الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما يخبئه النص في جيب المكان لديوان - ثمّة قلق- عماد الحيدري

مؤيد عليوي

2020 / 9 / 1
الادب والفن


يتجاوز الشعر الازمنة والاماكن في لحظة انعتاقه عن المألوف ليغدو مرفأ الشاعر يفرغ فيه ما حملته روحه..، وديوان "ثمّة قلق" يجسد هذا المرفأ لقلق العراق، حينما يكون الشاعر ذاتا يعبر عن قلق المجتمع من خلال توظيفه المكان في النص، فالمكان أكثر الاشياء تعبيرا عن الأزمنة، المكان مطلق والزمان نسبي حتى في النص الشعري، فقد يكون حاضرا وقد يكون مستقبلا وقد يكون ماضيا وقد يكون لحظة شعرية ....،
ففي نص "ذكرى الصمت" من ديوان الحيدري "ثمة قلق "، والذي يبدأ بمثل غربي تحت جسد العنوان، بخطٍ صغير يكون خارج تغطية النص، إلا أن معنى المثل يفضي الى أزقة المدلول الشعري من خلال المكان فيه حيث المثل الغربي : ( لا تثق بحلاق أصلع لأنه لا يحترم شعْرَك) فالمكان هو دكان الحلاقة والحلاق الذي يتحكم بشعرك اصلع، وانت تجلس تحت يديه صامتا لا تحرك شيئا تنظر له في المرآة فقط، لأنك اخترتَ الجلوس تحت يدي حلاق اصلع، لتأتي أهمية المثل أو النصيحة فيه التي تحمل ثيمة القلق من خلال عدم الثقة التي تفضي الى عدم الثقة بالنظام السياسي وخضوع النظام الاجتماعي من خلال الحظة الشعرية زمانا منفلتا عن المألوف، في الذكريات التي تحاصر الحاضر والمستقبل في رؤيا خلّاقة شعريا لعماد الحيدري حين اختصر زمان الانتفاضات الشعبية العراقية ضد الانظمة الماضية التي حاولت تكميم الافواه، الى لحظة حاضرة ومستقبلية، خبأها النص في أماكنه المطلقة الثابتة من بنية المجتمع الواقعي: البيت وحجر الأم منه، الشوارع والمدرسة وكذلك في نهاية النص دكان الحلاق الاصلع، من خلال لغة اليوميات التي تشع بطاقة المفردة فـ(أن احازة اللغة وازاحتها عن طريقها في المجموعة الشعرية "ثمة قلق"، اديا الى معنى التخلخل والتفكيك داخل البنية المستعرة بأعلى طاقة من الايجاز والتكثيف العميقين للوصول الى اللحضوية التي يتوقف فيها نشاط القبل والبعد ليرسل لنا داخل وخارج النص ورغبته الملحة سير عنى الوضوح الفارغ أو الاستعمال المعجمي المنعزل ليرسم لنا رؤية محايثة للنص ومتماهية مع القارئ )-1-، فبعد تمهيد صغير يأخذ جسد النص ببداية تشبه الحكايات عن الماضي موظفا الشاعر الحيدري العبارة الازلية في الموروث الشفاهي :( كان يا ما كان) ملبسا صبغة الراوي على نص "ذكرى الصمت" وحكايته عن المدنية : (كان يا ما كان / المدينة الرصاص/ ونحن عراة / نهرول نحو مواسمنا العارية والشوارع لاهثة / تلملم ما تبقى من احلام النهار/ ها هنا كان النهر/ الذي غرقت فيه براءتنا/ ها هنا كان الجسر / الذي ما عبرته أمانينا/ والحقل الذي ضعنا بسنبله / حين كنا كبارا /.... ) في هذه الأماكن التي لا تجسد سوى الصمت والموت في آن واحد وهي من الذكريات، هذه الاماكن التي يختبئ في ماضيها الحاضر والمستقبل المتصل بها ذاتها وبالصمت ذاته ولكن بتفاصيل أكثر للمكان/ المدينة، حين ينتقل الشاعر الى الحاضر النصي :( ها هو الرصاص يضيعنا اليوم ) وقد جاء بعد هذا السطر الحاضر الواقع اليومي للحظة الشعرية التي تتجاوز الزمان وتفاصيله بطريقة الذكرى ( ها هو الرصاص يضيعنا اليوم/ بعد أن صرنا صغارا/ أماه .. اين دميتي ؟/ واين اخوتي ؟ ضاعوا أو ضاعت فرحتي ؟) فهذه اللحظة الشعرية تكررت في العراق عبر مرّ الانظمة داخل البيوت العراقية في جميع المدن منذ قرون طويلة على امتداد الدكتاتوريات تحت اسماء كثيرة، كما هي حاضرة اليوم عند أمهات شهداء الوطن في احتجاجات تشرين 2019 ، خاصة أنه اغلب الشهداء صغار السن؟!! ليكون حوار الأم مع ولدها السائل عن أخوته :( نم يا بني هاهنا / ولا تهيج ساكنا / فالحزن باق عندنا / (( ممنوع الكلام وأبد ما مقبول / لتزيد جروحي ونام يا المدلول / يبني يا لولد يبني دلللول )) فهذه المفردة الاخيرة اقصد (دلللول) هي اله الحفظ عند السومريين وهي مستعملة الى اليوم في الشعبي العراقي، لتمنح طاقتها المتفجرة من أن قلق الوجود واستمرار الحياة قديم في العراق مما يستدعي ذكر الهة الحفظ العراقية لحفظ الابناء من الشرور و منها الانظمة الحاكمة..، فالبيت وحجر الأم ها هنا كان يخبئ المعاني التي خارج البيت معاني( المدنية الرصاص)، ثم يكون الفصل في المعنى لدلالة على نوم الولد، ويأتي الوصل بمعنى جديد حين يقوم الولد من نومه لتكون تلك المعاني جديدة على الشعر في تعبيره عن صباح يوم جديد صادمة :( هكذا نبدأ الآخرة ) إلا أنها تناسب الخروج لشوارع (المدنية الرصاص) ،وهذه الصدمة تتصل بالتمهيد الصغير من النص، ليذكر الشاعر علاقة الناس بالشارع :( وننسل من اجداثنا مبكرين/ نركض وسط الشارع/ كانت تمدنا بالغواية / ونمدها الصبر / ونهجر ما كان يكبلنا كالقدر / ..) فحياة الناس هاهنا نضال ومجاهدة في الانعتاق من القيود والخروج عن النظام الاجتماعي( البيت) الصامت والساكت ومن خلال التمرد على المدرسة/ المكان التي تمثل بنية فوقية للأنظمة :(و نرغب عن بداياتنا / وعن معلمٍ / كان يرفع عصاه/ ويباغتنا / عصا ..عصا / ......) لينتهي النص بصباح جديد يشير الى الحاضر والماضي في الان ذاته في الاماكن ذاتها الثابتة والباقية فهي مطلق :( ونبدأ أخرتنا / بجني الرزايا / تمادي المنايا / خرق النواميس / تكبيل الاماني / ذلك لأننا ،/ سلمنا / رؤوسنا / الى/ حلاق / اصلع ) فهنا جلي انزياح المعنى عن المكان/ محل الحلاق الى النظام السياسي والاجتماعي .


وحتى لا نغادر المكان الشعري نستل الاحلام من قصيدة "ذكرى الصمت ":( والشوارع لاهثة / تلملم ما تبقى من احلام النهار ) لنرى تلك الاحلام في قصيدة " لوحة العاصفة" :( الاحلام كانت تتسلل خلسةً / لتبقى معلقة على شرفة الانتظار / حدثتني مرّة عن امتطاء لصهوة الموج/ احتفاءً بمَن وقف بوجه التيه /...) لنرى المكان/ الشرفة يخبئ معنى الاتصال بالحياة بجرأة فيها الوفاء لمَن وقف بوجه التيه أو الظلم وهو المعنى المراد، إذ(تمثل الشرفات مفاصل مكانية تباشر علاقة الفضاءات الداخلية مع الفضاء الخارجي، أذ يمكن لمَن يأوي الى الشرفة أن يتعامل مع ما حوله بطريقة أكثر وضوحا وتجددا، مِن أن يسترق النظر من خلال محض نافذة )-2-، فيما تستمر القصيدة النص في معاني تتوالد من حوار الشاعر مع الاحلام في الشرفة/ المكان...،
ثم نهاجر من البيوت والشرفات الى المكان الانساني بما يتصل بوجه الحبيبة او الصديقة، ليخبئ المكان هناك معاني الشكوى في نص "موعد للرحيل" ، وليكون البحر ونوارسه من الامكنة المستعارة للداخل النفسي للحبيبة بينما تكون شفاهها محطة لا تنصهر مع الشاعر..، وهكذا نجد المكان في اغلب نصوص الديوان التي تفيض بالقلق الوجودي العراقي/ المكان الوطن الذي يلملم وجودنا نحن الفقراء في هذا الكون الواسع، إلا أن ما يجلب الالتفات له مع ما تقدم، نص " ثمة قلق " النص الذي وشم الشاعرُ عماد الحيدري به ديوانه ليكون عنوانه، فالنص مكانيا بامتياز ويعبر عمّا تقدم من نصوص المكان، ويخبئ جدلية فلسفية جدلية الوجود العراقي بعمق وببعد انساني، جدلية في الصراع بين ما هو سماوي وما هو ارضي إذ يبدأ النص بـ( هناك / في أقصى القافلة / وفي الربوع المؤدية / الى أزقة الخراب) حيث الارضي الواضح من مفاهيم وقيم القبيلة التي تغزو المدن وأزقتها فتخربها، فيما كان السماوي :( وفوق غيمة الرعشة ،وهي تحاول المطر / وتزاول شيئا لا اعرفه) ولتكون الغيمة كناية عن السماوي الغيبي الذي لا يعرف بعضه الناس، في هذا التمهيد الصغير للجدل الوجودي بين هذا وذاك، الذي يتصل بالنص من خلال توظيف اسم الاشارة للمكان (هناك) ليحتل جزءا من النص في صراع الواقعي اليومي بين الحرب والسلام، أما الأماكن فهي وجه الحبيبة أو الصديقة، وحقل السنابل الموغلة في الطين، محطات المسافرين، الشرفات، وجميعها فيها قلق وألم تعبر عنه:(...هناك/ الشرفات/ وهي تحكل أوجاعها بالصبر /... هناك / حلم مؤخر / موت مقدم / ..) لينتهي النص بـ( هناك هناك / بعيدا عن وجه حبيبتي / قربيا من وجه الحرب/ ثمة قلق) ليكون مدلول النص برمته مرتبطا بتواشج مع مدلول كل نص في الديوان، من خلال الجدل الواقعي اليومي والصراع المتجسد في الذات الانسانية الشاعرة المعبرة عن المجتمع في المكان العراق الوطن، وليكون الديوان بهذه القلق المشروع، يطرح سؤالا مشروعا هو الآخر الى متى تستمر( المدينة الرصاص) و( أزقة الخراب) فيها؟؟ الى متى يستمر معنى ( بعيدا عن وجه حبيبتي / قربيا من وجه الحرب/ ثمّة قلق)؟؟؟!!!
.................................................
1 - "ثمة قلق "، عماد الحيدري، بغداد ، 2017 ، أول توطئة الديوان، كتابها حميد العبادي.
2- المكان العراقي وجدل الكتابة ، لؤي حمزة عباس ، بغداد ، 2009 ، ص : 92 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل