الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سمير اللإسكندراني … خالدٌ كما تعاويذ الفراعنة

فاطمة ناعوت

2020 / 8 / 29
سيرة ذاتية


هذا واحدٌ من أصعب المقالات في حياتي. عسيرٌ للغاية أن أكتبَ عمّن أحبُّ بصيغة الماضي: (كان). اعتدتُ أن أعلنَ لمن أحبُّ عن حبي له في حياته، وليس كمقال تأبين بعد رحيله، كما تفعل الدولُ التي أحيانًا تنسى رموزَها ولا تتذكرها إلا بعد غيابهم. وماذا يُفيدُ الماجدُ أن تُذكَر أمجادُه بعد موته؟ التكريم في الحياة هو التكريم.
حين أعلنتُ، قبل أعوام كثيرة، النجمَ سمير الإسكندراني أبًا روحيًّا لصالوني الشهري، قلتُ في كلمتي: “ما كلُّ هذا الألقِ الذي يسكنُ الرجل الذي يجلس جواري على المنصّة الآن! ما سرُّ ذاك الإشعاع الذي ينبعثُ سَناهُ من بين ثناياه؟! رجلٌ فريدٌ، نسْجٌ وحدَه، يأتي مثلُه كلَّ ألف دهرٍ ودهر. يأبى الچينومُ البشريُّ أن يسمح بتلك التركيبة الإنسانية المعقدة الشفيفة، الصوفية العذبة، السهلة العسرة، النوارنية النيّرة، الآسرة الكاسِرة، إلا مرّةً كلَّ ألف عام. ولا يمنحُها إلا لبلاد تستحقُ أن تكون صانعةَ المواهب، وأمَّ التاريخ والدنيا، اسمُها: مصر.”
أنا أحبُّ هذا الرجل. أحبُّه منذ خفق قلبي خفقتَه الأولى. وصنع ذهني الصغيرُ، على شاكلته، نموذجَ الفارس؛ الذي لا يكونُ الرجلُ إلا عليه. فارسٌ صوفيٌّ من عصور النبلاء. خرج لتوّه من كتاب الحواديت ليقُصَّ علينا بعضًا من تاريخ مشبّع بالبطولاتِ التي منحها للوطن حتى يأمَن، والبهجاتِ التي منحها للحزانى حتى يبتسموا، والحواديتِ التي يمنحها للخائفين حتى يطمئنوا، وقبساتِ النور التي ينثرُها على رؤوس الضالّين حتى يعرفوا طريقَهم، والمواويلِ التي يمنحها للموحودين العازفين عن الدنيا حتى يأنسوا، فينتبه الكونُ على صدحِه ويعرفُ أن راهبًا صوفيًّا قد ترك خلوته وخرج على الناس ينثر بينهم الحبَّ والسلام والعذوبة والغناء، فيبتسمُ الكونُ، وتُشرقُ السماءُ بنور الله.
هو إحدى أجمل حناجرَ هذا الكون، وأكثرها ثقافةً. هناك حناجرُ جميلةٌ تمنحك صوتًا غرّيدًا شجيًّا تطرب له. وهناك حناجر مثقفة تمنحك حالا من السياحة والسباحة والتأمل والشجن الروحي والذهني. وهناك حناجر نادرة تجمع الحُسنيين. الجمال والثقافة. هذا هو. الرجل ذو الحنجرة الجميلة والمثقفة. كيف تجتمع القوة والعذوبة؟ نقيضان لا يجتمعان إلا في قطرة الندى التي من فرط عذوبتها تذوبُ على ورقة زهرة، ومن فرط صلابتها تنقر الصخرَ وتُصدّع الجبال. تلك هي المعجزة الصوتية التي يمتلكها هذا الفارسُ النبيل.
هو أبي الروحي الجميل "سمير الإسكندراني". تعلّمت منه في طفولتي أن أحبَّ الناسَ جميعًا حين سمعته يغنّي: “ده أصلنا الإنسانية/ والأب واحد يا عالم/ وكلنا من دم واحد/ ألفين سلام لك يا آدم". وتعلّمتُ أن أحب بلادي وأبناء بلادي حين سمعته يقول: “إخواتي تلبس وتاكل/ اجعلني حبّة تفرّع/ وتبقى فدادين سنابل/ . وأبدر على الناس محبة/ وبسمة في كل دار..” وأحببتُ فرانك سيناترا وتمنيتُ ان أقع في الحبّ؛ حين سمعته يغني بحنجرته العربية Feelings. وأحببتُ أنوثتي حين سمعته يغرّد: “قدّك الميّاس". وتمنيتُ أن أشبَّ وأرتدي ثوب الزفاف وطرحة العرس، حين سمعته يغنّي: “طالعة من بيت أبوها/ رايحة بيت الجيران...”، و"زفّوا الخبر الشمس رايحة للقمر". وأحببت السفر خارج مصر؛ حتى أشتاق إليها بعد برهة، حين أسمعه يأنُّ في شجن: “Take me Back to Cairo/ Beside the River Nile في جديلة واحدة مع “يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا”. ما هذا الإعجاز الموسيقي الرؤيوي الوطني! وأحببتُ فرادتي وأن أكون نفسي وليس أحدًا آخر، حين سمعته يغنّي: “My Way”.
هو ابن الغورية، ربيبُ الحاج فؤاد الإسكندراني، التاجر المثقف المستنير الذي غرس النبتةَ وأحسن ريّها وتشذيبها في بيئة جمعت بيرم التنوسي والشيخ زكريا أحمد. علّمَ ابنه الطفل، ابن الخامسة، أن يصلي الفجر في مسجد الحسين، ثم يذهب به إلى حارة الروم، ليزورا راعي الكنيسة يهنآنه بعيد القيامة المجيد. فنشأ الطفلُ صحيح النفس سويّ الروح، نظيف العقل، لا ينقصه إلا أن يدرس الفنون الجميلة على أيدي الإيطاليين فتُصقَل ريشتُه، ويتشعّب لسانُه المصري إلى ألسن عديدة إنجليزية وإيطالية وفرنسية ويونانية، فيتلّون صوتُه بألوان العالم، ثم "تتدوزن" حُنجرتُه الاستثنائية مع الأيام ويكتملَ كمالُها الألماسي حتى يغدو مَن هو الآن، تلك الأيقونة المصرية الفريدة، التي لا شيء يشبهها.
قبل سنوات طلبتُ إليه أن يكون الأب الروحي لصالوني الأدبي الشهري، فلبّى طلبي بكل رقي. هو الذي لم يخذل محبيه ولا وطنه. ولا حتى خذل وردة صغيرة خلدت إلى النوم بين يديه الطيبتين، فأراحها فوق كتابٍ، وادعةً مطمئنة. كان يجيء إلى الصالون بكامل سموّه ووسامته وطيبته، قبل مجيء الجمهور. منضبطٌ انضباط فنان تشكيلي وثعلب مخابرات وفنان عالمي. وكان جمهورُ الصالون يحتشدون حوله يصفّقون غير مصدقين أنهم يرون من أرهقنا عذوبةً وشجوًا. قالت له سيدة جميلة في شعرها الفضي: “أيام الجامعة كنت أنت نموذج الشاب الوطني المثقف المناضل. حدّثنا عن تاريخك المشرّف في المخابرات المصرية، وكيف أنقذت جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، وأنت بعدُ طالبٌ في بداية حياتك. فحدَّثنا.
إنه تعويذة الفراعنة الغنيّة بالمجد والمواهب. سمير الإسكندراني، حبيبي وأستاذي وأبي الروحي. أعتزُّ بك... وآآآه يا جميل... يا الذي تقطرُ موسيقى وتنثرُ الفرح، عِش ألف عام لأن الخالدين لا يرحلون.

******








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. !ماسك يحذر من حرب أهلية


.. هل تمنح المحكمة العليا الأمريكية الحصانة القضائية لترامب؟




.. رصيف غزة العائم.. المواصفات والمهام | #الظهيرة


.. القوات الأميركية تبدأ تشييد رصيف بحري عائم قبالة ساحل غزة |




.. أمريكا.. ربط طلاب جامعة نورث وسترن أذرعهم لحماية خيامهم من ا