الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من مفكرة سجين بحريني عن غزو الكويت ( 4- 5 )

رضي السماك

2020 / 8 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


ما استعرضته مما دونته في الحلقة الماضية عن أهم ردود الفعل والمواقف العربية والدولية تجاه الغزو الصدامي للكويت ؛ لم يكن سوى ما أسعفتني الذاكرة تدوينه من نشرة مقتضبة كان يلقيها علينا رفيقنا " الراصد الإخباري " ، وعادةً ما يحلو لي التدوين حينما أخلو مع نفسي عند غروب كل يوم ؛ بعد نتناولنا شاي العصر المحروق شديد السواد - لطول طباخه - في تلك الكؤوس المعدنية أو الحديدية الصدئة لكثرة استهلاكها من قِبل النزلاء منذ عشرات السنين . ومع أني ذكرت بأن مفكرتي كانت موزعة على هوامش عدد من صفحات الكتب الفارغة أو هوامش المطبوع منها التي كانت تصلني من " ام هيثم " ؛ إلا أنني بعدئذ لربما كنت محظوظاً بين الرفاق إثر استلامي منها ملزمة ضخمة ( مطبوعة على وجه واحد من أوراقها ال 350 ) ، وهي عبارة عن دراسة اجتماعية ميدانية شاركت فيها مع فريق عمل بحثي في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية برئاسة الخبير السوداني الاستاذ أحمد عبد الفتاح ، وكانت تحت عنوان جعله هذا الخبير لربما من أطول الدراسات الصادرة باللغة العربية : " تحديد مستويات المعرفة والاتجاه والسلوك الإنجابي بين الأسر البحرينية وتأثير وسائل الإتصال الجماهيري والشخصي المحلية في تلك المستويات " . وكانت تلك الملزمة / الكراسة بمثابة خير كشكول لي في الكتابة طوال السنتين الأخيرتين في السجن ؛ فإلى جانب مفكرتي عن أيام الغزو خصصت صفحات الكشكول الفارغة لتحليلاتي وآرائي السياسية حول أبرز القضايا الخطيرة التي حدثت في العالم خلال فترة مكوثنا في السجن ومنها ؛ انهيار دول المنظومة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات ، وتوقعي بانهيار الاتحاد السوفييتي وذلك في ضوء ما يردنا من أخبار مقلقة عن تفسخ أوضاعه الداخلية ، والاحتجاجات الطلابية الصينية الخطيرة في ساحة تيانانمن في يونيو / حزيران 1989 ، وغيرها من أحداث محلية واقليمية اخرى جلها غير ذات أهمية ، هذا بالإضافة إلى كل ما يخطر على بالي تدوينه من حكِم واشعار وتعليقات لغوية في ضوء قراءاتي للمواد اللغوية التي كنت أعشقها ، وتلخيصات لكتب دينية وتاريخية . وبعد خروجي من السجن خصصت بعض تدويناتي اللغوية بعد إضافة - بعض التنقيحات عليها- كحلقة لغوية إسبوعية تنشر في عمودي اليومي السياسي " فضاءات " تحت عنوان " بين اللغة والسياسة " كل خميس في صحيفة " أخبار الخليج " قبل فصلي منها عشية انفجار أحداث الربيع العربي عام 2011 .
مهما يكن فلقد كان ما نتلقاه من أخبار يتلوها علينا " راصدنا الاخباري " نشعر بأنه شحيح ولا يسد الرمق طوال فترة الاحتلال " العراقي " ، وبالتالي فقد كنا نتلهف للحصول على ما يروي الحد الأدنى من عطشنا للأخبارالموسعة والتحليلات المختلفة التي كنا نفتقر إليها . وزاد من هذا التعطش ندرة تلقينا حينذاك من السجناء الجنائيين على بقايا من ورق الصحف المحلية المطوية والمذابة عادة من الزيوت الغذائية ؛ والتي كان يقذفونها بسرعة البرق على إحدى زنزاناتنا المفتوحة أثناء مرورهم ببراميل القمامة عبر ممر العنبر الشرقي ؛ قبل نقلنا بعدئذ إلى العنبر الغربي الذي قضينا فيه بقية فترات أحكامنا المتفاوتة وأمضينا فيه فترة "الغزو " . ومن جانب آخر فإن زيارات الأهالي الدورية لنا ( كل ثلاثة أو أربعة شهور لمدة ثلاثة أرباع الساعة ) قد تم تأخير أو تأجيل أو الغاء بعضها ؛ بينما تم توقيفها نهائيا عننا طوال الحرب أثناء هجوم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على قوات الاحتلال الصدامية في الكويت .
مهما يكن فقد بات واضحاً مع اقتراب موعد الهجوم الاميركي فشل كل الواسطات والمساعي العربية والدولية لحمل صدام على سحب قواته من الكويت ؛ بما في ذلك اجتماع عقده وزير الخارجية الاميركي جيمس بيكر مع وزير الخارجية العراقي طارق عزيز في 9 يناير 1991 بجنيف . كما فشلت المحاولة الأخيرة التي أجراها الأمين العام للأمم المتحدة دي كويار في مباحثاته مع الدكتاتور في 13 يناير 1991 .
- وفي 17 يناير بدأ هجوم القوات الاميركية والبريطانية والسعودية الجوية على أهداف في العراق والكويت - وفي 18 يناير الدكتاتور يقوم بإطلاق صواريخ سكود عبثية يائسة على السعودية وإسرائيل .
- ثم لجأ إلى حرق آبار النفط الكويتية في مسعى منه للتشويش على الطائرات الاميركية والبريطانية والسعودية ، وفي غضون ذلك أمكن تحرير جزيرة قارورة الكويتية .
- وعندما أيقن صدام حسين بأنه يلعب في الوقت الضائع ؛ وأن مسألة دحر قواته باتت محسومة أو قاب قوسين أو أدنى ، لجأ في 25 يناير إلى القاء ملايين من جالونات النفط في مياه الخليج العربي غير مبال ليس باهدار ثروة شعب جار فحسب ؛ بل و بمخاطر تسميم بحر الخليج برمته الذي تقتات من ثرواته السمكية الملايين من الشعوب الخليجية .
- في أواخر يناير كان أهم خبر علمناه من البي بي سي إقدام الدكتاتور بإرسال عدد من مقاتلات الجيش الوطني العراقي التي اُشتريت بأموال العراقيين إلى غريمته السابقة إيران تلافياً من تعرضها لضربات التحالف . وفي هذه الفترة كانت أنباء تقدم قوات صدام على الجبهة السعودية نحو الخفجي تشكل مصدر قلق لنا باعتباره عملاً انتحارياً ، ومما زاد من قلقنا في هذه الأيام من خطورة الموقف ؛ في ظل شحة المعلومات المتوافرة لدينا ، تشغيل صفارات الانذار لمرات عديدة التي كانت موجودة في القلعة ، وحيث كانت شدة أصواتها مُرعبة و تزلزل المكان بما يصم الأذان .
- وبات واضحاً من الانباء المتوفرة لنا خلال الاسبوع الأول من فبراير أن قوات الدكتاتور مُنيت بهزيمة ماحقة في الخفجي ، ما دفع صدام مجدداً لاشعال آبار وخزانات النفط الكويتية استعداداً لا نسحابه المذل في معركة " ام المعارك " التي عُرفت بعدئذ في وسائل الإعلام الساخرة من هذه التسمية ب " ام الهزائم " . وجراء أصراره على هذا العناد ضربت القوات الأميركية المتهورة ؛ غير المبالية بسلامة ومصلحة الشعب العراقي " ملجأ العامرية " بقنابلها المسماة ذكية وراح جراء هذه الجريمة نحو 400 من المدنيين من نساء وأطفال ورجال وشيوخ ؛ وكان ذلك في الثالث عشر من فبراير .
