الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
خط في الزاوية (قصة قصيرة)
محمد عبد حسن
2020 / 8 / 26الادب والفن
ظهيرة قائظة. سطوة الشمس يراها كلّ مَنْ دَخَلَ موقف الحافلات عِبْر بوّابته الواسعة.. يشعر بها على رأسه وكأنّها أصابته للتوّ.
الحافلات القليلة المبعثرة تتوزّع بعيدًا قرب الظلال القصيرة للجدران، يفترش ظلّها جنود يجلسون فوق حقائبهم، بعضهم يُشبهه: الملامح ذاتها.. الثياب المعفّرة برائحة البارود ولونه، بينما آخرون، بأعمار فتيّة، يرتدون ملابس يُدرك أنّها عسكريّة؛ ولكنّه لم يرَها من قبل.. كما لم يرَ جنودًا بلحىً وشعور طويلة ورؤوس خالية من (البيريّات). بقي ينظر إليهم، ثمّ أدار عينيه نحو شيوخ تبتلع ملامحهم كوفيّات مرقّطة.. نساء جنوبيات يتجمّعْن، وحدهنّ، في فيء حافلة هناك، عند طرف الساحة البعيد، يبدو أنّها لم تتحرّك منذ دهر.
حين أحاطتْ عيناه بكلّ ذلك؛ كان قد اجتاز بائعة الشاي المحتمية بامتداد ظلّ بوابة المدخل. وقبل أنْ يبتعد.. فكّر في البقاء قليلًا تحت الظلّ الباهت. كان يعلم أنْ لا حافلات تنطلق الآن إلى الجنوب.. وكان يريد الوصول قبل أنْ ينطفئ يوم من أيّام إجازته السبعة، فهُمْ ينتظرونه، ربما يجدهم في الزقاق أو قريبًا منه، عندها سيتركون كلّ شيء ويركضون إليه. ومع أنّه يعلم أنّ بابهم لا يُغلق إلا في الّليل المتأخر.. مع ذلك.. كان يطرق الباب ويقف، كأيّ غريب، بانتظار أنْ تمدّ رأسها وتراه.
تحسّسَ نموذج الإجازة في جيبه.. ثمّ استدار نحو بائعة الشاي. وعلى إحدى صفيحتي السمن الفارغتين.. جلس. برودة خفيفة يشعر بها تتسلّل إلى رأسه بعد أنْ نزع (بيريّته) ووضعها على ركبته.
* * *
- إنتَ وياهُم؟
قالتْ له ذلك وهي تمدّ له ،بيدٍ مرتعشة تخططها عروق خضر مزرقّة، شايًا أسود كشف لون عباءتها الكالح. كانتْ، وهي تنظر إليه، لا تراه.. أحسّ بذلك وهو يضع عينيه في عينيها البيضاوين. ولم يكن يعرف بماذا يجيبها. مع مَنْ هو؟! هو مع لا أحد.. مع نفسه فقط. حين تحتدم المعارك؛ ينسى كلّ شيء ويبدأ بدفع الموت المقترب إليه من الجهات كلّها. لم يُجبها.. ويبدو أنّها لم تكن تنتظر منه جوابًا:
- ابني استشهد بقاطع آمرلي.
وهو يسمعها تفضي إليه بذلك؛ كان نصف (استكانة) الشاي، المستقرّة في يده فوق صحن متّسخ، قد فرغ. أثاره اسم المكان الذي لم يسمع به خلال تنقّله الطويل، منذ سنين ترك حسابها، على جبهة تشغل الحدود الشرقية كلّها. أراد أنْ يسألها: أين؟ غير أنّ حافلة، لم يميّز لونها تمامًا وهو يقارب جفنيه في الشمس الساطعة، كانت قد توقّفتْ وسط الساحة يتبعها ذيل غبار يتقاصر. سكب ما تبقّى من شايه على الأرض ووضع (الاستكانة) على لوح الخشب. وحين بحث في جيوبه عمّا يدفعه لها؛ قالتْ:
- روح يُمّه.. أنا ما آخذ من رَبْع ابني.
وبقيتْ تتابعه يبتعد، دون ظلّ، نحو وسط الساحة.. فيما انسحب ظلّ البوابة بعيدًا تاركًا جسدها كلّه للشمس.
* * *
كما كنتُ أراه؛ كان المكان يراني، وأنا أجرّ خطواتي فيه، متهالكًا كجدارٍ قديم.
بدت الساحة، الساحة الكبيرة، أمامي غير تلك التي تركتها بعد آخر التحاق لي. المرآب الرئيس، وأنا أراه من جهة الشارع الأخرى.. حيث كنتُ قبل آخر النازلين من الحافلة، بدا لا يُشبه ذاك.. فيما يمتدّ جسر كبير، بمقترباته، فوق الساحة عابرًا إلى جهتها الأخرى. لا أثر للحوت، المثلوم الظهر، وصيّاده الشرس.. ترك مكانه لنصب بديل يبدو هجينًا.
كانت الحافلة قد ذهبت.. والناس، الذين نزلتُ معهم في ظلّ جسرٍ للمشاة لم أرَه من قبل، تفرّقوا كلّهم. (ربما أخطأتُ الخط)..هكذا قلتُ. وبدأتُ أستعيد لحظات صعودي هناك: في مرآب العاصمة الكبير لخطوط النقل المتّجه جنوبًا. (بصرة؟). لم يجبني.. ولكنّي صعدتُ على أمل الوصول إلى أيّ مكان يقرّبني منها.
وأنا أخطو وسط الحافلة نادتْ عليّ عجوز تجلس في الخلف: (تعال هنا.. هنا أحسن لك). وكنتُ حينها موشكًا على وضع حقيبتي على الرفّ فوق أحد المقاعد الفارغة. (هنا أحسن لك).. قالت ذلك وهي تربّتُ، بيدها، على صفّ المقاعد الأخيرة المتلاصقة. وإذ اقتربتُ منها؛ وجدتُ أنّها بائعة الشاي، أو ربما واحدة تشبهها.. لا أدري. ثمّ فرشتْ لي عباءتها ودَعَتْني، بعينيها، لأنام. (سيأتي مَنْ يجلس هنا). (لن يأتي أحد).. وتناولتْ الحقيبة من يدي ووضعتها على طرف المقعد البعيد. وضعتُ رأسي عليها، فبدا سقف الحافلة أمامي ببياض منطفئ. أمتعة قليلة أخذت مكانها على الرفّين الطويلين. سألتها:
- أين تصل هذه الحافلة؟
- إلى حيث تريد.
- البصرة. سألتُ الرجل الواقف قرب الباب قبل أنْ أصعد ولم يجبني. لا يبدو أنّه سمعني.
- وأنا كذلك. ولكنّها ستصل.
كان جسدي قد بدأ يتخلّص من بعض حرارته.. وستائر الحافلة المرخاة تضفي على الجوّ تباشير عتمة. وإذ لم أجد ما أقوله؛ أدارت المرأة ظهرها إليّ.. ثمّ وضعتُ (بيريّتي) على وجهي وأغمضتُ عينيّ.
* * *
وكأنّ يدًا أيقظتني.
كانت الحافلة متوقفة في ظلّ جسر للمشاة، لا يبدو جديدًا.. ومع ذلك.. لا أتذكّر أنّي رأيته من قبل، يمتدّ إلى جهة الشارع الأخرى. قليلون فقط، كانوا ما يزالون يقفون، في ممّر الحافلة الضيّق. تبعتُهم.. فيما كان راكب آخر ما يزال يجمع أشياءه المبعثرة على المقعد، ولمّا انتهى؛ جاء ووقف خلفي.
لم تكن العجوز موجودة، لا أدري متى نزلتْ.. ولا كيف سحبتْ عباءتها من تحتي دون أنْ أشعر. ربما أعطيتها وعدتُ إلى النوم.. ربما. كنتُ تعبًا.. والليل يقيء سواده كلّه على الصبح ليُخيفه. وكنتُ أنتظره وحقيبتي على السرير.. و(البسطال) في الخارج، وكنتُ قد غسلته، لم ينشف بعد. لبسته رطبًا. ونسيت برودة قدميّ عندما وضعتُ نموذج الإجازة في جيبي. ومن على ظهر سيّارة (الإيفا)، وهي تتهادى من مكانٍ ما على جبل لم أرَ رأسه كما لو كانت تلفّ حول صدفة حلزون، كنتُ أتتبّع حافة الطريق خوفًا من انزلاق العربة المتهالكة في وادٍ لا قعر له. لا أتذكّر متى غفلتْ عيناي عن الحافة.. إلا أنّني أضعتها.
لم يبقَ أحد سواي تحت الجسر وقد سحب ظلّه بعيدًا بعد أنْ سئم وقوفي. زحفتُ إليه مرّة أخرى دافعًا حقيبتي بقدمي.
لم يبقَ أحد. بعض، ممَّنْ نزلوا معي، حمل أشياءه وابتعد.. فيما استقلّ آخرون سيارات صفراء، يمتلئ بها الشارع، بعد حوارات، لا تستمرّ طويلًا، مع سائقيها.
لم تقف أية سيارة قربي. وكنت بانتظار مرور إحدى سيارات الأجرة، ذات الّلونين، لأشير إليها.. ولكنّ أيًّا منها لم يمرّ وكأنّها قد اختفتْ من الشارع كلّه. تراجعتُ للخلف وحقيبتي بين قدمي. ثمّ جلستُ فوقها مسندًا ظهري إلى أحد الأعمدة الضخمة التي تحمل الجسر.
كان النهار يلملم أشلاءه حين توقفتْ أمامي واحدة منها وكأنّها سقطتْ من الجسر. فتح لي السائق، من الداخل، الباب القريب منه. (عاطل).. قال لي بعد أنْ جلستُ قربه وأغلقته مرّاتٍ عدّة قبل أنْ ينطبق أخيرًا.. بعدها انطلق بي دون أنْ يسألني عن وجهتي.
* * *
لم يستطع السائق الانعطاف يسارًا نحو مركز المدينة. لا اثر للساحة! ولا لإشارة المرور التي كانت هناك. (لا أدري.. أمس مررّتُ من هنا وكان التقاطع موجودًا).. سمعته يحدّث نفسه ونحن نعبر ظلّ الجسر الكبير الممتد فوقنا. (أنا كنتُ هنا قبل شهرين).. قلتُ له، وعيناي تتابعان الطريق الطويل والأبنية الكبيرة المنتشرة على جانبيه، (وربما أكثر.. أنتَ تدري: هناك يضيع الحساب، عندما تطول المدّة ننسى كلّ شيء، ونبقى نعدّ القذائف التي تسقط ورفاقنا الذين يموتون.. ثم نترك كلّ شيء لنعدَّ، فقط، اللحظات التي بقيتْ لنا).
تائهين كنّا، أنا وهو، في طرق تحاول ذاكرتي استعادة ملامحها، يسلمنا جسر إلى جسر، وتقاطع إلى تقاطع. ولم يكن يبدو عليه أنّه يعرف الطريق جيّدًا. سألته:
- هل ستوصلني؟
- أنا خرجتُ لأوصلك وأعود.
نظرتُ إليه. ربما كنتُ أعرفه.. رأيته في مكان ما، فنحن أبناء مدينة واحدة، احتوتْنا الطرق.. المدارس.. الحدائق ذاتها قبل أنْ تحتوينا جبهات الحرب. أردتُ سؤاله إنْ كان جنديًّا، ولكنّي أدركتُ تفاهة ذلك؛ فالجميع جنود. بقيتُ أتابع الطريق.. ألتقط ما بقي من تفاصيله.. الصور المنتشرة، لفتيان بملابس حرب لا تشبه ملابسي، حول الساحات، على جانبي الطرق، وعند تقاطعاتها.. كلّهم قُتلوا في معارك جرتْ في مدن أعرفها آمنة، مررتُ في بعضها وأنا في طريقي إلى هنا. لم أشعر بوجود حرب فيها، ولا رأيتُ أثرًا لها.
أرى البنايات الجديدة بواجهاتها الملوّنة! هل حدث كلّ ذلك في الأيام التي غبتُ فيها؟! نظرتُ إليه.. وكان مشغولًا بإيجاد مكان لسيّارته قرب بيت قديم لا يبعد كثيرًا عن بيتنا. (هنا).. قلتُ له كمَنْ فزَّ من غفوة عميقة.
نزلتُ هناك. أعطيتُ الرجل أجرته وأغلقتُ الباب مرّة.. ومرّتين قبل أن ينطبق أخيرًا. راقبته يبتعد. ثمّ حملتُ حقيبتي نحو بيتنا المختفي في الزقاق القديم وسط بيوت لا أعرف كيف بُنيتْ هكذا في فترة غيابي القصيرة.
* * *
كان الزقاق خاليًا، والأطفال القليلون، الذين رآهم هناك، لا يعرف أحدًا منهم. اجتازهم وكأنّهم لا يرونه. كان منطفئًا.. إلّا أنّ ظهور الباب الخشب للبيت، بلونه الغائب وشقوقه المتسعة حتى أنّه رأى ظلمة الدهليز عبرها، طرد وحشة الطريق وغربته. طرقه.. وطرقه.. وطرقه حتى خشي عليه أنْ يتحطّم. وخلال ذلك.. كان رنين الجرس، وقد أعاد تثبيته وسط الممرّ في إجازته الأخيرة، يصل إليه دون أنْ يخرج إليه أحد. ولأنّه يعلم أنّه مفتوح دائمًا؛ أمسك إحدى درفتيه بيده ودفع الثانية فانفتح لتواجهه ستارة القماش المتدليّة عند عنق الممرّ الضيّق.
كان باب غرفة الضيوف، وقد طُلي بلونٍ مغاير، مواربًا يتسلل منه خيط ضوء يبدد بعضًا من ظلمة المكان. (ربما يكون أحدٌ هنا).. هكذا قال. ثم دفع الباب ودخل. ولم يكن هناك أحد.
كانت الغرفة مضاءة. صور عديدة، يحاول لمَّ ملامحها، موزّعة على الجدران بترتيب معتنىً به.. وكانت صورته هناك: فوق الشبّاك المطلّ على الزقاق، بإطارٍ جديد.. وخطٍّ في زاويتها اليمنى.
تموز 2019
البصرة
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. اتكلم عربي.. إزاي أحفز ابنى لتعلم اللغة العربية لو في مدرسة
.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ
.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ
.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال
.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