الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العدو الصديق وأزمة مياه الحسكة السورية

راتب شعبو

2020 / 9 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


عانى أهالي الحسكة في سورية، من أزمة متكررة في الحصول على مياه الشرب والاستعمالات المنزلية منذ أن سيطرت تركيا على منطقة رأس العين في تشرين الأول/أكتوبر 2019. غير أن الأزمة تفاقمت في الأسابيع الماضية (بدءاً من 13 أغسطس/آب 2020)، مع تبادل الاتهامات بالمسؤولية بين الجيش التركي وربيبه "الوطني" وبين الإدارة الذاتية، إلى أن وجدت الأزمة حلاً (وهو حل قلق بالتأكيد لأنه خاضع للتقلبات السياسية الكثيرة والسريعة) في الأيام الأخيرة بتواسط روسي، وفق صيغة الماء مقابل الكهرباء. فمن يسيطر على محطة علوك لضخ الماء "يعادي" من يسيطر على محطة مبروكة لضخ الكهرباء، وكالعادة تستخدم الحاجات الحيوية للناس في ممارسة العداء بين الأطراف المتصارعة.
ينبغي أن لا ننسى أن هذا يجري باسم قضايا كبرى (لا تقل عن حقوق الشعوب في الحرية والكرامة) يناضل من أجلها طرفان سوريان ويستنجد كل منهما، ضد الآخر، بكل السبل المتاحة. كما تنبغي ملاحظة أن النظام السوري (أصل الداء) بات في معمعة صراع هذين الطرفين السوريين طرفاً ثالثاً، يدخل في حل مشاكل كهذه عبر الوسيط الروسي.
من الراجح أن تفاقم أزمة الماء الأخيرة في الحسكة نجم عن سوء تقدير من جانب "الإدارة الذاتية" التي ظنت أنها تستطيع، بعد أن حفرت حوالي 50 بئراً في منطقة الحمة، الاستغناء عن محطة مياه علوك (المغذي الرئيسي لمدينة الحسكة وتل تمر، أي ما يقارب مليون نسمة)، وعليه قامت الإدارة بقطع الكهرباء عن منطقة رأس العين وتل أبيض فكان الرد بقطع المياه "لأن مضخات الماء لا تعمل بدون كهرباء" بحسب رواية المحتل التركي عن تفسير الأزمة المستجدة. قد تشكل هذه الرواية إجابة على السؤال المعلق: لماذا لم تقطع الماء بهذه الصورة طوال الأشهر الماضية من السيطرة التركية على رأس العين؟ صحيح أن موضوع المياه في الحسكة كان دائماً محل أزمات متكررة، ولكنها المرة الأولى التي تصل إلى هذا المستوى الذي هدد السكان بالعطش في المنطقة التي تسمى "أم الأنهار".
في هذه الحال التي تقطعت بها سورية فباتت المراكز الاقتصادية الحيوية في البلاد واقعة تحت سيطرة أطراف متعادية، صار لا بد من تحييد العداوات قليلاً للسماح بتدفق العلاقات الاقتصادية، أو لا بد من تحقيق تسويات سياسية لحل أبسط المتطلبات الاقتصادية للسكان المحكومين لهذه الأطراف. حتى بات من المألوف تدخل قوى خارجية عظمى لتحقيق تسوية ترضي هذا الطرف أو ذاك فيسمح للأهالي بالماء أو الكهرباء أو النفط أو القمح أو الخضار ..الخ، كما بات من المألوف أن يتوقف فتح معبر حدودي على قرار من مجلس الأمن الدولي.
البؤس العام الذي يعيشه السوريون في كل مكان وتحت كل السيطرات المتوفرة على الأرض السورية، لم يشكل أساساً لحملة سورية عامة توحد "البائسين" في وجه المسيطرين، حتى بعد أن تكشف لكل مبصر أن هؤلاء المسيطرين من طينة واحدة وأن وراء لغاتهم المتباينة يكمن لب واحد اسمه "السلطة". لا يزال السوريون يستسلمون لانقسامات سياسية فارغة المحتوى بين القوى العسكرية المسيطرة، ويقاومون قوة واقعهم الاقتصادي البائس الذي يدفعهم إلى التوحد.
الخارج أيضاً يتعامل مع الواقع السوري المفتت وفق المنظور نفسه الذي يوحد بين المسيطر المحلي والمحكوم. لم تعد سورية في نظر القوى الخارجية بلداً واحداً بل مناطق نفوذ متصارعة. لا تبدو أزمة المياه أو الكهرباء في الساحل مثلاً محل اهتمام طالما أنه لا يندرج في أسبابها المباشرة عدو ما، كي يزدهر الكلام عن جرائم الحرب وعن انعدام الأخلاق والانسانية ..الخ. وفي حين تصبح قضية المياه في الحسكة قضية عالمية (وهذا، على كل حال، مما يحسب للفاعلين في الإدارة الذاتية وللقائمين على الحملات الإعلامية) يكتب عنها ويتفاعل معها سياسيون وفنانون وكتاب، يعاني أهالي أدلب والمخيمات من شح الماء، ويبقى الأهالي في ريف الساحل السوري أسبوعين وثلاثة أسابيع دون ماء وبصورة متكررة، ويصبح سعر برميل الماء ألف ليرة سورية، هذا إذا توفر، مع العلم أن متوسط الراتب في هذه المناطق 60 ألف ليرة، دون أن يتحرك ساكن لا في الداخل ولا في الخارج. لا بد من توفر عدو خارجي لتوجيه النار، فيما يبدو العدو المحلي من أهل البيت ولظلمه طعم "المقاومة" لا طعم "الحسام المهند"، كما كان الحال في زمن الشاعر.
بعد أن تحطمت ثورة السوريين وورثتها سلطات أمر واقع بلا أي عمق سياسي وطني، لم يعد يكتسب التردي المعيشي معنى سياسياً في عيون السوريين إلا حين يندرج في أسبابه "عدو" ما، عندئذ فقط يمكن أن تتوحد الإرادات النخبوية والشعبية ضد العدو، سوى ذلك فإن البؤس الاقتصادي للأهالي يجري استيعابه على أنه جزء من "المقاومة" والنضال ضد "العدو" الذي يتحدد في كل منطقة بما يوافق "الصديق"، أي القوة المسيطرة. لا تزال سوق العداوة الخارجية رائجة، ولا يزال للعدو وظيفة امتصاص العداوة وتبرير أوساخ السلطة المحلية المسيطرة، ولا يزال العدو هو الصديق الأهم للسلطة المحلية المفروضة فرضاً على الأهالي.
على خلفية التدهور المعيشي الكبير للسوريين في كل مكان، ألا يمكن استلهام النجاح الذي تحققه حملات التواصل والحملات الإعلامية ضد عدوانات "العدو"، مثل حملة الحسكة عطشى، لشن حملات مستمرة توحد السوريين المحكومين في كل مكان، أو توحد على الأقل النخب السورية غير المنخرطة في مكنات السلطات المستجدة أو القديمة، ضد عدو مشترك مكون من سلطات الأمر الواقع في شتى مناطق سورية؟ هل بقي في سورية رأس مستقل يشك في أن لهذه السلطات طبيعة واحدة مكونة من فساد وتبعية سياسية وقمع و"عداء" للأهالي، الأهالي الذين يوحدهم البؤس الواقعي وتفرقهم أوهام تغذيها تعبئات سياسية متباينة ولكن مضمونها الوحيد هو "تعزيز السلطة القائمة وتأبيدها في أيدي أهل السلطة"؟ إلى متى تبقى الأوهام التي تفرق أقوى من الواقع الذي يجمع؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بسبب نقص الغاز، مصر تمدد فترات قطع التيار الكهربائي


.. الدكتور غسان أبو ستة: -منعي من الدخول إلى شنغن هو لمنع شهادت




.. الشرطة الأمريكية تفض اعتصام جامعة فرجينيا بالقوة وتعتقل عددا


.. توثيق جانب من الدمار الذي خلفه قصف الاحتلال في غزة




.. نازح يقيم منطقة ترفيهية للتخفيف من آثار الحرب على أطفال غزة