الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تونس اليوم بين المواجهة والنكوص

هيثم بن محمد شطورو

2020 / 9 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


في تونس حكومة أخرى تشكلت وهي بانتظار جلسة تزكيتها من عدمه في البرلمان، ويبقى السؤال المطروح حول كل حكومة منذ الثورة في 2011، هو عن حقيقية تمثيلها للثورة من عدمه. وهنا قد تبدو الإجابة الروتينية هي تحقيق الحرية بما حرية تعبير وانعدام تحقيق العدالة الاجتماعية بما هي إعادة توزيع للثروة، أي وبدون مواربة ما تعنيه من اشتراكية ونظام اقتصادي اشتراكي. ولكن كلمة "الاشتراكية" يخجل من استعمالها حتى الأحزاب الماركسية وكأنها تحمل وصمة عار، مما يؤشر بوضوح إلى النفاق السياسي و إلى ضبابية وجود مشروع فكري سياسي حقيقي حتى عند هذه الأحزاب فما بالك بغيرها. وما تم تحصيله على مر الحكومات المتعاقبة بغض النظر عن لونها السياسي الحزبوي، هو إهدار الثروة الموجودة من أموال ومن قطاعات حيوية تـنـتج الأموال للدولة وأهمها قطاع الفسفاط الذي يعاني من حالة شبه انهيار، نتيجة تحكم مبدأ الانحناء حتى تمر العاصفة، والانحناء للسلطة أمام عاصفة الاحتجاجات الشعبية، ومضمون ذلك هو توزيع الوظائف الوهمية دون عمل حقيقي وإسناد رواتب دون إنتاجية للآلاف، ولكن هذا المبدأ تبين في الواقع انه ما هو إلا تأجيل للازمات وبالتالي العمل على تفاقمها، فما أن تسكت بعض الحناجر حتى تظهر أخرى من لهب وكأن السلطة وسط جحيم من الألسنة النارية. فالمبدأ في الحكم هو التأجيل لحل الأزمات بالوعود ومن ثمة الإخلال بتـنـفيذ اغلبها حين ورود تاريخ تـنـفيذها المتـفق عليه، والتـنـفيذ على حساب المقدرة المالية للدولة وتوازناتها المالية، والمحصلة هو الهشاشة الاقـتصادية العامة.
المحصلة أن الفكرة الرئيسية للحكم منذ 2011، تقول بمسايرة الأوضاع حتى تهدأ الأمور لإعادة الأمور إلى نصابها. هذه الأوضاع هي الفوضى الاقتصادية والاجتماعية. هي الاحتجاجات الشعبية والشعبوية والتي تم توجيهها من خلال منطق التعامل السلطوي معها على هذا الأساس إلى احتجاجات مطلبية، مما جعلها في جزء منها استغلال للأوضاع الهشة للسلطة والدولة لأجل ابتـزازها على أساس المطالب المشروعة. من الناحية العملية ما هي الطبيعة الاجتماعية والفكرية الفعلية لذلك؟ إنها وضعية بائسة للجماهير المفقرة والمتأزمة بشكل عام، ولكن أي وضعية لكي تـتحول إلى احتجاج يلزمها أشخاص معينون يقومون بالمبادرة إلى ذلك وبالتـنـظيم والدعاية والتحـفيز لأجل الخروج للشارع وقطع الطرقات أو إغلاق بعض المؤسسات الحكومية وغير ذلك. في أغلب هذه المهرجانات الإحتجاجية تم تعامل السلطة معها بإرضاء رؤوس هذه الاحتجاجات أي القائمون بالتجيـيش، وهم في اغلبهم يتصفون بصفات الفتوة وفق التصوير المحفوظي. يتم التخلص جزئيا من المشكلة ليس بالحل الجذري للمسألة أي بناء معمل أو مصنع أو انجاز مشروع تـنموي ما أو تـقـديم حل فعلي للأغلبية وفق منطق الدولة بما هي حق، وإنما بمنطق الرشوة في النهاية، أي منطق الفساد، وفي المحصلة فإن الثورة التي قامت ضد الفساد تم الانـقلاب عليها لتـتحول الأوضاع إلى بؤرة ضخمة من الفساد، حتى أصبح بعض المسئولين السياسيـين السابقين وبعض الفاعلين السياسيين أو الناشطين لا يتورع في القول أن محاربة الفساد في تونس مجرد كلام لا معنى له فالدولة غارقة في الفساد..
ويتم عكس المنطق لجعل الشعب هو المسئول، ويصبح الشعب هو الفاسد، وكل الموظفين مرتـشين وكل الوزراء مجرد مستـثمرين معززين بالنفوذ الذي لديهم، وكل سياسي فاسد وكل صحفي مجرد مرتـزق لجهة ما، و"العين الحمرة تجيب"، وهو تعبير شعبي يعني أن القوة هي التي تحرز من خلالها منافعك..
هنا تم بنسق حثيث التحويل التراجيدي عن خط الثورة، من الحرية إلى الفوضى ومن العدالة الاجتماعية إلى المساواماتية الاجتماعية. لكن هذه المؤامرة على الثورة لم تـتمكن بعد من التحويل النهائي لمسار الثورة، فالحرية حقيقة يحرص عليها الجميع والعدالة الاجتماعية مطلب حي بل انها تتجسد في الدستور وفي بعض القوانين ولعل أهمها هو قانون الاقتصاد التضامني الذي صادق عليه البرلمان منذ أشهر قليلة.
مؤامرة التحول من الحرية كقيمة أخلاقية وفكرية إلى الوضاعة المتـنمرة والحقارة المتـنطعة بأبهة حتى في أروقة مجلس النواب. التحول من تحديد العدالة الاجتماعية بما تعنيه من قلب لمنهج الحكم من اقتصاد الضباب{ الخصخصة دون أن يكون رأسماليا والتـشجيع على الاستـثمار دون منظومة ليبرالية اجتماعيا وثـقافيا وقانونيا وإداريا} والبيع والبزنس والاحتكار لحساب أصحاب النفوذ على حساب الشعب الكادح، إلى اقتصاد اشتراكي متـناغم مع الثـقافة الاجتماعية التضامنية الموروثة أولا، وثانيا كنظام متكامل يقوم بالأساس على إعادة إحياء وتـنـشيط القطاع العمومي الموجود، وقيام الدولة بمشاريع اقتصادية إنتاجية عملاقة تكون هي القاطرة والأساس لبناء منظومة اقتصادية إنتاجية. هذه الاشتراكية بطبيعتها معاصرة ومحملة بالقيم الليبرالية، أي أنها تعمل على تـنـشيط مجالات الاستـثمار في الشركات الصغرى والمتوسطة ودعمها من عدة نواحي ولكن أهمها هو خلق مناخ الثـقـة وخلق مناخ السيولة المالية بفضل تملك الدولة للسيولة المالية وضخها، ودعم الأنشطة الحرة من حيث خلق هياكل انتـفاعها من المنظومة الاقتصادية للدولة..أي أن الفكرة الرئيسية تـقوم على عدم احتكارية الدولة للنشاط الاقتصادي بل على منطق بناء أسسه المتينة ومن ثمة محورة العملية الاقتصادية العامة حول مراكز الإشعاع الاقتصادي التي تخلقها الدولة.
فالاشتراكية هنا، يمكن أن نحددها بوصفها على المستوى الاقتصادي باشتراكية المحورية. أي قيام الدولة والمنظومة الوطنية ببناء الفاعلات المحورية إنتاجيا لتكون محور العملية الإنتاجية عامة، أي أن النشاط الخاص يكون من جهة معينة امتدادا لهذه المحوريات بمثل ما هو منتـفع منها ونافع لها بالتوازي. يمكن الانطلاق من المؤسسات الموجودة حاليا وأهمها قطاع تكرير الفسفاط بحيث يتم تطوير العملية الإنتاجية وخلق خطوط ممتدة لإقامة شركات خاصة وطنية تونسية تخدم في مجالات متعلقة به بحيث تكمله وتـتـشابك المؤسسات الخاصة ضمن نظام عنقودي متسلسل من حيث النوعية الإنتاجية، وفي ذلك خلق لمواطن شغل، وكذلك خلق للثروة، وما يستتبعه من ديناميكية اجتماعية وثـقافية حية، بحيث نشهد وجود مسرح جديد ومقاهي ثـقافية ومناطق سياحية متـناغمة مع الإرث الثـقافي للجهة، واستحداث طرقات جديدة، وفتح آفاق التـشجير المكثف لتغيير قسوة المناخ وخاصة في الجنوب، ولما لا يكون برنامج وطني لتـشجير مساحة من الصحراء المحاذية للمدن بأشجار النخيل بواسطة مد شبكات ري. انظر كم سيتغير المناخ وتتغير الأنفس بذلك، إضافة إلى خلق ديناميكية تمدنية جد رائعة على كل المستويات.
فلا يمكن الحديث عن توزيع للثروة قبل إنتاج الثروة ذاتها. وطبعا هذا النظام يقوم على منظومة قانونية وإدارية يكون همها هو دعم الإنتاجية والمرونة والتحفيز على أساس الحق. فالإنسان أصله خير مثلما يقول أفلاطون، وبالتالي إرادته الأصلية تتجه نحو النشاط المشروع، واللجوء إلى الامشروعية هو نتاج تهلهل المشروعية وتحولها بذاتها إلى عملية لا مشروعة تحمي بضع دوائر النفوذ حتى وان كانت مشروعة أي حكومية. المعنى في ذلك هو ما هو ملموس بوضوح سواء من قوانين أو ترتيبات إدارية مختلفة أو عديد المعرقلات الموجودة إضافة إلى ضعف القدرة الشرائية العامة وسيطرة البزنس والتجارة وفتح البلاد أمام منطق الاستراد دون أي حماية للإنتاج الوطني ودون أي موازنة مع المقدرة العامة على تحمل استـنـزاف الاستهلاك للأجنبي، وبالمقابل التـدمير المستمر منذ عقود للإنتاجية الوطنية، والتدمير الممنهج للقطاع العام وغيرها من المسائل المعروفة للجميع الآن.. أمام كل ذلك يجعلنا لا نتحامل ونجعل أصل المشكلة في الاقتصاد غير المشروع. انه اقـتصاد غير مشروع في ضل وجود منظومة اقتصادية حكومية غير مشروعة بذاتها، وانعدام مشروعيتها يتأتى من كونها لا تخدم الصالح العام وليست مهيكلة في إطار خدمة الصالح العام وإنما في إطار خدمة بعض الغوائل المتـنـفـذة في البلاد والعباد.. وهذا ما يتم الهروب من مواجهته عند جميع الحكومات المتعاقبة منذ ثورة الحرية والعدالة الاجتماعية في 2011، لتكون حكومات الانقلاب على الثورة وإدخالها في متاهات الفوضى المتـنوعة، لتكون حرية الفوضى بدل الحرية كدولة قانون فعليا، أما العدالة الاجتماعية بما هي ملموسة في وجودها فالجميع يقر بعدم تحقيقها وهذا الملموس يحيل إلى عدم تحقيق مضمونها وفكرتها الجوهرية كحرية، وبالتالي لم تتحقق إلى حد الآن الحرية الفعلية، الحرية كإمكانات عينية ومالية ومدنية وقانونية مساواتية للجميع لممارسة حريته..
***
وكنا مع حكومة السيد الياس الفخفاخ الذي ينتمي إلى العائلة الاشتراكية بشكل عام، ووجود وجوه يسارية واضحة لحركة الشعب والتيار الديمقراطي، في حقيقة الأمر في أجواء هذا المناخ العام من التـفكير على مستوى الحكومة. تلك الحكومة التي تم إطلاق تسمية حكومة الرئيس عليها نظرا لتعيين رئيسها من قبل رئيس الجمهورية السيد "قيس سعيد" بحكم فشل الحزب الأول في البرلمان في تـشكيل حكومة وهو حزب حركة النهضة الإسلامية. حكومة الرئيس كذلك من حيث توافقها مع نظرته السياسية العامة والتحديات التي يطرحها رئيس الجمهورية قيس سعيد المتمتع بثـقل انتخابي كبير قارب السبعون في المئة من عدد الناخبين في الانتخابات الرئاسية.
الياس الفخفاخ الذي قدم استـقالته نتيجة قضية تشويه إعلامية وحزبية من قبل حركة النهضة وحزب قلب تونس الذي يملك رئيسه قناة إعلامية بارزة هي قناة "نسمة" وإعلاميين تابعين لرئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، وعلى مما يبدو أن تلك الحكومة قد لامست بالفعل مواجهة القوى التي تـقف ضد عملية الإصلاح الحقيقية، والتي تدور في فلك الانقلاب نحو تحقيق برنامج جديد يحقق فعل انقلاب المسار العام للسياسة الاقتصادية في تونس. واضطر السيد الياس الفخفاخ لتـقديم استـقالته لتكون صلاحية تعيين رئيس حكومة جديد عند رئيس الجمهورية، ولا تعود إلى حركة النهضة في البرلمان لو تم إسقاط الحكومة بواسطة سحب الثقة منها في البرلمان.
وكان لرئيس الجمهورية تقديم شخصية جديدة هي السيد "هشام المشيشي" وزير الداخلية في حكومة الياس الفخفاخ. وكان من المتوقع أن يحافظ على وزراء حركة الشعب والتيار الديمقراطي وتطعيم الحكومة الجديدة بوجوه دستورية وكفاءات مختلفة، وتكون حكومة عنوانها الرئيسي استبعاد حركة النهضة باعتبارها الفاعل الرئيسي في إسقاط حكومة الياس الفخفاخ بتعلة شبهة الفساد أو تضارب المصالح، إضافة الى تبين ولائها لدولة أجنبية على حساب المصالح الوطنية وهي تركيا الاردوغانية، أضف الى ذلك تصرفات الغنوشي كرئيس برلمان وكأنه رئيس جمهورية واصدار مواقـف في السياسة الخارجية متوافقة مع اتجاهه الأخواني الاسلامي المتعارض مع المصلحة الوطنية..
لكن رئيس الحكومة الجديد المقترح من خلال كلامه إلى حد الآن ومن خلال أعضاء حكومته المقترحة المجهولين، والذين تم توصيفهم بالكفاءات الإدارية، فان الحكومة تبدو باهتة جدا ولا معالم سياسية لها أصلا، أي بدون رؤية سياسية لا واضحة ولا غامضة. فرئيس الحكومة ليس بالشخصية السياسية ولا أعضاء حكومته، وهم مجرد إداريين، أي هم مجرد آلة ولكن من يوجه هذه الآلة وكيف؟ ثم أن كل آلة بطبيعتها صالحة للقيام بوظائف معينة، وبالتالي فإداريين في ضل المنظومة السابقة ذات السياسات المناقضة للبديل السياسي المطلوب، والمناقضة للشعار الأساسي لحملة رئيس الجمهورية قيس سعيد "الشعب يريد"، هل يمكن أن نـنـتـظر منهم أن يشتغلوا وفق سياسات أخرى ثورية..
قول السيد "هشام المشيشي" انه سيعمل على الحفاظ على القطاع العام وسيعمل على الاهتمام بالمالية العمومية. كلام عام جدا.. المحافظة على القطاع العام يبدو انه مجرد إرضاء لاتحاد الشغل، ولا نعلم هل هو آني فقط، وهل هو مجرد كلام فقط، لأن المطروح بشكل جدي من خلال املاءات صندوق النقد الدولي هو بيع القطاع العام والإجراءات التقشفية التي دافع عنها رئيس الحكومة السابق "يوسف الشاهد"، وكل ذلك في النهاية امتداد للخط السياسي لنظام بن علي الذي افتتح عصر الخصخصة والارتباط بصندوق النقد الدولي، فهل يطرح السيد "المشيشي" رؤية ثورية بحق مضادة لاملاءات صندوق النقد الدولي والدوائر المالية الامبريالية؟
يبدو من خلال الوجوه البيروقراطية لحكومته أمرا كهذا مستبعد إلى أبعد الحدود؟ كما أن مسالة القطاع العام لا تتطلب المحافظة عليه فقط بل تـثويره وإصلاحه ليغدو إنتاجيا وتطويره ودعمه، ليكون قاطرة التـنمية من جديد..
والسؤال الأساسي المطروح هنا، هو، إلى أي مدى ستمثل الحكومة رئاسة الجمهورية، باعتبارها حكومة الرئيس؟ وهنا نتساءل عن حقيقة النظرة السياسية للرئيس في هذه الناحية. هو الرئيس الذي جعل من شعار الثورة "الشعب يريد" شعاره الأساسي في حملته التفسيرية بمثل ما سماها والمقصود الحملة الانتخابية. من المفترض أن المضمون الفكري لشعار "الشعب يريد" له مفهوم موضوعي عام وليس مفهوما أو تأويلا ذاتيا للرئيس. أن يكون قد حمل هذا الشعار ووصل به إلى قصر قرطاج، وان يكون نزيها ووفيا بالوعد ومعتبرا للسلطة حملا ثـقيلا للأمانة أمام الله والتاريخ والشعب، فإنه بالضرورة هنا يكون في مستوى التحديد الموضوعي لمفهوم الشعب يريد.
لقد حدد السيد قيس سعيد مفهومه للشعب يريد، بالعمل على تغيير النظام السياسي، نحو إلغاء الأحزاب، عبر التمثيلية المباشرة على الأفراد وإمكانية سحب الثـقة من طرف الناخبين. إننا هنا قريبون جدا من نظام الجماهيرية القذافية التي شهدت بدورها ثورة شعبية عليها، ولا نعرف هل سيادة الرئيس ينظر إلى الثورة في ليبيا أنها مجرد مؤامرة أجنبية صهيوأخوانية قطرية تركية، وهذا صحيح في جانب كبير منه، ولكن الصحيح كذلك أن هناك شباب يريد الحرية وان نظام القذافي نظام قمعي وإرهابي للشعب. نظام المؤتمرات الشعبية والتمثيلية المباشرة التي تعني في نهاية الأمر على مستوى السلطة الفعلية هو تركزها الكامل بيد الزعيم أو قائد الثورة أو رئيس الجمهورية.
ولكن دعنا من مثال الجماهيرية. من الناحية الفعلية والعملية، فكثير من النقاط الغامضة هنا. أولا هل يمكن إقرار هذا النظام السياسي من البرلمان المتكون من أحزاب ستـقـف ضد نظام إلغاء الأحزاب في النهاية، وفي هذه الحالة هل سيتم اللجوء إلى الاستـفـتاء الشعبي واستغلال الموقف الشعبي السلبي تجاه الأحزاب السياسية؟
من الناحية العملية فالممثلون المباشرون للشعب ألا تلزمهم مدة زمنية معينة لانجاز ما يعدون، ثم الانجاز هل هو مستطاع بسهولة لمجرد أن ممثلا لمنطقة معينة يطرح مشروعا أو جملة من التصورات؟ ثم ألا يلزم تحديد مدة معينة لإمكانية سحب الثقة أم تترك الأمور للفوضى. ومن الناحية العملية ألا يجعل الانجاز الافتراضي لهؤلاء الممثلين مجرد انجازات جزئية؟ ما الذي يجبر الحكومة على انجاز مقترحات هؤلاء الممثلين؟ أي في النهاية وبالنسبة للتنفيذ فالأمر بيد الحكومة. الحكومة كيف تـتـشكل بانعدام الأحزاب وانعدام البرلمان ومن سيراقبها؟. ألا تكون بكل بساطة هي حكومة الرئيس وهل حكومة الرئيس هي حكومة الشعب ومن سيحدد الآليات والإمكانات الفعلية لمراقبة الحكومة وإسقاطها بوجود ممثلين منفردين يمثلون مطالب جزئية وليس رؤى سياسية عامة ولا تمثل تكتلات سياسية فاعلة، ثم من سيضمن استقلالية هؤلاء وانعدام خضوعهم للإبتـزازات والضغوط والإغراءات؟ هل سحب الثـقة كسيف معلق من طرف الشعب يمكن الوثوق به، كما انه هل يمكن الوثوق بالإرادة الجزئية للشعب؟ كل هذه المسائل لم يتحدث عنها السيد قيس سعيد، لأنها مسائل إشكالية أولا ولأنها تؤدي في النهاية إلى عدم التمثيلية للشعب..
كيف إن ذلك لا يمثل الشعب؟
أولا، ماهو الشعب؟ الشعب كأفراد، فأغلبيته الساحقة يريد أن يكون مليارديرا وذو سلطة وفي صحة جيدة وخالدا لا يموت. من هذا الناحية لا يمكن لأي نظام سياسي أن يمثله سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ذلك أن يكون الشعب كله أثرياء وذوي سلطة ونفوذ وخالدين بالمعنى الدنيوي أي الشهرة والتوريث للثروات، أمر مستحيل. هذا الأمر متروك إلى الله في جنته لاستحالته إنسانيا على الأرض. لكن هذا هو حلم الأنفس الطيبة التي تحب الناس أجمعين، ولعل أبرزهم الأنبياء والرسل الذين كانوا واقعيين ويفهمون استحالة ذلك على الأرض فرفعوا المسألة إلى السماء، مع العمل على بناء الأخلاق بين الناس التي تكفل التعايش والتراحم والتضامن بينهم. نجد ذلك في العصر الحديث عند نبي علماني هو "كارل ماركس"، وبرغم جعل نفسه رأس الأمر في المادية والادعاء انه جعل الديالكتيك الهيغلي يمشي على قدميه بتحويله إلى ما سماه بالديالكتيك المادي، إلا أننا نجده طوباويا ويفتـقـد إلى عقلانية وواقعية الأنبياء من حيث إيمانه بتحقق الجنة على الأرض في المرحلة الشيوعية التي يحقق فيها الجميع الإشباع للرغبات جميعا.
فمن المؤكد أن الأستاذ قيس سعيد لم يكن يقصد هذا التحديد، وجل ما قصده هو البحث في الآلية التي من شأنها تحقيق إرادة الشعب في الخير. وان حصر المسألة في الزاوية القانونية يعود إلى تكوينه القانوني العام واختصاصه في القانون الدستوري. ولكن، هل إن التشريعات هي التي تخلق الثورات وهل إن التشريعات تمثل الثورات أصلا بما فيها التشريعات الدينية التي تجد نفسها تحد من النزعة الثورية للأنبياء ومن ثم تتحول إلى صالح الأقوياء وتتحول المثل الدينية إلى مهذب عام فقط ورؤية مثالية يحتاجها الإنسان لتحمل حياته الكئيبة من جهة ولبناء منظومة أخلاقية وقيمية اجتماعية وهوية اجتماعية من جهة أخرى. هل التمثيلية المباشرة تمثل بالفعل البديل لتحقيق إرادة الشعب؟
السؤال هنا، كيف تمثل هذا الطرح بديلا عند الأغلبية التي انتخبت قيس سعيد إضافة إلى قيس سعيد نفسه؟ هناك التقاء وظهر بالفعل حتى قبل الانتخابات من خلال استطلاعات الرأي في المدة الأخيرة التي رفعته إلى المراتب الأولى في المنافسة الرئاسية، والتي لم يقف عندها جديا أغلب المتابعين والناشطين السياسيين، ومن ثم عبروا عن اندهاشهم من مفاجأة صعود قيس سعيد إلى الدور الثاني في الانتخابات.
فكرة البديل عن واقع معين. هذا الواقع هو النقمة على أغلب الأحزاب. النقمة بالأساس على حزب حركة النهضة وحزب نداء تونس وعلى الجبهة الشعبية برغم أن الأخيرة كانت تمثل المعارضة في البرلمان. هذه النقمة فيما تحددت أساسا؟ لقد تحددت في بعدها الأخلاقي. هذا البعد الأخلاقي في قيمة الصدق. كلهم كاذبون ويتصارعون لأجل الكرسي. من هذه الناحية بالأساس مثل قيس سعيد البديل الأخلاقي. المصداقية والنزاهة والتواضع الكبير مع الشعب وكل ملامحه تعبر عن أخلاقيته هذه وليس خطابه فقط. الشخص بمجمل حضوره. البساطة والنزاهة والاستـقامة والقوة الحقيقية الفعلية. هنا كان لحلقة من برنامج الكاميرا الخفية الدور الكبير في تأكيد هذه النظرة. النظرة إلى القوة الفعلية للرجل الذي لم يقم بأي حركة ولم يظهر منه أي ارتعاش أو خوف أمام ما تم إحداثه من زلزال مصطنع. هذه النفس المؤمنة الواثـقة الغير هيابة التي حافظت على كبريائها في الزلزال. هذا الشخص وحده وهذا الشخص ضد الأحزاب مثلهم، الأحزاب التي تمثل الكذب والنفاق والوضاعة الشخصية التي أكدتها شخصيات سياسية أخرى في هذا البرنامج التي عبرت عن هلعها وقامت بحركات ضربت كل هيبة فيها فتبين مدى هشاشتها وبالتالي مدى كذبها على الناس واستقوائها بجرائها في حزبها..
من هنا يبدو البديل الدستوري مجرد ترجمة لهذا المضمون ولكن هل هو بترجمة فعلية؟ على كل يجب أن يُطرح للنقاش العام وأن يأخذ وقته، ولكن ربما هناك اليوم شبه أغلبية تـفضل النظام الرئاسي بديلا عن النظام الابرلماني والارئاسي الحالي. وبالتالي من الناحية الموضوعية هذا ما يمكن تمريره، بحيث يكون لرئيس الجمهورية المنتخب أن يعين رئيس الحكومة ويتدخل في تعيين الوزراء وفي ترؤس الحكومة متى ما شاء وفي تحديد أولوياتها وبرنامجها السياسي، وأن يكون له الحق في حل البرلمان لمرة واحدة في عهدته الرئاسية، ويكون للبرلمان دور المراقبة والمحاسبة للحكومة ودور التـشريع للقوانين والمصادقة على مشاريع القوانين الرئاسية والحكومية والاتـفاقـات الدولية من عدمه..
لكن لنعد، إلى "الشعب يريد".
الشعب لا يريد أحزابا تكذب عليه ولكنه بالمقابل يريد سياسيين صادقين يدافعون عنه وعن مصالحه وخيره العام. فالسلطة في النهاية هي عمل سياسي، والرغبة متمثلة في عمل سياسي صادق أي أخلاقي. الوفاء بالوعود والعمل على خدمة الشعب وجعل مصلحة الشعب هي الوحيدة. هنا إذن نحن أمام مقولة الشعب في كليتها وليس في جزئيتها، والكل يتمثل الكلي في مفهوم الشعب، حتى وان أسقط مفهومه الضيق على الشعب برمته، مثل شعار "الزعيم فلان ولد الشعب" بينما يرى الشعب "ولد الشعب هذا" يتابع مقابلة تنس في ملعب في دورة رولان غاروس وهي لعبة بورجوازية وأسعار تذاكرها لا يستهينها إلا البورجوازية وبالتالي واقعيا هو ابن جزء من الشعب وهو البورجوازية مع ادعائه انه يمثل الطبقة العاملة دون وجود عمال في حزبه أصلا وحتى إن وجدوا فهم مهمشون في الحزب، ثم يأتي ويقول انه الممثل الوحيد للشعب. فما الذي قام به في الحقيقة؟ لقد قام بإفشال أو قطع الطريق أمام التمثيل اليساري والاشتراكي للشعب..
وهنا بالنسبة لتحقيق "الشعب يريد"، والشعب في كليته، فانه ليس بالشعب كتمثيل مباشر وإنما الشعب كمنهج اقـتصادي سياسي عام يحقق البنية الممكنة للانتـقال بالشعب إلى الرفاه والخير. من خلال هذا المنظور لا يكون البرنامج إلا ثوريا، وهنا، فالمسألة في عمقها ليست صراعا ضد حزب أو أحزاب معينة أو الأحزاب في ذاتها، وإنما الصراع ضد نظام التبعية الاقـتصادية ونظام الاستغلال وبرامج الخصخصة والتـفريط في القطاع العام ومواصلة إنهاك البلاد بالانفتاح على الاستهلاك للسلع الأجنبية دون توازن مع الإنتاجية الوطنية.. هذه المواجهة هي الضرورية للانطلاق في تحقيق مقولة الشعب يريد.
ولكن، مع ذلك بل الأساسي كذلك، هو ما يـقدمه رئيس الجمهورية "قيس سعيد" من تواضع ورغبة في جعل السلطة خادمة للشعب، ورغبة في تـنـقية البلاد من الأوغاد والفاسدين، ورغبة في تطهير الحياة السياسية من أعداء الشعب وأعداء التاريخ وأعداء الله.
من هنا، فهل ستكون حكومة السيد "هشام المشيشي" فاعلة في هذا الاتجاه؟
من خلال تـشكيلة هذه الحكومة البيروقراطية يبدو أنها بعيدة كل البعد عن ذلك. ولكن، ربما تكون مثلما قال السيد "زياد كريشان" رئيس تحرير جريدة المغرب، أنها ستكون حكومة الهدنة. الهدنة وسط هذا الغليان العام. الهدنة لإنـقاذ ما يمكن إنـقاذه على المستوى الاقتصادي أساسا. حكومة الهدنة سياسيا مع فتح نقاش عام بين جميع الفاعلين السياسيين وبمشاركة منظمات المجتمع المدني وأهمها الاتحاد العام التونسي للشغل، واتحاد الأعراف، واتحاد الفلاحين، لأجل بناء تصورات يتـفق عليها الجميع. أي هدنة لأجل مرحلة سياسية واقتصادية جديدة تعقبها. حكومة الهدنة لتحييد الإدارة عن الأحزاب السياسية أي الحد من نفوذ بعض الأحزاب في الإدارة التونسية مما يستـتبع ذلك من عمل على تطوير الإدارة والعمل الإداري. إذن، فهي ربما حكومة الهدنة بما هي حكومة الضرورة بين جميع العناصر المتـنافرة لأجل الحفاظ على السلم الأهلي أولا ولأجل تحقيق القدر المطلوب حتى في المستوى الأدنى من معدلات التنمية الضرورية التي تخرجنا من كارثة الإفلاس الاقتصادي..
ولكن. هل تتطلب الازمة الهدنة ام المواجهة؟ وهل هذه الهدنة ستؤدي الى ولادة مرحلة جديدة أم أنها ستكرس الوضع القائم على التوازنات الهشة وعلى واقع المراوحة في نفس الدائرة المتأزمة، التي ستؤدي ربما إلى عكس ما يؤسس للسلم الاجتماعي؟
والحاصل الآن، أن حكومة جديدة باهتة تـنتـظر تـزكيتها من البرلمان، وفي صورة عدم تمريرها فستبقى حكومة الفخفاخ وهي حكومة المواجهة حتى وان كانت بصفتها كحكومة تصريف أعمال، الى غاية انتخابات برلمانية جديدة.. أي ان تونس هي بين الإقدام على المواجهة لمشاكلها وبين النكوص عن ذلك..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -