الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب السبعينات بين النجف وبغداد .. (3)*

جعفر المظفر

2020 / 8 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


أنْهَيت القسم الثاني من هذه الدراسة والمدونة أصلا تحت عنوانها الرئيس (دور محمد باقر الصدر في إشعال الحرب العراقية الإيرانية – (9)) بكتابة المقطع التالي ( أما التحدي الأصعب الذي واجهه الكيان الشيعي, وهو الذي حدث بعد سنين من تأسيس الدولة المدنية برئاسة الملك فيصل الأول, فتمثل بمغادرة الكثير من الشيعة أنفسهم مساحة (الكيان) إلى مساحة (الدولة) وذلك نتيجة للتحولات المرافقة لعملية بناء الدولة العراقية الجديدة. ولهذا صارت قيادة الكيان الشيعي في مواجهة أن تفقد (شعبها) بعد أن تمت عملية النزوح الجماعي الشيعي إلى المؤسسات العسكرية والمدنية, من جيش ومدارس ومعامل صغيرة وأحزاب سياسية وما شابه من فرص لم تكن موجودة في عصر العراق العثماني الذي كان يعيش في مرحلته القروية والبدوية والإقطاعية المتخلفة).
قبل ذلك من المهم التوقف أمام حقيقة أن بعض الظروف الإجتماعية والطبقية التي ساعدت على إنبثاق هذا الكيان الشيعي الموازي وإستمراره في العصر العثماني ظلت على حالها في العهد الملكي ولم يصبها الكثير من التغيير , ففي الجنوب والوسط العراقي وفي الشمال أيضا لم تعمل السلطة الملكية على إنهاء حالة الإقطاع أو الحد من نفوذ شيوخ العشائر. الحقيقة أن النظام الملكي, شأنه في ذلك شأن النظام العثماني, كان مستفيدا وحتى متحالفا مع حالة التحالف القائمة بين رجال العقال ورجال العمامة لأنها كانت على مستويات معينة تساعده على إدارة شؤون تلك المناطق وتكفيه شر تمردها وتكفل له جباية الضرائب, وهكذا ظل الجنوب والوسط العراقي متخلفا, أما المدن التي لم تكن خاضعة إلى نظام الإقطاع والمشيخة العشائرية وهيمنة رجال الدين مثل بغداد والبصرة فقد أصابت حظا ملحوظا من التطور.
في العهد الملكي لا يمكن القبول بتوصيف الحالة الإجتماعية والطبقية والدينية وهيمنة تحالف الإقطاع وشيوخ القبائل ورجال الدين على أنها كانت نتاجا سياقيا وموروثا من العهد العثماني ثم نكتفي بذلك , إذ أن ثورة العشرين نفسها قد إنبثقت بتأثير من وبقيادة ذلك التحالف. فلقد عجلت تلك الثورة ميلاد العراق الجديد ودولته المدنية الملكية (1921) مُنْهية بالتالي حكم الإحتلال الإنكليزي المباشرالذي فضل من جهته تنصيب الملك فيصل الأول على رأس تلك الدولة, وقد سمحت قوى الإحتلال لإستمرار هيمنة التحالف الإقطاعي القبلي الديني على الجنوب العربي الشيعي وعلى الشمال الكردي ومناطق متفرقة أخرى لأسباب متعددة كان من بينها السعي لنشوء وإستمرار عراق معوق تسهل السيطرة عليه.
وإذ بات هناك من يحكم على تلك الثورة من خلال ظروف ومعطيات وثقافة الأزمنة التي تلتها, ولا يحكم عليها بمعطيات ومفاعيل ذاك الزمان, لذلك لم يعد غريبا أن يكون بيننا من يحاول النيل من ثورة العشرين بدعوى أنها لم تكن سوى ثورة لشيوخ العشائر الإقطاعيين ولرجال الدين.
إن الذين يقعون في فخ القراءات المرتدة إنما يسقطون أحكام زمانهم على زمان أجدادهم لذا تجدهم يخطئون الأحكام حتى لو إتقنوا التوصيف. والقول أن الثورة كان قد قادها شيوخ العشائر ورجال الدين هو قول صحيح من ناحية التوصيف ولا يصبح سبة إلا حينما يكون الإقتراب من تلك الثورة متكئا على الخطاب السياسي والمعرفي لمرحلتنا وليس على خطاب تلك المرحلة.
إن الزمن ذاك كان زمن العقال والعمامة, ولم يكن زمن العسكر, ولا زمن الحزب الشيوعي وطبقته العمالية الكادحة, ولا زمن القوى القومية ودعواتها العروبية الوحدوية, ولا زمن حزب الإستقلال أو الحزب الوطني الديمقراطي أو حزب البعث. لقد كان زمن شعلان أبو الجون والشيخ ضاري ومحمد تقي الشيرازي وعبد الواحد الحاج سكر ولم يكن زمن عبدالكريم قاسم ومجموعة الضباط الأحرار, ولا زمن فهد وسلام عادل, أو الركابي والسعدي, أو الجادرجي ومحمد حديد.
