الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


والدتي وحقها في قبر في وطنها

نضال الصالح

2020 / 9 / 1
القضية الفلسطينية


لا أحب المكالمات الهاتفية في الصباح الباكر. عندما يرن الهاتف في الصباح الباكر، ينتابني شعور سيء. عادة ما تعني مثل هذه المكالمات الهاتفية أخبار مزعجة، خاصة من الوطن. كان هذا واحد منهم. عندما رن جرس الهاتف، رفعت سماعة الهاتف بيد مرتجفة واستمعت وقلبي ينبض بسرعة إلى صوت أخي.، "والدتنا أصيبت بسكتة دماغية وهي في غيبوبة، تعال في أسرع وقت ممكن!"
استقليت طائرة أردنية متجهة من مطار فيينا إلى عمان. خلال الرحلة التي استغرقت أربع ساعات، دارت الأفكار في رأسي وتكشف فيلم عن حياتي أمامي. دعوت الله أن يبقي والدتي على قيد الحياة حتى ألتقي بها وأقوم بوداعها. كانت والدتي تبلغ من العمر تسعين عامًا تقريبًا وكان بيننا رابطا خاصا. كانت علاقتنا تقوم على الصداقة أكثر من العلاقة المعروفة بين الابن والأم. لم تعترف بعمرها الحقيقي فلقد كانت تصغر سنا في كل مرة أزورها. في النهاية، بدأت أشك في أنها حتى هي نفسها لم تعد تعرف كم عمرها حقًا. أتذكر آخر مرة سألتها فيها، اعتمادًا على ما قالته عن عمرها أنه كان عليها أن تلدني في سن السادسة. قلت لها، "أمي، بهذا المعدل، بعد سنتين أو ثلاث سنكون في نفس العمر،" ضحكت وقالت ، "ألسنا كذلك ؟
لم تكن الحياة رحيمة بنا وكثيراً ما كانت تفرق بيننا. كنت شابًا متمردًا وأعارض الظلم والقمع. وهذا جعل والدتي في قلق مستمر. كثيرا ما كان عليها أن تنظر إلي بحزن والدموع تنهمر في عينيها عبر قضبان السجن. في وقت لاحق، وبسبب الاحتلال الإسرائيلي، أصبحت لاجئًا أبديًا ومهاجرًا في أراضٍ أجنبية. كأم فلسطينية، عاشت بنفسها معاناة شعبها وكانت إحدى ضحايا المأساة الفلسطينية. كانت هناك أوقاتا كان فيها اثنان من أبنائها وابنتها في السجن الإسرائيلي. لقد تم اغتيال العديد من أفراد عائلتها على يد المحتلين الإسرائيليين. الابن الأصغر اعتقل وتعرض للتعذيب في سجن إسرائيلي لأكثر من خمس سنوات. وبلغت معاناتها ذروتها عند مقتل ابنتها الكبرى على يد جنود الاحتلال. مقتل ابنتها الكبرى على يد المحتل الإسرائيلي كان صدمة رهيبة فلقد كانت أختي سندا لها، خاصة بعد وفاة والدي. بعد اغتيال أختي، تُركت والدتي وحيدة في نابلس في فلسطين المحتلة، فقرر أخوتي نقلها إلى عمان في الأردن حيث يعيش أخوتي الثلاثة وإحدى اخواتي.
كانت الساعة قد تخطت الثامنة مساء عندما هبطت الطائرة في مطار عمان. وعندما خرجت من المطار كانت الساعة قد تخطت العشرة مساء. اقترح أخي، الذي جاء لاستقبالي في المطار، أن نذهب إلى منزله وأن نقوم بزيارة والدتي في المستشفى في صباح اليوم التالي، ولكنني رفضت رفضا قاطعا وطلبت منه أن نذهب إلى المستشفى لزيارة والدتي. حاول أن يقنعني بتأجيل الزيارة إلى الصباح فرفضت. حاول إقناعي بأن الوقت متأخر وأن والدتي في غيبوبة ولن تعرفني أو تعرف أنني قمت بزيارتها، لكنني أصررت على الذهاب إلى المستشفى لرؤيتها على الفور.
ركبنا السيارة وتوجهنا مباشرة إلى المستشفى. في المستشفى حولونا إلى وحدة العناية المركزة حيث كانت والدتي ترقد. في العناية المركزة وضعت الممرضة على وجهي كمامة معقمة وأدخلتني إلى الغرفة التي كانت والدتي ترقد فيها ووقفت تراقب على بعد مترين أو أكثر. لم أتعرف على والدتي، رأيت أمامي مجموعة من الأجهزة والخراطيم والأنابيب فقط. لم أستطع أن أضبط نفسي فانفجرت في البكاء. وقفت امام السرير أبكي في هدوء. فجأة شعرت بثقل الأيام يسقط على كاهلي، طفولة مدمرة ، شباب مدمر ، فقدان للوطن. شعرت بالأسف على والدتي ونفسي واهلي وجميع أفراد شعبي الذين كان لهم نفس المصير. لقد تعبت من الرحلة الطويلة الأبدية التي لا تنتهي. أمسكت بيد أمي وهمست، " أه يا أمي! أنا ما زلت طفلك الذي يحتاج إليك. أريد أن أضمك وابكي في حضنك، أريد أن أشكو لك ألمي وضياعي، أنا مشتاق لحكاياتك " نام يا حبيبي نام وبدبحلك طير الحمام، يا حمامة لا تخافيش ، أنا بكذب لحتا إبني ينام ".
وقف أخي بجانبي وغمره حزني، أمسك بيدي وقال، "لنذهب إلى المنزل، يا أخي ، سنعود مرة أخرى غدًا." ولكنني رفضت أن أترك أمي وأنا ابنها البكر الذي ولدته تحت أزيز الرصاص أيام الثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الإنجليزي عام 1936 ، حتى أن رصاصة علقت في سريري في مستشفى الولادة فحفظها والدي وكتب عليها إسمي " نضال " لأنني ولدت في غمرة نضال الشعب الفلسطيني .
فجأة سمعت همسة „جئت؟ علمت أنك ستأتي" ،كانت هذه أجمل جملة سمعتها في حياتي. فتحت والدتي عينيها وابتسمت وقالت: " عرفت أنك ستأتي، لقد انتظرتك " . حضنتها وقبلت يديها ووجهها وأناملها وكل ما استطعت أن أصل إليه خلف الأجهزة الطبية. أسرعت الممرضة لاستدعاء الطبيب الذي جاء بسرعة ونظر إلى والدتي وهز رأسه وكرر، "إنها معجزة ، إنها معجزة".. بقينا نتسامر طويلا حتى طردني الطبيب قائلا، " أتركها ترتاح.
ذهبت وأخي إلى بيته، لكنني لم أستطع النوم طوال الليل ، كانت صورة والدتي موصولة بمجموعة من الخراطيم والأنابيب. تطاردني، ولكن ابتسامتها كانت كبلسم على الجرح، ولم أكن أعرف أذا ما كانت تلك الصور هي حلمً أم حقيقة.
في الصباح، اتصل المستشفى بنا ليخبرنا بأن والدتي كانت مستيقظة وتسأل عني، وتتساءل إن كنت فعلا قد زرتها وتحدثت معها أم أنه حلم. سارعنا وأخي إلى المستشفى، وعندما وصلنا إلى والدتنا، كانت جالسة ترحب بنا بابتسامة عريضة . تم تمشيطها وهي ترتدي رداء مختلفًا عما كانت عليه في المساء. قالت الممرضة: "لقد أعددناها قليلاً لمقابلتك". أمسكت بيدها وقبلتها ثم عانقتها وبدأت أقص عليها أخبارنا وهي تبتسم وتضغط على يدي. أخبرتها عن أحفادي وأبناء أحفادي وعن براتيسلافا وعن سلوفاكيا. كانت والدتي تحب سلوفاكيا وقريتنا. زارت سلوفاكيا عدة مرات وبعد كل زيارة قالت إنها تشعر وكأنها في منزلها هناك. عندما ذهبت في نزهة، دعاها الناس لتناول القهوة ولم تكن بحاجة إلى معرفة لغتهم لفهمهم. قالت: "إنهم مثلنا ، لديهم نفس المشاكل ويتمتعون بنفس الأفراح".
لا أعرف كم من الوقت جلست هناك مع والدتي وتحدثت معها. جاء بقية الأخوة كما جاءت أختي وجاء كثيرون ولكن لم يسمح بالدخول إلا لبناتها وأبناءها. كانت أختي تلاعب أمي قائلة: " لقد قمت من أجل حبيب القلب وليس من أجلنا. في اليوم التالي ، قرر الأطباء عدم ضرورة إبقاء والدتي في وحدة العناية المركزة ونقلوها إلى غرفة خاصة كبيرة. مر أسبوع وكان وضع والدتي الصحي في تحسن حتى أن الأطباء فكروا في الإفراج عنها إلى منزلها.
قضيت أيامًي في المستشفى. اشتكت أختي واشتكى إخوتي بروح الدعابة، من أن والدتي تفضلني على غيري من أولادها وبناتها وكانوا يقولون لها: "مرحبًا يا أمي ، نحن أطفالك أيضًا" ، وكانت تجيبهم هو ابني البكر وانتم تعيشون هنا أما هو فيعيش في الغربة وقليلا ما أراه. ثم اندلع نقاش حول عند من ستقيم والدتنا، وكان كل منهم يصر على تأتي لتعيش عنده. لكنها قررت العودة إلى بيت أخي الذي يصغرني بعشر سنين، فلقد كانت امرأته قريبة لها وتهتم بها كابنتها .
في الصباح، ذهبت أنا وأخي إلى المستشفى من أجل أن نحضر والدتي. لم تكن جالسة، لكنها كانت مستلقية وفي شبه غيبوبة. أخبرني الطبيب أن والدتي متعبة قليلا وأنهم سيبقونها في المستشفى للمراقبة ونصحنا بأن لا نزورها وأن ندعها ترتاح.
جلست بجانبها، ممسكًا بيدها وأهمس في أذنها بكلمات رقيقة. لا أعرف حتى ما إذا كانت والدتي لا تزال تسمعني، لأنها أغلقت عينيها وعادت إلى نوم عميق ، لم تعد تستيقظ منه. لكنني أعلم أنها كانت غائبة وعلى شفتيها ابتسامة سعيدة.
قبل أن تغلق عينيها، كان عليّ أن أعدها أنه عندما تموت ، سندفنها في بيتها في فلسطين بجانب والدي. أصرت على الوعد فوعدتها واضطررت إلى تكرار الوعد عدة مرات.
ثم غادرتنا أمي في صمت ، عادت روحها إلى خالقها. قال الأطباء إنها استيقظت من أجلي ، وأرادت أن تقول وداعًا لي ، فغادرت راضية بابتسامة الرضى على وجهها.
كأبناء مخلصين، أردنا تحقيق أمنيتها الأخيرة. لقد أعددنا الوثائق اللازمة لنقل رفاتها إلى مسقط رأسنا نابلس، حيث تم بالفعل إعداد قبر بجوار والدي. لكن لدهشتنا وجدنا أنهرغبتنا مستحيلة التحقيق وأن وعدي لوالدتي لن أستطيع تنفيذه. فحسب سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فقدت والدتي حق العودة إلى فلسطين لأنها تجاوزت فترة الإقامة المسموح بها خارج الأراضي المحتلة وبالتالي فقدت تصريح إقامتها في بلدها. أي فلسطيني يغادر الأراضي المحتلة ولا يعود في الموعد المحدد يفقد حق العودة. يختلف طول الفترة المسموح بها حسب مزاج السلطات الإسرائيلية.
والدتي لم تأت من روسيا أو بولندا أو الخزر. ولدت وعاشت في فلسطين، قبل وقت طويل من قيام دولة إسرائيل ، ومع ذلك حرمها الاحتلال الإسرائيلي من حقها في قبر في وطنها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استئناف مفاوضات -الفرصة الأخيرة- في القاهرة بشأن هدنة في غزة


.. التقرير السنوي لـ-مراسلون بلا حدود-: الإعلام يئن تحت وطأة ال




.. مصدر إسرائيلي: إسرائيل لا ترى أي مؤشر على تحقيق تقدم في مسار


.. الرئيس الصيني يلتقي نظيره الصربي في بلغراد ضمن جولة أوروبية




.. جدل بشأن هدف إنشاء اتحاد -القبائل العربية- في سيناء | #رادار