الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات عن عارف دليلة

منهل السراج

2006 / 7 / 3
حقوق الانسان


لن أتحدث بعد اليوم عن جرأته ولن أتحدث أبداً عن عدله. سأعترف بذنوبه التي ارتكبها حين حمل أسطوانة أوكسجين وراح يوقظ الناس من تخديرهم.

حين أصغيت لمحاضرته أنا غير المعنية بالإقتصاد وشؤون المال، وسرعان مايدرك رأسي الوجع من الحديث في الفساد وتضخمه تحت طاولات المسؤولين أوفوقها.. أقول حين تابعت تحليلاته وفضحه للممارسات التي حدثت خلال أكثر من ثلاثين سنة. عبارة واحدة راحت تتردد في داخلي:
هكذا إذن؟ هكذا إذن؟ كم ظُلمنا! كم ظُلم الناس جميعاً؟
كنت وبظني، كان معظم الناس في سوريا يحسون بالظلم والاستلاب وكل مافي معاجم اللغات من معان للبؤس. لكن إحساسنا به كان قدرياً وكأنه مصيرنا الذي لانستطيع التخلص منه، أو أنه حظ قليل يشملنا جميعاً ويجعل حياتنا متعثرة كل يوم في صباحنا ومسائنا.

ثانويتي التي كانت سنة أحداث حماه، تلك السنة الصاعقة التي لايمكن وصفها بكلمات، لذلك ساكتفي بالقول إنها أخذتني وأخذت جيلاً بكامله إلى اتجاهات عشوائية مجنونة. مازلنا نقف حائرين على عتبات الحياة:
ـ أي اتجاه علينا أن نسلك؟
ثم سنوات الهندسة الخمسة التي قضيتها، أودع صديقة ستترك الدراسة لأنه عليها أن تتخفّى. وأتجنب وأتفادى بحزن وألم، زميلاً، استدعي للتحقيق ثم رجع للدراسة، كي لاأحسب على جماعته، وألاقي من يباغتني في الثامنة صباحاً أمام باب الكلية ليأخذني إلى المجهول.
تخرجت وكثير من زملائنا معتقلين ولايوجد بادرة أمل بعودتهم لاستكمال الدراسة. هكذا كانت سنوات الجامعة. حين تتحدث الأجيال السابقة عن متع أيام الجامعة ومرحها، أقف مبهوتة، لأني فعلاً لاأتذكر منها إلا الخوف والحذر.
تخرجت وكلي أمل بالمعيدية وتكملة الدراسة. لكن وبينما كنت أهم بإعطاء أول درس لي في الكلية، فوجئت بمراقب الدوام يحمل قصاصة ورقة مكتوب عليها سطر واحد قصير فيه: تاريخ وساعة معينة، وقفت أنظر فيها دون استيعاب لمعناها، فوضح مشفقاً: استدعاء أمني.
وكانت النتيجة بعد تحقيقات واستدعاءات عديدة أني منعت من تكملة المعيدية لأني رفضت التعاون مع جهات الأمن الثلاث في كتابة تقارير بالطلاب والزملاء من المهندسين، بصراحة كلمة رفض غير دقيقة، أنا اعتذرت عن التعاون معهم واستغنيت عن حلم المعيدية.
اتجهت إلى الوظيفة المجبرة عليها والتي لاتمت لإختصاصي بأي صلة، سنوات خمسة فارغة من أي جدوى، الوظيفة قصة يطول شرحها. ولاأبالغ إذا قلت إني أكثر موظف سوري قبض رواتب خمس سنوات دون أن يؤدي عملاً حقيقياً. اللهم إلا اهتراء الأعصاب.
كان علي كل يوم الانتباه إلى عدم توريطي في رئاسة أو عضوية لجنة ما. لأنها بالضرورة مرتشية وفاسدة. ياإلهي.. لاأذكر أني مرة قابلت المدير إلا لأعتذر عن التوقيع على محضر التسليم النهائي، بعد أن أعاين النتائج وتكون السرقات والرشاوى واضحة لدرجة مضحكة.
يئست من العمل وتناسيت ضياع أحلام المعيدية، وجربت العودة للدراسة. انتسبت لمعهد التراث العلمي العربي الذي يدّعي أنه يعد باحثين في تاريخ العلوم، ولكن بعد جهاد سنتين، استبعدت أنا وخمسة طلاب لم ننل الرضى اللازم، ومنعت قسراً من متابعة دراستي فيه، ذلك لأني رُسّبت بمادة واحدة ترسيباً تعسفياً، في حين كانت علاماتي في بقية المواد بين الثمانين والتسعين. طبعاً، كان من الصعب عليهم تجنيد كل المدرسين لمساعدتهم في مهامهم الأمنية!!

أنبت نفسي كثيراً: علي أن أنجح في أمر ما. وإلا مامعنى حياتنا وهذه العقول في رؤوسنا؟ وعثرت على ضالتي: الأدب!
قلت لنفسي: تكتبين.. يعني لاتحتاجين أحداً، لالجان ولامحاسبين ولا وثائق.. هو بياض ورقة لطيف تشطبين عليه خيالاتك وأحلامك وذاكرتك. وبدأت بهمة متفائلة وانغمست في كتابة روايتي الأولى، كان المكان افتراضياً، والزمان يمتد إلى ألف عام، والنهر والحرب والأشخاص والبلاء والمصائب.. كلهم يصلحون لكل البلاد. وحين انتهيت منها، أحببت مثل كل الكتاب أن أنشر ماكتبت، طمعت في قول كلمتي للآخرين، ربما تنفع. هكذا فكرت. وأرسلتها لأخذ الموافقة الضرورية من وزارة الإعلام. وانتظرت ربما أربعة شهور، دون رد. حاولت معرفة النتيجة من وراء الكواليس كما يفعل الشعب السوري كله بلااستثناء. فجاءني الخبر اليقين: روايتك ممنوعة من النشر.
فشل جديد إذن. فشل في العمل، فشل في الدراسة، ثم فشل في الكتابة. كيف سأخبر أهلي وأقاربي وجيراني بالأمر؟ جارتنا كانت تحب المثل المصري وتردده علي:
ـ سبع صنايع والبخت ضايع.
وكنت دائماً أدفع عن نفسي التهمة:
ـ أنا أعمل ماعلي.
وكنت أحب أن أضيف:
ـ أعمل ماعلي وأكثر.
كان الأهل يفكرون أن هذا الظلم الذي يعيشونه، هو من قضاء الله وقدره. وكل من لايستسلم لهذا المقدّر والمكتوب مريب غريب.
طالت سيرة الانكسارات نعم، مع ذلك هي ليست أكثر من محاور رئيسية في واقع حياة كل سوري، أما التفاصيل فتحتاج صفحات أكثر بكثير.
هناك معاناة يومية بل لحظية، نراقب ما يحدث علينا وعلى من حولنا، ومانفتأ نثبت الكمامة على الفم وعلى أبسط طموحات الحياة.

كل هذا تداعى إلى رأسي وعارف دليلة ينزع هذه الكمامات ويزيد جرعة الأكسجين.
حين انتهى من تحليلاته. رأيت الظالم وعرفته. تأثير محاضرته تلك لاينسى وأظن أن كل من حضرها استيقظ بشكل ما.
لم تمض أيام قليلة إلا وسمعنا، أنهم زجوا به في الإنفرادية، هو وغيره ممن تجرؤوا على قول الحق.
الآن وبعد سنواته الست في السجن، أقول إلى صاحب قرار الاستمرار في سجنه. إن هذا الرجل مذنب برأيك، لأنه أيقظنا، وإذا أبى أن يعترف بذنبه هذا فأنا أعترف بدلاً عنه. لكن وطوال سنين سجنه هذه، ماذا فعلت أنا بيقظتي؟ حددت ظالمي؟ نعم، لكن حددته، في القلب. أليس أمراً صغيراً بل ومضحكا أمام ترسانة ظالمي؟
الآن أعترف عنه بذنبه، عله يحاكم عن جريمته وتكون سنين سجنه التي انقضت كافية للتكفير عن خطيئته في إيقاظنا!!.
جملة أخيرة مبتسرة ويائسة: أدعوك، ياصاحب القرار، منذ اللحظة أن تفك أسره. ولاتخش من يقظتنا، ففعلنا مازال جباناً وإيماننا ضعيفاً ويقتصر على القلب فقط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #أخبار_الصباح | مبادرة لتوزيع الخبز مجانا على النازحين في رف


.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال




.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي


.. المئات يتظاهرون في إسرائيل للمطالبة بإقالة نتنياهو ويؤكدون:




.. موجز أخبار السابعة مساءً - النمسا تعلن إلغاء قرار تجميد تموي