الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ملكة جمال البرتقال (قصة قصيرة)

عدنان يوسف

2020 / 8 / 31
الادب والفن


ابتدأ جولته اليومية في شوارع المدينة التي توصله الى خارجها ، فضاء وشمس واحيانا رياح سريعة ، بين التاسعة صباحا والثانية بعد الظهر يسير في الطريق ذاته ذهابا وايابا ، هدفه الوصول الى ما يعتقد انها شركة تقع على بعد ساعة من مركز مدينة كربلاء ، ويعتقد كما يرسم ذلك في خياله كل ليلة انه سيقابل مديرها (او من يخوله) في تمام العاشرة من صباح اليوم التالي ليحصل على وظيفة بمؤهله ؛ شهادة الفرع العلمي للدراسة الاعدادية بمعدل لائق ، وحين يصل الى الباب الموارب دائما والذي يظنه بابا لشركة انشاءات يتخاذل بسبب الخجل او عدم الثقة بالنفس فيعود ادراجه بالطريق نفسه ليستقر جالسا بمقهى لا يعرف اسمه ، فقط يعرف شكل صاحبه الجالس ثابتا على كرسي خشبي كبير وعتيق ، امامه صينية حديدية صفراء تحتوي عملات معدنية من فئات عشرة وخمسة وعشرين وخمسين فلسا . المقهى في هذه الساعة شبه فارغ ، اشخاص كبار السن ، ربما يكونون من العاملين في المقهى ، يتمددون على قنفات متفرقة متباعدة ، يجلس هو في الجهة الخلفية ظهره الى الرصيف الملاصق للجدار الزجاجي لمقهاه الاثير الكبير ، منعزلا ، فهو لا يريد ان يتحدث معه احد ولهذا السبب يتخذ اجراء احترازيا بحمل جريدة يفتحها عند الضرورة لتكون حاجزا يمنع اي "متطفل" من توجيه اي سؤال له بغية بدء حوار يؤدي الى تعارف او صداقة من نوع ما كما يحدث غالبا بين الغرباء المسافرين بشكل خاص .
في تلك الساعة من ظهيرة ذلك اليوم " التاريخي" الذي سيظل يتذكره لسنين عديدة ، دبت حركة غير طبيعية في المقهى بدخول "وفد" ايراني كبير ، رجال ونساء بمختلف الاعمار يتقدمهم شيخ قصير القامة منحني الظهر بعض الشيء ، بثياب بيض ؛ سروال وقميص فضفاض ، ثم تليه نساء وفتيات بجلاليب ملونة ، الوانها زاهية ، زرقاء وصفراء ووردية ، كلها منقطة بدوائر زاهية هي الاخرى ( يسمى هذا الجلباب بلغتهم الفارسية شادور) ، وهناك رجلان في المؤخرة وعدد من اطفال يتقافزون بين الجميع . استقر الجمع( بعد محاورات صامتة ، بالاشارات فقط ، حول اختيار مكان الجلوس) على اربع ارائك اثنتان تقابلان اثنتين . وهو في جلسته اليومية الثابتة يرى المنظر المفاجئ الذي بث حياة وحركة ونشاطا غير معهود في المقهى الذي يكون ساكنا في مثل هذا الوقت من كل يوم ، تطلع الى الوفد مستعرضا الوجوه والاجساد وشغلته الالوان المختلفة والمنسجمة مع بعض في توزيع هارموني متقن وجميل ، فجأة يبرز امامه وجه فتاة كأنها القمر في يوم عيد ربيعي مزدهر . آية من جمال كأنه صنع خصيصا لمناسبة احتفالية كبرى لعرض مخلوقات الله القليلة النادرة التكوين والتي ينشئها كنماذج ارضية متميزة ، على هامش انشائه لحوريات الجنة ، فيطلقها لتنضم الى عجائب او اساطير الحياة الدنيا .
دخل رجل كهل تبدو علامات الفقر والبؤس وربما المرض واضحة على جسده الناحل ووجهه الاسمر المصفر وثيابه التي تقترب في شكلها وهيئتها من الاسمال ، يحمل فوق رأسه سلة برتقال ثابتة لا تتحرك رغم مشيه غير المتزن وعدم مسكها باحدى يديه مثلا ، استدعاه الشيخ الايراني بحركة ارستقراطية من اصبع يده اليمنى ، خف اليه مسرعا ، وبلا كلام او سؤال عن السعر مثلا ، ابتدأ الشيخ بالتقاط حبات البرتقال ورميها بحركات ماهرة مقدرة تقديرا سليما الى افراد وفده القادم لزيارة الامام الحسين واخيه العباس ، يقذف البرتقالة برفق فيتلقفها الشخص المتجه له بنظره وحركة يديه حتى وصل الى الاميرة الحسناء ، رمى البرتقالة باتجاهها فاستقبلتها بكفيها الذهبيتين المطعمتين بالزمرذ والياقوت وجواهر البحار البعيدة . البرتقالة بين يديها ، ادت الفتاة حركة مدهشة غير متوقعة ، صوبت باتجاهه نظرة خطيرة بعينين لامعتين ، هو الجالس في وحدته البائسة وشرود ذهنه المستمر . كورت يديها متخذة وضع المستعد للقذف ، كأنها تقول باشارة واضحة : استعد لاستقبال هديتي ، وبدل ان يبتسم لها ويفتح يديه علامة القبول فتح الجريدة وجعلها حاجزا بينهما ، في تلك اللحظة وهو لا يرى اي شيء ، لا الجريدة ولا الفتاة ، كان يفكر فقط فيما يجب فعله ولماذا هو بهذه الدرجة من الضعف والخجل وعدم الثقة بالنفس . لكن ماذا لو استجاب لدعوة الحورية الماكرة ما الذي سيحدث بعد ذلك ، وخلص الى نتيجة يواسي بها نفسه او يبرر عدم قدرته على اغتنام فرصة ذهبية جاءته على غير موعد ، خلص الى نتيجة ؛ ان الفتاة تتسلى وربما تسخر من شكله وهيئته ووجهه العابس المكفهر وعينيه السارحتين خارج المكان بل خارج الدنيا كلها . واكمل حواره التبريري مع نفسه ؛ البنت مع عائلتها قادمون من ايران لزيارة العتبات المقدسة في مدن عديدة من العراق وستكون غدا وربما اليوم بعد ساعات قليلة في مدينة اخرى ؛ النجف او بغداد او سامراء ، هل سيرافق العائلة في جولتها ، ثم ما الذي يمكن ان يتحقق لو استقبل هديتها على فرض انها ستفعل ذلك حقا وتقذفها باتجاهه ، لا انها تمارس لعبة خطر ببالها تلك اللحظة انها ستكون من مستلزمات المرح الذي يرافق السفرات الجماعية عادة ، في خضم هذه التداعيات التي تدرجت بين ما يحب ان يسميه ثقافة او فلسفة وهو في حقيقته تخاذل اجتماعي ، انتبه الى ان الوقت طال وهو لم يرخ الحاجز الورقي الذي يفصله عن "بطلة الرواية" . طوى الجريدة بهدوئه المستفز ليجد ان المقهى عاد لسكونه الموحش . غادر الزوار الايرانيون وغادرت الساحرة ، ولأول مرة في حياته يغضب ويبدو الغضب ظاهرا واضحا لا يمكن اخفاؤه فقد مزق الجريدة وغطى وجهه ، عينيه خاصة بكلتا يديه بحركة تكاد تقترب من اللطمة التي تحصل عند سماع خبر سيئ او حدوث كارثة تحدق بعزيز ولا يقدر ان يمنع حدوثها او التقليل من ضررها . وجد نفسه بعد دقائق يسير في شوارع المدينة وسط طوفان ايراني يزهو بالوان الطبيعة الجميلة كلها ، يتفرس في الوجوه المنشغلة بمشاهدة مناظر الاستعدادات للزيارة السنوية المهمة ؛ رايات بالوان مختلفة ومظلات كثيرة تحتها احواض الماء البارد ثم الشاي والطعام في قدور كبيرة يقدم للزائرين مجانا على مدى ساعات اليوم كله . تفحص وجوه الجميع بما في ذلك النساء في غير سن الاميرة ، اميرة البرتقال الضائعة . دار على الفنادق كلها وامضى ساعات يراقب خروج ودخول العوائل الايرانية بشكل خاص والتي تتميز بشوادير النساء الملونة والمنقطة والمزركشة ، لكن دون جدوى .
ظل يتابع المشهد ليومين متتاليين ، وكما يحدث في جولته اليومية باتجاه الشركة بحثا عن عمل والتي تنتهي الى التأجيل في كل مرة ، قرر ان يؤجل البحث عن الاميرة الجميلة ايضا ، وكما كانت اماله مع الشركة تتبدد المرة تلو الاخرى فان بحثه عن فتاته وامله في العثور عليها ابتدأ يتبدد ، ضاعت ملكة جمال البرتقال ويبدو انها قد ضاعت الى الابد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - البرتقال والجمال والبطالة
أسعد محمد تقي ( 2020 / 9 / 3 - 20:31 )
من يقرا للقاص والشاعر عدنان يوسف تأخذه دون أن يشعر صفتان جميلتان لا تفارقان نتاجاته كلها .. الأولى البساطة التي تُشعِر هذا القاريء بأنه والكاتب صديقان قد زالت بينهما الكلفة تماما . والثانية هي الموقف الإنساني المنحاز لتلك النفوس الواقعة في شَرَك تعقيدات الحياة اليومية والتي تمتد جذورها ربما الى طبيعة أنظمة الحكم القائمة .. والدكتور عدنان يترك لروح القاريء ان تقارن بين معاناة الشخصية المأزومة بواقعها المتعب وتلك التي حصدت المنافع وصار بمقدورها المرح .. ومقارنة من هذا النوع لابد ان تقود إلى الأستنتاج وتحليل الأسباب لمعاناة هذا وقدرة ذاك على المرح واصطياد السعادة .. فتغدو الكتابة الأدبية مجس للكشف عن نمطين متناقضين لحياة الناس .

اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى