الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لبنان والحراك الثوري على منعطف خطير

جاد بوهارون

2020 / 8 / 29
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي



علينا الاعتراف أن لدى إيمانويل ماكرون الإحساس بالتوقيت المناسب. فرئيس فرنسا، الدولة التي تمدُّ الأجهزة الأمنية اللبنانية بالأسلحة التي تُستَعمَل في قمع الاحتجاجات، استفاد من الصدمة والاندهاش السائدين في بيروت غد الانفجار ليلعب فيها دوره المفضل؛ دور طائر الرحمة، مستنبطًا بعض التعاطف الرخيص في لبنان كما في فرنسا. لكن بعد الدهشة جاء الغضب، ولم يعد للدجالين من نوع ماكرون مكانٌ بين المتظاهرين من جهة، وقوى القمع من جهة أخرى. والملفت أن حتى أبواق الطبقة الوسطى ومنظماتها التي تسمي نفسها “المجتمع المدني” حملت شعار المواجهة وتعليق المشانق بدل إصرارها الاعتيادي على التظاهرات “السلمية”، في دليلٍ على كمِّ الغضب والحقد التي ولَّدته الطبقة الحاكمة قي قلوب الناس أجمع. لكن رغم انفجار الغضب الذي أطاح الحكومة للمرة الثانية عام 2020، لا تزال الطبقة الحاكمة بأسرها متجذرةً في السلطة، من رجال الأعمال إلى الزعماء السياسيين والدينيين؛ تنتظر اللحظة المناسبة لضرب الطبقات الفقيرة والوسطى من جديد برفع الدعم عن الاحتياجات الأولية.
ربما لن نعلم السبب المباشر للحريق الذي دبَّ في مرفأ بيروت، والذي أدَّى إلى تفجير ما يزيد عن ألفي طن من مادة نيترات الأمونية، لكن الخطوط العريضة التي ترسم سياق هذه الكارثة بدت تتوضَّح بعد مرور ثلاث أسابيع على الانفجار. فمن صاحب السفينة المُحمَّلة بهذه المواد الخطيرة، والذي فضَّل التخلي عنها وعن الطاقم في المرفأ بدل تسديد تكاليف إصلاحها، إلى مدراء الجمارك والمرفأ الذين احتفظوا بهذه المواد في العنبر رقم 12 على أمل بيعها يومًا ما بدل إتلافها كما ينص القانون، وحتى إلى رئاستي الجمهورية ومجلس الوزراء اللتين تجاهلتا تقارير أجهزة الأمن التي أنذرت بهذه الكارثة. الصورة الأولية هي صورة جشع وفساد وعدم كفاءة وازدراء بأمان الناس، يلخِّصها بالفعل شعار عصر الرأسمالية: الأرباح قبل الأرواح! كما ألقت هذه الكارثة الضوء على التحاصص الطائفي وتقسيم النفوذ في المرفأ وتوزيع ثماره على مختلف أحزاب السلطة وداعميها من كبار رجال الأعمال، والاستغلال المفرط للعمال المياومين، وأخيرًا وليس آخرًا، عنصرية أجهزة الدولة التي لم تحتسب السوريين والبنجلاديشيين الذين سقطوا بالعشرات ضمن قائمة الضحايا!
جاء انفجار المرفأ في إطارٍ مأزوم للغاية، فسعر صرف الليرة اللبنانية تدهور بشكل كارثي منذ أكتوبر العام الماضي، ومعه المستوى المعيشي للغالبية العظمى من سكان البلاد. أما كبار الأغنياء والزعماء السياسيون والدينيون، فهرَّبوا أموالهم من البلاد، وأياديهم الجشعة ومعهم الدول الإمبريالية تمتد من جديد نحو بيروت للاستيلاء على ما تبقى من ثروات الشعب. فمن أين تأتي الأزمة وما هي آفاق المقاومة؟
لمحة عن الاقتصاد السياسي للانهيار
تشكَّلَت الطبقة الرأسمالية اللبنانية البكرة حول مرفأ بيروت في منتصف القرن التاسع عشر، حيث كانت تلعب دور الوسيط التجاري والمالي لتصدير الحرير الذي كان يُصنَع في جبل لبنان (أي المناطق الساحلية والجبلية المحيطة بمدينة بيروت) ويباع في السوق الفرنسي. هؤلاء الوسطاء والتجار أصبحوا مقرضين ماليين وأسسوا أول المصارف اللبنانية، وباتوا يلعبون دورًا محوريًا في الاقتصاد المحلي وفي صياغة علاقات لبنان التجارية مع الخارج رغم تدني صناعة الحرير وانتكاسها شبه التام في بدايات القرن العشرين.
جاء انهيار الدولة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، وأسَّس “لبنان الكبير” كيانًا خاصًا لهذه البرجوازية برعاية الإمبريالية الفرنسية، حيث ضمت “طرابلس الشام” وصيدا وسهل البقاع إلى جبل لبنان ليشكِّلوا لبنان بحدوده المعروفة حاليًا. أثَّر الوزن السياسي لهذه الطبقة المالية والتجارية على مسار الدولة والاقتصاد اللبنانيين تأثيرًا بالغًا، فعلى عكس معظم الدول المجاورة لم يتجه لبنان يومًا نحو سياسات التصنيع المحلي وإحلال الواردات، وهذا لأن كانت (ولا تزال) البرجوازية اللبنانية تؤمِّن أرباحها وتكدسها الرأسمالي من خلال القطاع المصرفي والتجارة الحرة، وليس من خلال التصنيع. بلغة الاقتصاد السياسي الماركسي، نعني أن الطبقة الرأسمالية اللبنانية لا تستخرج القيمة المضافة مباشرةً بل تخطف قيمةً مضافة مستخرجة في مكانٍ آخر، من خلال سيطرتها على المرافق التجارية والمصارف. هذا ليس نمطًا استثنائيًا أو “شذوذًا”، فقطاعاتٌ كاملة من البرجوازية العالمية تخصَّصَت في اختطاف قيمة مضافة مثل وول ستريت في نيويورك والسيتي في لندن، لكن هذا النمط لديه تأثيره على التوجهات الاقتصادية والعلاقات الاجتماعية.
استفادت المصارف اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين من تدفق أموال البرجوازية الفلسطينية بعد النكبة، علاوة على أنها لعبت دور الوسيط بين أموال بترول الخليج الباحثة عن منافذ استثمارية والأسواق المالية العالمية. فلم يكن من المفاجئ أن تعكس سياسات إعادة إعمار البلاد بعد الحرب الأهلية، التي انتهت عام 1990، سيطرة البرجوازية المالية والتجارية، في إطار فرض الليبرالية الجديدة حول العالم، وسنلخِّص معضلة تلك السياسات كالتالي: في غياب الاستثمارات في القطاعات المنتجة التي لا تجني الأرباح الكافية للرأسماليين المحليين، يجد لبنان نفسه في حالة عجز تجاري بنيوي، أي أنه يستورد بضائع بقيمة أعلى بكثير من قيمة صادراته. هذا يعني أن البلاد بحاجةٍ إلى تدفُّقٍ دائمٍ للعملات الأجنبية، الوحيدة القادرة على تمويل هذا العجز. وتدفق العملات هو نفسه الذي يؤمِّن أرباح البرجوازية. كيف إذًا يجذب لبنان العملات ؟
أولًا، من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية، وخصوصًا الخليجية منها، إلى قطاعاتٍ غير منتجة مثل التجارة وبعض الخدمات والعقارات. قد يكون أفضل رمز على ذلك هو نهج إعادة إعمار وسط بيروت، إذ صودرت عقاراته قسريًا لصالح شركة خاصة نالت حصة الأسد من الاستثمارات لتحوِّل وسط بيروت إلى سوقٍ تجارية لكبار الأغنياء، بينما تركت باقي المناطق في نكبتها. ثانيًا، استفاد لبنان من تحويلات العمالة اللبنانية المقيمة في أوروبا والخليج، وهي عمالة مؤهلة تحصل على أجورٍ مرتفعة نسبيًا تحوِّل قسمًا منها الى أهلها وأقاربها في لبنان. وقد وصلت هذه التحويلات إلى تشكيل ما يقارب ربع الناتج المحلي عام 2008، قبل أن تركد نتيجة الانكماش الاقتصادي العالمي.
أما الآلية الثالثة والأهم لجذب العملات الأجنبية إلى لبنان فهي التي تربط الدين العام للدولة بالسوق المالي العالمي من خلال المصارف اللبنانية، فهذه الأخيرة تجذب الودائع الآتية من الخارج (لا سيما من أموال البرجوازية اللبنانية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية) من خلال فوائد عالية جدًا قد تصل الى أضعاف الفوائد على السوق العالمية. لكن كيف تموِّل المصارف هذه الفوائد؟ إنها بكل بساطة تقرض الدولة اللبنانية مستخرجةً منها فوائد أعلى. بهذه الطريقة يجني القطاع المصرفي اللبناني أرباحًا رهيبة على حساب خزينة الدولة، فوصلت ربحية كبار المصارف اللبنانية (أي مجموع أرباحها الصافية نسبةً لرأسمالها الذاتي) عام 2018 إلى ما يفوق ضعف معدل ربحية المصارف الأوروبية والأمريكية. أما الدولة، فقد كرَّست ما يفوق 40% من ميزانيتها في نفس العام لخدمة الدين العام. كل هذه الأموال تذهب إلى المصارف اللبنانية وأصحابها من رأسماليين لبنانيين وأجانب، ولا تنفق على التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والعامة، أو على البنية التحتية التي باتت شبه منعدمة.
انكمشت مصادر العملات تدريجيًا مع الركود العالمي، كما تآكل ما تبقى من الصناعة المحلية في غياب الاستثمارات المنتجة فزاد العجز التجاري، ولم تعد دورات المضاربة المتتالية التي استفادت منها المصارف تكفي لإخفاء الطبيعة غير المستدامة لهذه التركيبة الاقتصادية. إلا أن ذلك لم يمنع، في طبيعة الحال وكما رأينا أعلاه، المصارف ومعها كبار الأغنياء من تحقيق أرباحها التي تضخمت مع تضخم الأزمة، فكما كتب ماركس: “عند كل مضاربة يعلم كل شخص أن العاصفة ستنفجر يومًا ما، ولكن كل شخص (من أصحاب رأس المال) يأمل بأنها ستنفجر فوق رأس جاره بعد أن يتمكَّن هو من جني المطر الذهبي وإخفائه في مكان أمين. “من بعد أرباحي ليأتي الفيضان!” ذلك هو شعار كل رأسمالي وكل أمة رأسمالية”.
وتبيَّن بالفعل أن ما سُمِّيَ بالهندسة المالية، وهي جملة من الإجراءات المعقدة اتخذها مصرف لبنان المركزي ابتداءً من عام 2015 لتأمين سيولة العملة الأجنبية، لم تكن سوى حيلة محاسبتية مبتذلة أعطت البرجوازية مهلةً لترتيب أوضاعها وأخَّرت موعد الانهيار الحتمي، كمحكوم إعدام يتباطأ في تدخين آخر سيجارة قبل الصعود إلى المشنقة.
ولكن.. ماذا عن الفساد؟
لا شك أن الفساد يعم في لبنان، ولا أحد ينكر ذلك أصلًا. حتى كبار السياسيين اللبنانيين الذين يترأسون ما يسمى بـ”المنظومة الفاسدة” يعترفون بذلك، ويرفعون شعار الإصلاح ومحاربة الفساد، ويتفقون على ذلك الشعار الجميل مع المؤسسات الدولية والرئيس الفرنسي والمنظمات غير الحكومية وأصحاب المصارف والحزب الشيوعي اللبناني والمتظاهرين والمتظاهرات في شوارع بيروت. لكن كلمة “فساد” تفترض وجود جسم صحي في جوهره، أو كان صحيًا يومًا ما وتم إفساده. فما هو هذا الجسم صحي، وأين نجده؟ لم يجبنا أحدٌ بعد على هذا السؤال. من جهة ثانية، يفتح التركيز الحصري على ظاهرة الفساد الباب أمام المقاربات الأخلاقية للصراع السياسي التي تحجب العلاقات الاجتماعية والفروقات الطبقية. فيوضع الفقير الذي يتهرَّب من دفع فاتورة كهرباء في خانة “الفاسد” على حد سواء مع مقاول أشغال عامة يسرق الملايين أو مع صاحب مصرف يسرق الميليارات! من هنا يأتينا حراس الأخلاق والقيم، وهم غالبًا من الطبقة الوسطى المستعلية، باستنتاجاتهم الغبية التي لا تخدم سوى الطبقة الحاكمة، مثل “الشعب اللبناني بطبيعته فاسد”، أو “هذا الشعب الفاسد يستاهل حكَّامه”.
ليس الفساد أصل المشكلة، بل عارض من عوارض التركيبة الطبقية في لبنان، وغالبًا ما يلعب دور المسهِّل والمنظِّم لعملية التراكم الرأسمالي كما تتجلَّى على أرض الواقع. لم يتكلم أحدٌ عن “فساد” طول الثلاث عقود التي اعتمدت فيها الدولة سياسات الدين العام التي أمَّنت التراكم الرأسمالي لأصحاب المصارف، على العكس، فقد حاز حاكم مصرف لبنان على عشرات الجوائز الدولية لحسن إدارته للاقتصاد النقدي، وتم تكريمه في بورصة وول ستريت وفي قصر الرئاسة الفرنسية. ألم ينتبه أحدٌ في تلك المؤسسات العالمية الراقية أن رؤساء الحكومات المتعاقبة، الذين وضعوا حاكم مصرف لبنان في منصبه وجددوا ولايته على مدار ثلاثين عام، كانوا هم أنفسهم من المساهمين في المصارف؟ أما ما يُعرَف بالمحاصصة، وهو توزيع المناصب الكبرى في الدولة والإدارات العامة خصوصًا على المرافئ الجوية والبحرية حسب الولاء السياسي-الطائفي وليس الكفاءة، فهو يعطي الرأسماليين التجاريين مدخلًا إلى المراكز الحيوية للتراكم هذه من خلال أحزاب السلطة، وينظِّم التنافس الفوضوي بينهم. طبعًا يستفيد المدراء والضباط من مواقعهم ليكدسوا ثرواتٍ لأنفسهم من خلال الفساد، لكن الأهم وما يحاسبهم أسيادهم عليه هو قدرتهم على التمهيد لتراكم رأس المال وتزييت عجلة الأرباح.
مثلًا، لطالما كان حزب “التيار الوطني الحر” وهو حزب أسسه الرئيس ميشال عون، تنظيمًا يتوعَّد بمحاربة الفساد وبالإصلاح الإداري، وكان هذا الخطاب يتناسب مع ركيزته الشعبية من الطبقات الوسطى والبرجوازية الصغيرة. وليس غريبًا أن صعوده التدريجي إلى السلطة في السنين الأخيرة تزامن مع تقرُّبه من كبار الرأسماليين ورجال الأعمال المسيحيين من جهة، ومشاركته الكاملة في نظام المحاصصة من جهة أخرى تحت ذريعة حماية “مصلحة المسيحيين ككل”، حتى أصبح رئيس الحزب جبران باسيل، وخلال وقتٍ قياسي، أحد أكبر رموز الفساد في لبنان. أما حزب الله، الذي كان يستند على الفئات الشعبية والفقيرة، فقد واكب في السنين الأخيرة صعود برجوازية شيعية –خصوصًا في مجال التجارة والعقارات– وأصبح هو أيضًا جزءًا لا يتجزَّأ من “المنظومة الفاسدة”، مدافعًا داخل مؤسسات الدولة عن مصالح “فئته” من البرجوازية، بداعي الدفاع عن مصالح “الطائفة الشيعية” ككل. وكلما زادت الأزمة الاقتصادية حدةً، زاد التنافس بين الرأسماليين ومعه الفساد، كما رأينا في السنين الأخيرة.
من هنا فان الفساد ليس ورمًا ينمو في جسمٍ صحي، بل هو وسيلةٌ من وسائل توزيع الحصص بين الرأسماليين ويشكِّل تجليًا للنزعة التي أشار إليها كارل ماركس في البيان الشيوعي: “سلطة الدولة الحديثة ليست سوى هيئة تدير المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية بأسرها”.
نحو تجذير الصراع؟
مع اقتراب ذكراه السنوية الأولى، وصل الحراك الثوري إلى مفترق طرق. التظاهرات والاحتجاجات في بيروت والمناطق أطاحت حكومتين عام 2020، ما يدل بما لا يدعو للشك على أن الطبقة الحاكمة تمر بأزمةٍ سياسية عميقة، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية. بات واضحًا أن غالبية الشعب لم تعد تعوِّل على إمكانيتها أو حتى نيتها حل الأزمة الراهنة. هل يعني ذلك أن الطبقة الحاكمة ستعترف بعجزها وبعدم كفاءتها، فتقف جانبًا تاركةً المجال أمام “حكومةٍ مستقلة” ذات صلاحياتٍ استثنائية تؤمِّن الانتقال إلى نظامٍ جديد، كما يطالب الكثيرون؟
في الحقيقة، لن تستقيل الطبقة الحاكمة من تلقاء نفسها، لأن سبب وجودها وركيزة قوتها ليس إدارة أمور المواطنين والمواطنات بشكلٍ حيادي يضمن حياةً كريمةً للجميع. إن سبب وجودها الأساسي في المقام الأول هو تأمين أرباح أصحاب الرساميل ورجال الأعمال، فهذه طبيعة السلطة في عصر الرأسمالية. وهي مستعدةٌ أن تشعل حربًا أهلية طائفية والوصول بالبلاد والشعب إلى الهاوية (كما فعلت في الماضي) قبل أن تتخلَّى عن المناصب التي تؤمِّن لها الأرباح. حتى لو شكَّلَت حكومة “مستقلة” تمثِّل تطلُّعات الحراك بشكلٍ أو بآخر، فسنكتشف سريعًا أن قرارات هذه الحكومة لن تطبَّق لأن السلطة متجذرةٌ في الإدارات العامة، في القوى الأمنية وكبار ضباط الجيش، في القضاء ووسائل الإعلام، ناهيكم عن المصارف والمرافق الحيوية والتجارية وميليشيات مختلف أحزاب السلطة.
ما الحل إذًا؟ كيف تضرب هذه السلطة السياسية والمالية -وهي وجهان لعملة واحدة، وهي سلطة رأس المال– وتتخطى التقسيمات الطائفية التي ستحاول الطبقة الحاكمة محاربتنا بها؟ الحل في تجذير الصراع في مراكز التراكم نفسها. فإن كان الفساد يسهِّل عملية التراكم وينظِّم فوضويًا التنافس بين الرأسماليين أنفسهم، فلا مفر لهم من استغلال اليد العاملة لجني أرباحهم. فمن ينقل البضائع في المرافئ والمطارات والمستودعات التجارية؟ من يؤدي العمليات داخل المصارف، ومن ينفذ الأشغال التي تدرُّ أرباحًا هائلة للمقاولين؟ من يعمل في المستشفيات والمدارس والجامعات الخاصة والعامة؟ مع كل الفساد والمضاربة والتحاصص، لا أرباح من دون استغلال العمال والعاملات، لبنانية كانت أو أجنبية. وخير دليل على ذلك ما يُعرَف بالمياومة في القطاعين الخاص والعام، حيث لا راتب ثابت للعمال والعاملات ولا عقد عمل ولا ضمان اجتماعي، كذلك نظام “الكفالة” العنصري الذي يقيِّد العمال والعاملات غير اللبنانيين واللبنانيات في موقع استغلال واضطهاد مخزٍ، ناهيكم عن كل المخادعات “العادية” التي تسمح لرجال الأعمال بتفادي قانون العمل. تلك التركيبة الاستغلالية ضروريةٌ لتأمين أرباح الطبقة الحاكمة.
الطبقة الحاكمة نفسها تعي ذلك تمامًا، فهي تحاول دائمًا خرق النقابات وإفساد قياداتها والتقسيم بين اللبنانيين والأجانب وبين اللبنانيين أنفسهم من مختلف الطوائف. وقد رأينا في ماضٍ ليس بعيدًا إمكانية توحيد الطبقة العاملة ومعها الطبقات الوسطى بطوائفها المتعددة خلف المطالب المعيشية، كما حصل مع “رابطة الأساتذة” عام 2014-2015 رغم الخطاب الطائفي السائد آنذاك على خلفية تدخل حزب الله في سوريا إلى جانب نظام الأسد. وكما أظهرت حركة “التطهير” في مصر التي استهدفت المدراء الفاسدين والمقربين من نظام مبارك عشية ثورة يناير 2011، أو إضرابات العمال والعاملات في القطاع المصرفي خلال الثورة السودانية في الآونة الأخيرة، فبإمكان النضالات الاقتصادية أن تتحوَّل إلى نضالاتٍ سياسية تربط ما بين أماكن العمل المختلفة والشارع.
من هنا فإن العمال والعاملات ليسوا فقط ضحايا هذا النظام، بل إنهم يمسكون ويمسكن في أياديهم/ن إمكانية إسقاطه وأن يحلوا محلَّه نظامًا يضع أرواح الناس واحتياجاتهم من صحة وتعليم وسكن وعمل وخدمات، قبل أرباح الأقلية. لكن هذا لن يحصل بين ليلةٍ وضحاها، ولن تكفي الشعارات الرنانة مثل “كل القوة للعمال” إن لم تكن مبنيةً على عملٍ تنظيمي دؤوب يشجِّع النقابات المستقلة ويتجنَّب فخ الفصل ما بين النضال النقابي والسياسي من جهة، وفخ العنصرية تجاه العمال والعاملات الأجانب من جهة أخرى. فالطبقة العاملة في لبنان هي، شئنا أم أبينا، متعددة الجنسيات ومتعددة الطوائف؛ إما تتوحَّد وتنقذ البلاد وإما أن تقف جانبًا منقسمةً عاجزةً بينما يستولي اللصوص على ما تبقى من لبنان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة: انتعاش الآمال بالتوصل إلى هدنة في ظل حراك دبلوماسي مكثف


.. كتاب --من إسطنبول إلى حيفا -- : كيف غير خمسة إخوة وجه التاري




.. سوريا: بين صراع الفصائل المسلحة والتجاذبات الإقليمية.. ما مس


.. مراسلنا: قصف مدفعي إسرائيلي على بلدة علما الشعب جنوبي لبنان




.. القيادة الوسطى الأميركية: قواتنا اشتبكت ودمرت مسيرة تابعة لل