إن تحالف (العقال والعمامة) هو الذي قاد ثورة العشرين يوم كان الهدف الثوري الحقيقي هو إنهاء الإحتلال الإنكليزي وتأسيس دولة العراق المدنية. أما الملك فيصل الأول وضباط الثورة الشريفية من العراقيين الذين جاءوا بمعيته, أو من (الأفندية) الذين إلتحقوا به والذين كانوا أصلا في إدارة العراق العثماني, فلم يكونوا هم الآباء الحقيقيون للعراق الجديد وإنما كانوا حلا إنكليزيا وسطا ووسيطا لحكمه وإدارته بالنيابة. وبهذا فضل الإنكليز تقسيم البلد وقتها على فريقين : الأول وهو الذي ضم رجال (العقال والعمامة), اي رجال الثورة الحقيقيين, وقد حصل (العقال) على الأرض والزراعة والتجارة وصارت حصيلة (العمامة) الشيعية بوجه خاص - بمقدار ما نحن معنيين بها في اصل البحث -, إستمرار هيمنتها على (الكيان الشيعي الموازي) الموروث أصلا من مرحلة الدولة العثمانية.
أما الفريق الثاني فقد ضم رجال السلطة الذين إعتمدت تشكيلته على أولئك الوافدين إلى العراق مع الملك فيصل الأول وضم رجالا عسكريين من أمثال نوري السعيد ونوري المدفعي وجعفر العسكري وتحسين علي ومولود مخلص والعديد من غيرهم. وكان هؤلاء, ونوري السعيد في مقدمتهم, قد إنضموا إلى ثورة الشريف حسين سعيا لتأسيس الدولة العربية الموحدة التي وعد الإنكليز بإنشائها لغرض تشجيع العرب على الإنضمام لجيوش التحالف في حربها ضد العثمانيين.
فلما تخلى الإنكليز عن وعودهم, وإقتسموا مع حلفائهم الفرنسيين تركة العثمانيين العربية بعد أن قسموها إلى بلدان متفرقة, لم يجد هؤلاء أمامهم سوى الرضوخ للأمر الواقع فإنتقلوا في البداية مع فيصل الذي منحه الإنكليز حكم سوريا وبعدها إلى العراق بعد أن صارت سورية من حصة الفرنسيين.
صحيح أن ثورة العشرين لم تحقق هدفها السياسي المباشر لكنها بكل تأكيد كانت بوابة دخول العراق من عصره العثماني إلى عصره الملكي. ورغم أن المرحلة التي تأسس فيها العراق الملكي كانت ذات أطر وبنى مدنية, وأن الإسلام السياسي لم يكن قد نشط بعد بما يسمح للهويات الطائفية أن تقدم نفسها سياسيا, فإن بذور الفتنة ظلت نائمة إجتماعيا بإنتظار من يزرعها ويسقيها ويفلحها ويحصدها. ولم يطل الأمر كثيرا إذ تهيأ للخطاب الديني بعد تأسيس دولة إيران الخمينية ولمعطيات الدولة العراقية المعوقة وللإدارات الأمريكية, جمهورية كانت أم ديمقراطية, فرصة رعاية تلك البذرة وسقايتها وحصادها.
وثمة من يحاول اليوم تنشيط الذاكرة العراقية بالعودة إلى خطاب الملك فيصل الأول الذي أشار فيه أنه كان تسلم مجموعة من الأقوام والفئات والقبائل والطوائف المتفرقة ولم يتسلم بلدا موحد الأقوام والإرادات, وهنا سيكون سهلا أن نوافق على دقة التوصيف لكننا سنختلف بالحتم على خطأ المعالجة. ولأن الملك فيصل لم يكن حينها صاحب القرار الوحيد فسيشجعنا ذلك على تخطي الخوض في النوايا, والتأكيد على أن الإنكليز هم الذين حرصوا من جانبهم على مسك طرفي العصا العراقية من وسطها (الشيعة والكرد على الطرفين وبينهم السنة في المنتصف), وأن حكام العراق الجديد يتقدمهم فيصل بالذات إنما إرتضوا السباحة في البحر الصعب من أجل الوصول إلى الهدف المستحيل !
الواقع إن العراق من حيث تمايز مجتمعه أو تفرقه كان أفضل بكثير من العديد من البلدان الأخرى. إن الهند مثلا فيها أضعاف أضعاف ما في العراق من الأديان والطوائف والأقوام, وفيه من اللغات ما يفوق الأربعمائة, وهذا قد يجعلنا نعتقد أن غاندي كان قد إرتجف حتى الموت يوم فكر ببناء دولة الهند الواحدة ! لكنه مع ذلك فعل ونجح لا لشيء إلا لأنه أحسن التوصيف وأحسن المعالجة. وماذا سنقول عن الصين التي كانت نائمة ومخدرة قبل أن يوقضها ماوتسي تونغ. بل ماذا نقول عن الجزيرة العربية وقبائلها وأديانها ولغاتها قبل الرسالة المحمدية وماصارت عليه بعدها حيث وصل رجالها إلى الصين.
ما أتصوره أن الملك الهاشمي كان قد قدم وصفا موضوعيا للحالة على الأرض وذلك بمقدار ما هو معني بمهمة تغييرها نحو الأفضل, وليس لغرض إعلان يأسه وعجزه عن بناء عراق موحد. لكن السيد عبدالمحسن السعدون رئيس الوزراء العراقي المنتحر ! سيعفينا من صعوبة توصيف حال الملك عندها. فإذ هو كتب قبل إنتحاره (العراقيون يريدون شيئا والإنكليز يريدون شيئا آخر) فإن مرض الملك فيصل الأول وموته المبكر ربما يجعلنا أمام تفسيرين, فأما أن يكون الملك قد (طقَّ) من ضَيمِه ومات وأما أن يكون الإنكليز هم الذين كانوا وراء موته.
ففي العادة إن ملوك العراق ورؤسائه لا يموتون موتا طبيعيا ولا دخل لعزرائيل السماء بهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القسم (10) من دراسة بعنوان (دور محمد باقر الصدر في إشعال الحرب العراقية الإيرانية)
ويليه القسم (11)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات