الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدرسون والشعر والخطابة والتأليف

مهدي شاكر العبيدي

2020 / 8 / 26
الادب والفن


رأيٌ غريب لا تسنده الحالات والوقائع والشَّواهد الماثلة جميعا ً في الحياة الأدبية هذا الذي سجَّله المرحوم زكي مبارك بخصوص تفوق أحمد شوقي على صنوه حافظ إبراهيم في خياله الشِّعري وصوره البديعية ومتانة نسجه كما يعبر القدماء ، إذ ينقضه ما يستجليه هو نفسه في شاعرية حافظ إبراهيم من جمال وروعة وصدق شعوري وتمكن من الأداء الفني الدَّال على وفرة محفوظه من روائع الأدب العربي شعرا ً ونثرا ً .

مجمل هذا الرَّأي أنَّ براعته في الحديث هي التي قضَتْ بأنْ ينتصر عليه شوقي غريمه ، وأنـَّه كان يتحدَّث ويتحدَّث إلى أنْ تنفد قواه فلا تبقى له قدرة على الغناء ، وكان شوقي يصمتُ ويصمتُ ليستجمَّ فتبقى له القدرة على السَّجع والغناء ، ويستنتج من هذا الكلام أنَّ القوى الإنسانية لها حدود ، وإلا فكيف يكون المدرِّسون أعجز الناس عن الشِّعر والخطابة والتأليف ؟ ، ألا يرجع ذلك إلى أنـَّهم يضيعون نشاطهم في الدَّرس فلا تبقى لهم عافية يساورون بها تلك المواهب الأدبية ؟ .

وقد قرأنا ذلك ضمن المقالات الأدبية القصيرة التي نشرها الرَّاحل زكي مبارك في بعض المجلات المصرية الصَّادرة في ثلاثينيات القرن الماضي بصدد شاعرية حافظ إبراهيم وسابقته في إنعاش الحياة الأدبية وبيان موقفه من عصره وناسه والطامعينَ في خيرات بلده ، مصاولا ً ما ساد من ذلك الطور من حياة السَّواد المصري من جهالة وتخلف واستكانة وخنوع لإرادة المحتلين وصنائعهم ، وبادرَتْ لجمعها ابنته الدكتورة كريمة ونشرتها مجدَّدا ً في كتيِّب صدر سنة 1978م ، في سلسلة ( المكتبة الثقافية ) .

لقد استدلَّ الكاتب في أكثر من موضع في المقالات المذكورة على أنَّ شاعر النيل كان أبعد عن التكلف والحذلقة وأميل إلى الترسُّل بوحي سليقته وطبعه سواء أكان ذلك في أحاديثه المدهشة الممتلئة بالأخبار والرِّوايات والأشعار المستقاة من بطون الكتب المأثورة التي رصد لها أوقاتا ً وساعات ليحيط بفصولها ويستوعب محتوياتها ، أم فيما صاغه من شعر قوي صوَّر فيه حال مجتمعه عبر ما جازه من ظروف ومرَّ به من مصاعب ، وفي هذا الاستدلال تبين المفارقة والتناقض بين ما سجَّله من رأي عن تمكن شاعر النيل من الحديث البارع العذب وعن تحليقه وتجويده في أشعاره وتوفيقه في تخيُّره لألفاظه الدَّالة والمطلوبة ، فضلا ً عن معانيه التي حكى فيها صفاء نفسه ونقاء جوهره وصدقه في سرِّه وعلنه .

وساق لنا الباحث عبر مراجعاته واستقراءاته عينات من أشعار حافظ إبراهيم في معارض الصَّبابة والرِّثاء والوطنية والشكوى من جور الزَّمان وعقوق الناس ، فصحَّ عندنا أنْ لا موجب لهذه الموازنات التي يجريها الدَّارسون بينهما من آن ٍ لآن ، إقرارا ً لأحدهما بالألمعية والرُّجحان على حساب الآخر ، لأنَّ لكلٍّ منهما وثباته ومدياته من الإبداع .

لكنَّ الحريَّ بالتمحيص والمراجعة هذا الاستنتاج الخاطئ الذي يستقريه الدكتور زكي مبارك عن عجز المشتغلينَ بالتدريس في الشِّعر والخطابة والتأليف بدعوى أنـَّهم يستنفدون طاقتهم وحيويتهم في محادثة تلامذتهم ومحاورتهم في حجرات الدَّرس ، حتى إذا انصرفوا إلى القيام بالتأليف والكتابة ظهر عجزهم وضعف قابليَّتهم ، فكانوا دون المتفرِّغين لهذا العمل من الذين يعتمدون في مورد عيشهم على منافذ وسبل لا تتصل بالتلقين بسبب ، فقد يبزونهم في سلامة عباراتهم وتوثيقهم للشَّواهد والآراء ومعرفتهم بآداب البحث ومناهجه .

ولا تقلْ أنـَّنا نتداول كتبا ً يعتدُّ بما فيها من فكر ، ونعجب بما انتهجه أصحابها في تأليفها من خطة ، وعنوا في فصولها بنقض ما ران على حياة مجتمعنا أزمانا ً من أوهام وأضاليل في غاية الصَّراحة والمكاشفة ، غير مبالينَ بتخرُّص الجامدين والمقلدين ، وانَّ هذه الكتب أطلع بها ذات يوم أساتذة جامعيون متخصِّصون بالدِّراسات الإنسانية والاجتماعية وعلوم اللغة العربية ومنها تاريخ الأدب والنقد ، وانَّ هذه المباحث الضافية التي انطوَتْ عليها تلك الكتب لم تكن من قبيل المحاضرات المجموعة التي كانوا يلقونها على أسماع الطلبة والتي استندوا في إعدادها إلى الموسوعات والمصادر المعهودة ، بل كان كثير منها مبتدعا ً استوحوا في تدوينه نوازع نفوسهم وخواطر قلوبهم ، مع ما تتركه في تلك الآثار والنتاجات من الصِّدق والحرارة والامتلاء بالشَّيء الكثير من اللذع والإحساس بالكمد الوجيع .

لا تقلْ إنَّ هذه الأدبيات تجبُّ رأي المدرِّسين والمربِّين في مضمار التأليف وما يتصل به من شعر وخطابة ، فما لهذا ننحو في استقراء العوامل والأسباب الآيلة لهذه النتيجة إنْ كانت ماثلة حقا ً على صعيد الثقافة ، وإلا فإن مؤلفات زكي مبارك نفسه وأطروحاته الرَّصينة تكفي وحدها دليلا ً لو أردناه على خطل هذه النتيجة التي انتهينا إليها من مقدمة غير صحيحة أصلا ً ، فعدمَتْ بهذا الاعتبار مصداقيتها من العلم والدِّقة والتعريف الصَّحيح المحيط بمعناها وكونها نتيجة .

لنا أنْ نلقي التبعة في ذلك على الظروف التي أوجبَتْ انخراط هذا الرَّهط من المثقفينَ أو المعلمينَ أو الدَّارسين ، أينما شئتَ توزيعهم في صنوف ومراتب فيما لم يكونوا من جانبهم ميسرينَ له وقادرينَ عليه من وظائف وأعمال ، أي أنـَّهم بصريح العبارة يعدمون الشَّرط الأساسي في العطاء الأدبي أو بالنسبة له بوجه خاص ، ونعني به الموهبة التي بدونها يشقُّ على المحاول كتابة نص ٍ أدبي مستوفٍ عنصره من الجمال ومؤدٍ عبر صياغته الفنية إلى إحداث تأثيره النفساني في الضَّمائر والنفوس ، قد يتسنى للواحد منهم نتيجة الدُّربة والمداولة والتلقين وبفعل ملكات معينة من المثابرة والنشاط والصَّبر والحيوية والاستهداء بالتجارب واحتذاء الغير ومجاراتهم في طرائقهم التدريسية أو حتى في سلائقهم الخلقية في التعامل مع طلبتهم ومريديهم ، نقول يتسنى له ـ لا سِيَّما أنَّ حديثنا ينصبُّ على دنيا الأدب ـ أنْ يغدو مدرِّسا ً ناجحا ً في المراحل الدِّراسية كافة يعنى بتلقين مبادئ النحو وقواعده والتعريف بفنون الأدب العربي ومذاهبه في الماضي والحاضر من غير انسياق وراء المبالغات التي تؤكد سبق أعلامنا القدامى أندادَهم من الغربيينَ المحدثينَ إلى المذاهب الأدبية وخصائصها المعروفة ، لكن إذا عنَّ له ذات يوم أنْ يدبِّج بيانا ً أو ينشئ نصا ً أو يصوغ عملا ً فنيا ً فيه من التفرُّد والأصالة والاختصاص بنمطٍ معين من النسج والرَّصف وإقامة العبارة ، افتضح عجزه وفشله وخيبته في أنْ يكون من الأدباء الناجحين .

هذا هو القول الفصل في عجز المدرسين عن الشِّعر والخطابة والتأليف ، فلا مضاؤهم ولا عناؤهم بمستنفدٍ عافيتهم ومستهلك طاقتهم ، حتى لا يكون ذلك حُجَّة بيد بعض من يفشلون حتى في تأدية الواجب التدريسي فيتولون عنه إلى أشغال أخرى ، لا تتطلبهم قدرا ً من إحسان الملاءمة بين مزاجهم الشَّخصي ومشارب الطلبة الذين يستقون العلم منهم ، بدعوى نزولهم على دواعي الموهبة الأدبية وما يلزم لها من انقطاع وتفرُّغ ، وإنَّ الأثر الذي يبقونه في الجمهور الواسع العريض يفوق نظيره الذي ينصرف إلى رعيل الطلبة المحدود .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال