الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبن الفراشة

زهير صادق الحكاك

2020 / 8 / 30
الادب والفن


أبن الفراشة (قصة قصيرة)
خرج سامي من الغرفة التي يسكنها مع امه ، حاملا على ظهره حقيبة المدرسة التي اشترتها له امه قبل ايام، وهو فرحا مشرق الوجه ، تتبعه امه بنظراتها الحارسة وهو ذاهب لأول يوم في المدرسة ، سلمت على اهل البيت الذي استأجرت منهم الغرفة قبل عدة سنوات وغادروا باتجاه المدرسة. وقد ادمعت عيناها فخرا وفرحا بأنها قد انجزت اول العهد الذي قطعته على نفسها في أن تربي سامي لوحدها ، في ذلك اليوم الذي دفنوا فيه زوجها الشهيد، وأنكرتها عائلته وطردوها هي وابنها للنحس الذي جاءت به لهم.
نزلت هي وابنها من الحافلة، ماسكة بيده وهو يمطرها بأسئلته الكثيرة التي اجابت عن بعضها باقتضاب، وهي تتلفت لعبور الشارع، ولما وصلوا توقفوا لدقائق، عدلت فيها ملابس سامي وشعره، وقالت له بحزم:
- شوف ماما سامي، آني تعبت كثيرا حتى أوصلك للمدرسة، وراح اتعب ان شاء الله بعد اكثر حتى تخلص الجامعة، أمنيتي ان ترفع راسي وتصير شاطر وتطلع الأول باستمرار.
وصلت مع ابنها الى باب غرفة المديرة، طرقت الباب، ثم فتحتها ودخلت وقالت:
- صباح الخير ست انعام
- صباح الخير ام سامي، هذا هو سامي البطل ابن البطل، صدقيني لولا انه ابن شهيد وانت صار لك سنتين تعملين هنا ما كان قبلته، لأنك تعرفين انتم لستم من سكنة هذه المنطقة. ولخاطرك وضعت اسمه في شعبة ألف، اتمنى يكون شاطر.
-اشكرك كثيرا ست انعام ، واوعدك انه سيكون من الأوائل
غادرت غرفة المديرة وهي ما زالت ممسكة بيد ابنها، ولكنها في نشوة كبيرة وسعادة واضحة جعلتها تسلم على كل من صادفها من المعلمات وتعرفهم على ابنها سامي. اتجهت به الى غرفة شعبة الف ، دخلت معه واجلسته على رحلة في الصف الثالث، وقالت له بحزم:
- ابني سامي كون هادئ وانتبه جيدا لكل ما تقوله المعلمات، وفي فرص الاستراحة تعرف على الأولاد الجيدين وصير صديقهم. أنا سوف اكون في قسم الإدارة لأنني الفراشة هناك .
في اول درس دخلت معلمة الحساب بجسمها المترهل بطيات من الشحم المتوزعة دون انتظام بين بطنها ووركيها، وقد اضفى وجهها المتجهم ، بالرغم من صغر سنها ، منظرا مرعبا على وجوه هؤلاء الصغار، جعلهم يجلسون في مقاعدهم دون حراك كأنهم تماثيل صنعها نحات عبقري من الشمع والخشب. وقفت امام التلاميذ تدير بنظراتها القاسية عليهم وقالت بصوت عال :
- من منكم سامي أبن الفراشة سنية
رفع سامي يده مترددا وقد كست وجهه حمرة الخجل وهمس:
- أنا ست
نظرت اليه بعين كارهة متقززة كأنها ترى صرصورا وقالت:
- امك قالت للمديرة انك شاطر ولهذا وضعت اسمك في هذه الشعبة، راح انشوف !!
بفعلها القاسي، زرعت المعلمة في عقول هؤلاء التلاميذ هذه الكنية الخبيثة (سامي أبن الفراشة) التي لازمته طوال حياته الدراسية، وجعلته ينطوي على نفسه بالرغم من جهود امه في التخفيف عنه، وآل على نفسه ألا أن يصير ذو شأن كبير في المستقبل، تحديا لتلك العيون المتعالية عليه.
*******
جلس سامي في مقعده الجلدي الوثير، خلف مكتبه الكبير المطل على اجمل منطقة من نهر المدينة، يقلب بأوراق ملف كبير ، رفع رأسه ونظر الى معاونيه وقال :
- هل كل شيء جاهز، الخرائط ، جدول التنفيذ وغيرها؟
أجابه رئيس المهندسين:-
- نعم دكتور، ولجنة وزارة التربية للمناقشة، تنتظر في الخارج.

ضغط الدكتور سامي على الجهاز امامه، وقال: -
- أيمان، ادخلي الضيوف رجاء.
فتحت الباب ودخلوا اربعة اشخاص رجلين وأمرأتين ، جلسوا على مقاعدهم في جانب من طاولة اجتماعات كبيرة، وجلس امامهم اربعة من مهندسي الشركة يتوسطهم المدير. قدم المدير نفسه بأنه صاحب شركة المقاولات التي فازت بعقد تنفيذ بناية وزارة التربية الجديدة وقدم زملائه على انهم الفريق الهندسي المسؤول عن كافة التصاميم الهندسية للبناية، والتنفيذ.
نطقت السيدة الكبيرة بالعمر أسمها وبأنها تشغل منصب مديرة قسم العقود في وزارة التربية ورئيسة الفريق المتابع لتنفيذ مشروع البناية الجديدة، ثم قدمت أسماء فريقها.
عرف الدكتور سامي على الفور هذه السيدة، أنها معلمة الحساب في مدرسته الابتدائية، وتذكر كيف كانت تعامله بقسوة غير مبررة على الاطلاق، وكيف كانت تستهزئ به وبعمل امه وكيف انها صبغته بكنية (أبن الفراشة) طوال حياته. ولكنها لم تتعرف عليه.
بعد نقاش طويل وقف سامي وقال، حان موعد الغذاء، دعونا نذهب الى مطعم الشركة نأكل ونرتاح، ثم نعود لإكمال النقاش.
جلسوا على مائدة فخمة فيها ما لذ وطاب من الأكل المتنوع والعصائر، وراح الجميع يتكلمون في امور اخرى، يتخللها ضحكات هنا وهناك. نظر الدكتور سامي الى السيدة الممتلئة الجالسة على يمينه، وقال بتودد واضح:
- ارجو ان تكون شركتنا قد اعجبتك، بلا فخر انا ابذل جهدي في ان تبقى من أنزه وأفضل شركات المقاولات في البلد،
أجابت السيدة:
- بكل تأكيد، سمعتكم رائعة، وقد اخذناها بعين الاعتبار عندما فاضلنا بين العروض التي قدمت ألينا.
بعد ثلاث ايام متتالية من المناقشات وافق المجتمعون على الأجندة التي سيتم التنفيذ عليها، وصرح الدكتور سامي، وبناء على ذلك ستقيم الشركة حفلة عائلية بعد اسبوعين من هذا اليوم احتفالا بوضع حجر الأساس لهذه البناية الضخمة ، يحضرها عدد من الوزراء والمسؤولين في الدولة، ولقد تم توزيع بطاقات الدعوة، وستجدون بطاقاتكم عند السكرتيرة،
في مساء يوم الحفلة ، طلب الدكتور سامي من أمه ارتداء اغلى ما عندها من ملابس ومجوهرات، وأن تأتي متأخرة بعض الشيء، وتقف خلف باب القاعة، وتدخل عندما تعطيها السكرتيرة الإشارة ، متأبطة يد حفيدها أحمد.
حضر المدعون تباعا وتوزعوا على الطاولات المزينة بالورود والشموع، المنتشرة على مساحة القاعة الكبيرة المستأجرة في ارقى فنادق المدينة. وقفت عريفة الحفل، فتاة انيقة في العشرين من عمرها امام المايكروفون وبصوت رقيق قدمت كلمة ترحيب بالحضور وقالت:
- والآن يتفضل الدكتور سامي مدير شركة المستقبل للمقاولات لألقاء كلمته. تقدم سامي في بدلة انيقة الى المنصة وقال:
- السادة الوزراء حضرات المدراء العامين، ضيوفنا الأعزاء. أقف امامكم هذا المساء وانا في غاية السعادة لأنني ومنتسبي شركتي قد كلفنا على تنفيذ بناية وزارة التربية الجديدة، وأوعدكم بأنكم سترون انجازا كبيرا يكون مفخرة لبلدنا ولأجيالنا القادمة. ارحب بكم في هذا الحفل الذي تقيمه شركتنا بمناسبة وضع الحجر الأساس لهذا المشروع الكبير، والذي قام به صباح هذا اليوم معالي وزير التربية. أغلبكم يعرفني ، انا سامي احمد كنعان ، دكتوراه في الهندسة المدنية، استاذ في كلية الهندسة وصاحب شركة مقاولات ( المستقبل )، والدي شهيد الوطن، ووالدتي هي : ( وأشر الى الباب الذي فتح ) ودخلت منه سيدة في السبعين من عمرها، رشيقة، ترتدي فستانا اسودا مطرزا بخيوط فضية، متناسبا مع شعرها الفضي، المرتب في تسريحة جميلة، تمشي بخطوات بطيئة ، متعلقة بذراع شاب في الخامسة عشر من عمره ، وما ان تقدمت خطوات حتى هب اليها الدكتور سامي واخذها من يدها الى المنصة امام الجميع، ثم وجه نظراته الى تلك السيدة الجالسة على طاولة وزير التربية وقال بفخر واضح:
- سيداتي سادتي، اقدم لكم أمي (الفراشة سنية) التي كدت وتعبت وجاعت وضحت بكل شيء من أجل أن يصل ابنها ( سامي ابن الفراشة ) الى ارقى المستويات. اخرج من جيبه علبة زرقاء كبيرة، فتحها وأخرج منها عقدا كبيرة من الذهب في وسطه تتدلى مدالية ، احاط بهل عنق امه وقال : أمي انت التي تستحقين هذه المدالية التي فازت بها شركتنا كأفضل شركة في قطاع المقاولات، ثم قبل يدها، وقادها للطاولة المتصدرة للحفل، وسط تصفيق الحاضرين








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس