا  : فتراكُم ْ المسؤوليات ِ العائليةِ حولي اصبحت ثقيلة الوطأة ، والنظر الى اطفال أخوَيّ ، الصغار منهم دون آبائهم ، أشد وطأة ، بل هي مكلفة جدا ، اضافة الى انني أرى نفسي مسؤول عن خدمات اخرى كثيرة .

■ كان ذاك اخر حديثه الذي ختمه عن تلك الخدمات الاخرى التي يرى نفسه مسؤولا عنها ، على انني اعلم عنها شيئا يسيرا ، فهو لم يدخر جهدا في عطاء ٍ لمحتاجٍ قريب ٍ او غريب او تقديم المساعدة لطالب حاجة او لمتعفف ٍ تتحدث عيناه عن حاجة دون طلب او طلب دون الحاف .
ويكفي فراسة المؤمن ، إنه يرى بعين الله عزوجل حسب الحديث المتواتر .

■ ولعله من باب صَدِّق ْ او لا تُصَدِّق ْ بأن جميع الاخوة ( بمناصبهم تلك ) مع عوائلهم جميعا ايضا ، لا زالوا يعيشون في بيت ابيهم الحاج حميد الخزرجي رحمهم الله تعالى جميعا في بغداد / حي المستنصرية  في بضع عشرات من الامتار القليلة لكل واحد منهم ، مقسمة فيما بينهم في نفس بيت العائلة !!! .

 
■  ليت أماني النجباء الاوفياء أن تتحقق ، ففيها سرور من حولهم ، وكم لله عزوجل من لطف خَفي وله تعالى في خلقه شؤون .
فعلى الرغم من بساطة تلك الأماني ، الا انها لم تتحقق !! كالامنيات البسيطة الكثيرة لحقوق الغالبية العظمى من افراد الشعب العراقي الذي سحقت حقوقه واحرقت احلامه ، مطرقة الخونة وسندان الفساد والانحطاط الاخلاقي لدائرة الأحزاب القِيّميّة الماسكة للسلطة .

وفي آخر محطات الرحيل قبل الوداع ، في لحظات غياب ٍ و سفر ٍ ذاتي ، قبل ان يَهتك حجاب َ شرُوديّ َ الذهني ، وابلا من اطلاقات نار ٍ كثيف تبلغ عنان السماء لتُشِيعَ خبر الرحيل ، حيث سافرتُ ، على بساط الذكريات ، غارقا ً بالدموع ِ ومعبئا ً بالألم ، متصفحا ً دفتر الايام ، ونحن نحمل ُ مع جموع المحبين وباقي صُحبة ألامس ، خشبات ُ جثمانه المُسّجّى فوقها نحو مثواه الأخير ، والذي سكنت فيه اخر رصاصات الغدر والجهل ، التي أبَت ْ ان تُفارقه هذه المرة ، ففارَقنا وهو في اخر مواجهة له مع رؤوس الشر والعفن والهمجية ، ولن تكون الأخيرة بالطبع ، ليلتحق بركب شهدائنا الابرار في واحدة من احلك واشرس وأوحش فترات العراق التاريخيةِ السوداء ، واكثرها فسادا وهدرا لنفوس الأحرار و الابرياء .
[[ وجوه ُ يومئذ مُسفِرة ▪︎ ضاحكة مستبشرة ▪︎ ووجوه يومئذ عليها غَبَرة ▪︎ترهقها قَتَرة ▪︎ اولئك هم الكفرة الفجرة ]] سورة عبس ٣٨-٤٣ .

■ الى النفوس الوطنية الحرة اللاتي وافاها قدر الاستشهاد وهم في ميادين المعارك من قادة ، شجعانا بواسل وضباطا ابطالا وجنودا صناديد ومتطوعين غيارى في مختلف قطعات الجيش والحشد الشعبي والشرطة الاتحادية  .


¤ حسن عزيز الياسري - بغداد -   ٢٠٢٠/٧/٢٠ 

-------------------------------------------------

١* العميد الركن علي حميد غيدان / آمر اللواء ٥٩ / الفرقة السادسة / الجيش العراقي / الذي استشهد باطلاقات قناص غادرة في منطقة الطارمية في بغداد بتاريخ  ٢٠٢٠/٧/١٧  .

*٢ ، ٣  آيات من الذكر الحكيم .


٤* اخوه الاكبر وكان رجلا تربويا فاضلا ، كان يعمل كمدير لمدرسة ابتدائية .
٥* اخوه الاوسط وهو بنفس رتبته العسكرية ، عميد ركن ، ولم يتبقى من افراد العائلة سوى اخيهم محمد الذي كان شجاعا صابرا ومحتسبا امره الى الله تعالى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: هل تنجح مفاوضات الهدنة تحت القصف؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. مراسل شبكتنا يفصّل ما نعرفه للآن عن موافقة حماس على اقتراح م




.. واشنطن تدرس رد حماس.. وتؤكد أن وقف إطلاق النار يمكن تحقيقه


.. كيربي: واشنطن لا تدعم أي عملية عسكرية في رفح|#عاجل




.. دون تدخل بشري.. الذكاء الاصطناعي يقود بنجاح مقاتلة F-16 | #م