- وفي 22 فبراير هدد الرئيس الأميركي جورج بوش الأب بإعطاء قوات الاحتلال الصدامية في الكويت 24 ساعة ؛ وإلا ستباشر قواته بدخول المعركة البرية . وقد نفذ تهديده ؛ ففي اليوم التالي فأصدر أوامره للقوات الاميركية كافة في الخليج للعمل على طرد قوات صدام في الكويت . وحسب ما تلقيناه من أنباء في الفترة بين 24 إلى 26 فبراير فقد باشرت قوات التحالف بالهجوم على مواقع القوات العراقية في الكويت والعراق معاً؛ بدءاً من فجر اليوم الأول ؛ ومع ذلك أصر الدكتاتور موجهاً أوامره لضباط وجنود الجيش الوطني المرتهنين بأوامره على عدم الاستسلام ومواصلة القتال ؛ معرضاً بذلك ما تبقى منها لمذبحة حقيقية وخسائر فادحة في الأرواح والعتاد بينما هو وزمرته البعثية وعائلته وعوائل من عشيرته قابعين في قصورهم المرفهة في بغداد دون أن تهزهم شعرة واحدة جراء تلك الهزيمة المذلة والمذبحة المأساوية التي تعرض لها الجيش الوطني العراقي وسمعته في معركة عبثية .
- وفي 27 فبراير باتت الطريق معبدة نحو دخول الكويت ، بعد أن انسحبت القوات العراقية بالكامل منها ، فدخلت قوات مجلس التعاون الخليجي إليها ؛ بينما خاضت القوات الاميركية حرب دبابات مع الحرس الجمهوري . وفي يوم 28 فبراير / شباط أعلن الرئيس الاميركي بوش وقف اطلاق النار وتحرير دولة الكويت من الاحتلال العراقي .
وفي أوائل مارس / آذار وفي ظل الفوضى العارمة التي رافقت انسحاب القوات العراقية من الكويت جارةً اذيال الخيبة ومرارة الهزيمة التي تسبب فيها الطاغية وقعت انتفاضة مارس / آذار الشعبية الشهيرة التي بدأت من محافظة البصرة وسرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم في كل محافظات الجنوب وصولاً إلى الشمال ، ولم تحرك القوات الاميركية المتفرجة بالطبع ساكناً وتُركت لقمة سائغة ليخمدها النظام بقمع وحشي غير مسبوق استباح خلالها كل المحرمات الدينية المقدسة والقيم الإنسانية فيما أرتكبه من مجازر جماعية .
وبقدر ما جاء فشل الاحتلال الصدامي للكويت مبعث سعادة لنا ؛ بقدر ما كانت هذه السعادة ممزوجة بغصة أن تحرير الكويت العسكري جاء على أيدي الأميركيين بالدرجة الأولى ، ولن يكون ذلك لمن يحسبه سياسياً على مدى الآفاق المنظورة بلا ثمن ، إذا ما علمنا بأن ما قدمته الولايات المتحدة خلال حرب الخليج الثانية ؛ لم يكن من أجل سواد عيون الشعب الكويتي ، ولا شعوب المنطقة جمعاء ،بل كان في الأساس لاعتبارات مصالحها الاستراتيجية في المنطقة ، وحيث نالت بعدئذ أرباحاً مضاعفة من تعويضات ما أنفقته في الحرب من خسائر في الأرواح والعتاد والمصابين ، عدا عن الصفقات الهائلة في الاسلحة ومشاريع إعادة الإعمار . ذلك بأن الطابع الامبريالي للولايات المتحدة لم يؤهلها ولن يؤهلها قط في أن تكون يوماً نصيرة لحركات التحرر ، أو لدعم أي شعب في العالم تتعرض أراضيه للغزو أو لأي نوع من أنواع الاحتلال الأجنبي لوجه الله وبلا ثمن كما جرى للشعب الكويتي الشقيق !
وقد تكررت هذه الغصة بعدئذ عندما تم اسقاط النظام من خلال الغزو الاميركي للعراق عام 2003 ليدشن بذلك الاحتلال الأميركي قصة مأساوية كارثية جديدة مازال يتجرعها للشعب العراقي ؛ هو الخارج للتو من اتون حربين مدمرتين في غضون أقل من 23 عاماً ؛ ناهيك عن حصار دولي منهك طاله ولم يطل الدكتاتور .
ولا أعرف كيف راودتني الاوهام بعد تأكدنا من هزيمة صدام وانسحاب قواته من الكويت بأنه سينتحر حتماً كما فعل هتلر عند هزيمته نهاية الحرب العالمية الثانية ؛ لكن سرعان ما تبين لي بأن هذا الدكتاتور الجبان ليس من صنف القادة الدكتاتوريين الذين يتنازلون عن السلطة بسهولة حتى خلال أشد الهزائم خزياً وعاراً ولا أن ينهي حياته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا